حوارات منهجية : التثبت في إصدارالأحكام واتخاذ المواقف
24 ذو القعدة 1430
علي الشايب

جرى بيني وبينه حوار غير مقصود في قضايا الدعوة والدعاة: ففاجأني بقوله: إن فلانا -( وسمى أحد المشايخ العلماء والدعاة الفضلاء ممن نذروا أنفسهم لتعليم الناس ونشر السنة)-إن مشايخنا قد حذرونا منه وقالوا لنا: إن منهجه غير صحيح، وعلى ذلك نحن نحذر منه تبعا لهؤلاء المشايخ لأنهم ثقات عندنا ولا يتكلمون إلا لمصلحة الدين والدعوة!! فقلت: سبحان الله ما هذا التسرع والعجلة في اتخاذ القرارات وبناء الأحكام! فأين التثبت والتبين من صحة الأخبار؟ وأين استصحاب براءة المسلم وصيانة عرضه ومراعاة حقه؟  بأي حقً تتبنى هذا القرار الخطير، المتضمن اتهام علماء الأمة ودعاتها الربانيين في دينهم والبراءة منهم ونشر قالة السوء عنهم!.

وأنت تعلم معنى الغيبة، والنميمة، وحرمة عرض المسلم!! وتزداد الحرمة وتعظم إذا كان هذا المسلم عالما أو داعية إلى الله؛ لأن الطعن فيه طعن في دعوته وعلمه وصد للناس عن سبيل الله التي يدعو إليها ويحض عليها. أليس من الواجب عليك في مثل هذا المقام الدفاع عن عرض أخيك المسلم وردّ الباطل عنه لتدخل في موعود الحديث الشريف ( من رد عن عرض أخيه المسلم رد الله النار عن وجهه يوم القيامة) أليس من الواجب عليك أن تقول لهذا النمام المغتاب: اتق الله فإن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وأن من ثبت إيمانه- وظهر من حاله السلامة بل الصلاح-بيقين لا يستباح عرضه إلا بيقين مثله؟ لماذا لم ترو له الحديث الذي في صحيح مسلم" كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله" وأن هذه أمور متلازمة فكما لا يجوز استباحة دمه وقتله ولا أخذ ماله إلا بحق فكذلك لا يستباح عرضه إلا بحق. فانظر متى يستباح الدم والمال؟ هل بالشبه الباطلة والوشايات الكاذبة والإشاعات المغرضة والكلام المرسل الذي لا يعلم قائله؟!  

وبأيّ ميزان جعلت مشايخك ثقاتا في كل ما يقولون وبقية المشايخ -الذين قد يفوقون مشايخك في العلم والعمل والبذل لنصرة الإسلام والدعوة إليه- محل تهمة وشبهة؟ أهو ميزان العدل والحق أم ميزان المطففين"الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون،وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون"؟. وما الضابط في ذلك هل هو الانتماء إلى الجماعة والمجموعة التي تنتمي إليها أم ضابط العلم والعمل؟ وهل إذا اختلف مشايخك كما هو الواقع –الآن- ما الفارق الذي تفرق به بين المصيب والمخطئ؟ أم تظل مضطربا مترددا؟ أم تختار بالتشهي والمزاج؟ أم أم أم....الخ

 ثم على فرض صحة ما تقول في الشيخ؛ فهل هذا القول موجب للبراءة والتحذير من شخص قد عرف بالعلم والعمل والاستقامة ونفع الأمة ؟ وهل هذا القول أو المأخذ هو من مسائل الأصول الواضحة التي لا تخفى على أحد شم رائحة العلم؟ ومن ثم لا يعذر من خالف فيها؟ أم هي مسائل ظنية غالبها لم يتحرر فيها محل النزاع ولم تتبين فيها موارد الخلاف؟!  أم لا يوجد خلاف أصلا وإنما هو خلاف مصطنع من بعض الحاسدين الذين تأخروا عن اللحاق بركب ذلك الشيخ وأن يبلغوا ما بلغ  فأرادوا التسلق إلى مكانه بمحاولة إسقاطه؟! وهيهات،فإن الله لايصلح عمل المفسدين،"ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" ولماذا لا يكون هذا من كلام الأقران الذي يطوى ولا يروى؟ أم أن المقصود هو إسقاط هذا الشيخ بأي وسيلة ولو كانت محرمة! أم أن الغاية تبرر الوسيلة عندكم بدليل أنكم لا تقيمون لعرض المسلم والعالم وزنا وتلقون التهم جزافا وأحيانًا البعض يتعمد الكذب والشهادة بغير علم (ستكتب شهادتهم ويسألون) وهذه أمور وقفت عليها بنفسي وأستطيع إقامة الحجة عليها.  وقد يكون غيري وقف على كثير منها أو سمعها، والمواقع الألكترونية تطفح بالكثير من ذلك،بل بعضها جل مادتها في مثالب الدعاة والعلماء المصلحين،تذكرنا بكتب المثالب في التاريخ!

