الزوجة الناصحة .. والرؤية الناقصة !
24 رجب 1430
يحيى البوليني
كثيرا ما يعتبر بعض الرجال زوجته هي آخر من يطلب منه النصيحة لاعتقاده ضعف رأيها وعدم صلاحيتها وكفاءتها لنصحه , وهناك من لا يعتبرها أهلا للنقاش أو المحاورة فضلا عن طلب النصيحة , وقد يعتبر ذلك نوعا من الضعف حين يطلب مشورتها , وكثيرا ما يتدخل الموروث الشعبي من حكم وأمثال في ذلك  , بل يصل إلى الأمر بمخالفة رأيهن عمدا كمثل المثل الشعبي الخاطئ الذي يطلقه البعض " شاوروهن وخالفوهن " ويظنون خطأ أن تلك المقولة من السنة الشريفة .
 
ويقرر علماء الحديث أن هذا النص لا اصل له في السنة كما قال الشيخ الألباني رحمه الله وقد ضعفه السخاوي في المقاصد الحسنة والشوكاني في الفوائد
 

والسنة النبوية الشريفة على خلاف ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم , فما أكثر المواقف التي استشار فيها النبي إحدى زوجاته , ونتخير منها موقفا واحدا :

يذكر ابن كثير في البداية والنهاية عندما جاء الأمين جبريل إلى الرسول الكريم أول مرة عند غار حراء وخاف النبي على نفسه وعاد إلى خديجة رضي الله عنها " فدخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان أمرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم فقال نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ( البداية والنهاية )

وفي هذا الموقف لفتات مباركة للزوج من حياة النبي الكريم وللزوجة الناصحة الصالحة عند هذا الموقف خطوات نقتبسها من فعل وتصرف السيدة خديجة رضي الله عنها :

1-    يشعر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمام حدث ربما يغير حياته كلها وربما يعرضه إلى السخرية من الناس حين اعتقد انه مس من الجن وأكثر ما كان يبغضه النبي الكريم أن يقال عنه مجنون ولذلك كان يشعر النبي انه أمام موقف شديد في حياته , فكان أول مكان يخطر بباله , أن يعود إلى بيته حيث المأوى والسكن والطمأنينة , فلم يفكر في الذهاب إلى أي مكان , ولا إلى أي إنسان , وهكذا المسلم لابد وان يعتبر بيته مأواه وسكنه وملاذه عند وقوع الملمات لا أن يفزع إلى مكان آخر ولا إلى مأوى آخر

2-    هناك ثمة فارق جوهري بين علاقة المرء بزوجته وعلاقته بغيرها من الناس ,  فالإنسان ينكشف أمام زوجته بكل مزاياه وعيوبه ولا يتحرج أن يبدي أمامها عورات شخصيته , فيظهر بين يدي زوجته كما هو بلا رتوش أو محسنات , وحينما يكون أمام أي إنسان آخر مهما بلغت علاقتهما محتفظا بقدر متانة علاقتهما , ولكنه حتما سيظل هناك قدر معين من الفواصل بينهما ولا يستطيع أن يظهر بكل دواخل نفسه , ولا عجب فهذا من الأسرار الإلهية في حكمة الزواج
 