وقلت له: أنت طالب علم وقد مضى عليك زمن طويل في طلب العلم، وعرفت من خلال  دراستك أن الأقوال والأفعال التي لم يؤيدها دليل من نص أو إجماع  أو قياس معتبر فلا قيمة لها، مهما كبر قائلها، ما لم تكن صادرة من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والقاعدة الفاصلة في ذلك "أقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها ما لم تكن إجماعا" خاصة لطالب علم يعرف الأدلة ووجوه الاستلال.

وقلت: ولا يحل لك تصديق كل قول، ومن باب أولى يحرم عليك بناء الأحكام على تلك الأقوال والدعاوى العارية عن البراهين والبيات. ولا يقبل منك قبول هذه الأقوال شرعا ولا عقلا؛ أما شرعاً؛ فلأنه يجب عليك طلب الدليل  والبينة على كل دعوى، إلا أن تكون مقلدا آخذا بقول الغير من غير دليل، لكن ليس للمقلد الاعتراض على من خالف مقلده (بفتح اللام) لعدم أهليته ووجود عارض الجهل، وواقع الحال أنك لست كذلك.

 ولوجوب التثبت فيما يبلغك من أخبار من ناحية أخرى والنصوص الموجبة لذلك لا تخفى عليك!.

ولا يقبل عقلاً؛ لأن الله عز وجل وهبك العقل وفضلك به على كثير ممن خلق تفضيلا لتميز به الحق من الباطل والصواب من الخطأ، والنافع من الضار، في أمور دينك ودنياك؛ ولتوطن نفسك على قبول الحق أنى كان مصدره، ورد الخطأ مهما عظم قائله. لا لتسلم عقلك لغيرك وتكون إمعة إن أحسن أحسنت وإن أساء أسأت معه!

وقلت: أنا أعلم أنك وغيرك لا تقبلون كثيرا من هذه اللوازم  ولا تلتز مونها ولا تسلمون أصلا أنكم كذلك، لكنها واقع حالكم ولازم قولكم، والإنسان قد ينفي بمقاله واقع حاله، بل هذا كثير لكن لا يقبل النفي المجرد الذي يخالف الواقع، فيحتاج الإنسان إلى التجرد من الهوى وحظ النفس، وأن يزن نفسه بميزان دقيق،لا تطفيف فيه ولا بخس، ويأطرها على الحق أطرا، من أي طريق ثبت وبانت معالمه، وعلى يد من كان، والعبرة بالحقائق والمعاني لا بالدعاوى والمباني.

ولا تلازم بين أن تحسن الظن بشيخك وبين أن تقلده وتصدقه في كل ما يقول من غير تثبت؛ لأن في ذلك اعتقاد مبطن للعصمة لهذا الشيخ، وقد تفوه البعض بأن فلانا معصوم في المنهج!! وهذا خطأ بين وقع بسبب التعصب المذموم للأشخاص، وهو خلاف مذهب أهل السنة وخلاف الإجماع!!.

              ومهما تكن عند امرئ من خليقة **** وإن خالها تخفى على الناس تعلم.   

ثم إنه عند التثبت منك  وسؤالك وسؤال شيخك -عن مصدر هذه الاتهامات- نجد أن مبلغكم من العلم قيل وقال! وسمعنا من فلان وحدثنا الثقة !! ولا تستطيعون التصريح باسم هذا الثقة-غالبا- حتى لا ينكشف أمره وتسبر حاله ويسأل فيتبين الأمر على حقيقته؛ ولأن هذا الثقة -في الغالب- مجهول الحال وقد يكون مجهول العين وقد يجمع بين الوصفين! وقد يكون نكرة في باب العلم والدعوة لا يعرف بشيء من ذلك، وإن من الغباء أن يتطاول الإنسان على الكبار محاولا إسقاطهم؛مظهرا النصح للأمة والحرص على مصلحة الدعوة، وقد علم القاصي والداني أن هؤلاء الذين يتهمهم أكثر منه علما وأثقب رأيا وأشد بلاء في القيام بالحق ونصرة أهله وأعظم نفعا للأمة ونصحا. ولا يستطيع هو وكثير من أمثاله من المجرحين بغير حق أن يقوموا مقام أولئك المشايخ ولا أن يسدوا مسدهم!.

                            أقلوا عليهم لا أبا لأ بيكمو*** من اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا

                                                    ***

                          الله يعرفهم أنصار دعوته *** والناس تعرفهم للخير أعوانا

ثم إن محاولة إسقاط أولئك الجبال صعب المنال؛ فإن الناس يعرفونهم بالعلم وحسن العمل ولا يعرفون الجراح، وليس لديه دليل يقتنع الناس به، وكلامه يخالف الواقع الذي شاهدوه وعلموه فكيف يصدق؟ ومن رابه شيء من ذلك وتثبت يجد الحق خلاف ما ذكر، فتنقلب الدعوى على المدعي فيصبح المدعي مطالبا بعد أن كان طالبا، ومتهما(بفتح الهاء) بعد أن كان متهما( بكسر الهاء) وقلب الدعوى على المدعي معروف في الشريعة، وهو مذهب الجمهور!.

كناطح صخرة يوما ليوهنها*** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل. 

ويبقى عدد من الناس ممن قل علمهم أو ضعفت عقولهم تنطلي عليهم تلك الشبهات فيصدقونها ويتبعون صاحبها ويتعصبون لها ويدعون إليها، ويسوء ظنهم بذلك الشيخ المحذر منه، فيحرموا علمه ونصحه، ويبوء المحذر بإثم تحذيره وصده عن سبيل الله،"ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها" وتلك سنة الله في خلقه أن الباطل- حتى الشرك بالله- له من يمجده ويدافع عنه ويسعى في نشره ( ولن تجد لسنة الله تبديلا).

ولذلك يشهد الواقع بأن كثيرا من تلك التحذيرات والدعوات تنقلب على أصحابها؛ وتنشب العداوات بينهم ويكثر التراشق بالأقوال وتبادل الاتهامات ببذيء الكلام وسيئ الألفاظ التي لم يتحل أصحابها بأدب القول وعفة اللسان عن اللغو بل والزور! والسبب أنهم اشتغلوا بعيوب الناس والتفتيش عن أخطائهم وتتبع العثرات وكشف المستور من العورات،-مع إحسان الظن بالنفس وادعاء صحة المنهج وسلامة المعتقد- فجعل الله بأسهم بينهم وصار كل فريق يشهر بالآخر ويسرد له قوائم طويلة من الاتهامات والشتائم! ويبادله الآخر بمثلها أو أكثر! وانظر إلى مواقع بعض من كانوا قبل أعوام قليلة يدا واحدة على من خالفهم، كيف تسلط بعضهم على بعض حتى كأنهم لم يلتقوا يوما واحدا على شيء!،والجزاء من جنس العمل،لأنهم انشغلوا بعيوب غيرهم عن عيوبهم فشغلهم الله بأنفسهم ، فضاعت الجهود، وتبددت الطاقات في تبادل الاتهامات والدفاع عن النفس،على حساب دعوة الملايين من الذين لم يعرفوا بعد الحق ولم يذوقوا حلاوة الإيمان ولا زالوا في ضلالة الشرك يعمهون، وفي ظلمات التيه حائرون!.فمن لهم؟ وقد انشغل هؤلاء الدعاة بأنفسهم، ومن يُعلّم الجاهلين من المسلمين وكثير منهم يجهل فرائض الأعيان التي لا يقوم الدين إلا بها؟ومن يصد هجمات المبطلين من المبتدعة من رافضة وصوفيين؟ومن يقارع أهل النفاق من الملاحدة والعلمانيين واللبرالييين؟...الخ

وأخيرا:

 انتهى مجلس الحوار وليس لمحدثي جواب سديد على تلك التساؤلات إلا محاولة إلقاء المسؤولية على مشايخه الذين حدثوه وعذره أنهم ثقات!!وقد انكشف له حقيقة ذلك التوثيق،وأنه ليس بشيء،ولايصح حجة ولا عذرا.  وربما يفكر فيما بينه وبين نفسه فيهتدي إلى جواب صحيح، أسأل الله الهداية والتوفيق لي وله ولجميع المسلمين، وإلى لقاء في حوار آخر قادم إن شاء الله والحمد لله رب العالمين.