3-     عدم المعاتبة أو اللوم في هذا الوقت :
في هذا الوقت عند لحظة ضعف الزوج وعند طلبه مشورتها لا ينبغي المعاتبة ولا اللوم ولا التقريع إذ أنه لا يحتاج إليه الآن عند وقوع تلك الأزمة فما كان أسهل على السيدة خديجة - كأي زوجة - أن تلقي باللوم علي زوجها صلى الله عليه وسلم لاختياره الانفراد بنفسه في مكان موحش من الجبل ليلا وهو مكان يرتع فيه الجن
ولهذا فمن جاءها زوجها يشكو لها خسارة مالية أو طعنة غدر من صديق أو فشل وإحباط , فلا تبادره باللوم لسوء اختياره ولا لتقصيره ولا تذكره بسابق نصيحتها له في هذا الشأن , ولا تسكت عن قول ذلك أيضا ولكن ليس كل ما يصح قوله قد حضر وقته وأوانه  
4-    التطمين والتذكير بسعة رحمة الله وقرب تفريج الله للكروب بحسن سابق العمل حتى قبل أن تسمع تفاصيل المشكلة أو الضائقة حتى يتشجع على الاستمرار في الحديث معها وبثها شكواه ومعاناته , فحينما قالت " والله لا يخزيك الله أبدا " : قالتها مُطَمئنة له وأقسمت عليها وهي لا تعلم ما في علم الله , واستدلت عليها بحسن أخلاقه وسابقة خيره للناس , والله عز وجل يكافئ المعروف بالمعروف , فكيف يخزي من يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق .
وهذا ما كان يحتاجه النبي الكريم في ذلك الوقت , وهذا ما يحتاج كل زوج يأتي إلى بيته حزينا مكروبا مهموما يلقي بهمومه على شاطئ أمانه
5-    إن أي فعل بخلاف ما فعلته السيدة خديجة كاتخاذ ردود أفعال حمقاء من الزوجة سوف يذهب بالرجل خارج بيته وسوف يبحث لنفسه عن شاطئ أمان آخر , وستكون الزوجة مسئولة كلية عن عزوف زوجها عنها في لحظات ضعفه ولن يكررها مرة ثانية , وستضع الزوجة بنفسها حدا لانكشاف الزوج أمامها فلا يصارحها بمشاكله وهمومه لمعرفته بردود أفعالها وعدم ضبطها لمشاعرها في ذلك الوقت وسيعاملها زوجها معاملة الغرباء الذين يجب أن يتجمل ويتأنق لهم ولا يظهر لهم ما في نفسه .
6-    بعد فترة التطمين والأمان تأتي مرحلة البحث عن الحلول الجذرية ومناقشة المشكلة بهدوء في أسبابها ونتائجها وكيفية التخلص منها – بحسب قدرة الزوجة فليست كل النساء خديجة – وقد يتولى ذلك الزوج بنفسه بعد أن يتجاوزا معا اللحظة الأولى  
اقترحت خديجة أن يذهبا معا إلى ابن عمها ليحددا معا هل الذي رآه النبي مسا من الجن فيطلب له علاجه أو ملكا من السماء , ولكل حادث منهما حديث
واستمع ورقة بن نوفل ثم حكم بأن الذي رآه محمد صلى الله عليه وسلم هو الناموس الأكبر الذي كان يتنزل على موسى فاستبشر النبي واستبشرت خديجة وزال الهم من صدر النبي صلى الله عليه وسلم  
7-    لابد للزوجة الناصحة عند مساعدتها لزوجها أو عند شكوى الزوج لها أن تحيط الأمر كله بسياج من السرية فلا يطلع عليه احد , فالزوجة الناصحة لا يسرها أن تظهر عورات زوجها للناس أو تفضح عيوبه لأنهما كيان واحد لا تنفك عراه , وإن أي انتقاص من شأن أحدهما لا يرفع من قدر الآخر  
ولهذا حين اختارت خديجة من تعرض عليه الأمر لمعرفة رأيه اختارت رجلا من بني عمومتها , وهو بطبيعة القرابة حريص على سرها ساتر له ,  وحينما كلمته لم تقل له اسمع من زوجي ولا اسمع من محمد بل قالت له اسمع من ابن أخيك مذكرة له بقرابته وحقه عليه ووجوب حفظ سره .  
وعند اختيارها لورقة حرصت على أن يكون ذا كفاءة لعرض الأمر عليه فلم تكن قرابته لهما فقط هي مؤهله الوحيد , فقد كان رجلا شيخا كبيرا عاش الحياة وخبرها وتزود من معارفها ونال من حكمتها وتعلم العلم وكتب الكتاب بيديه , فكان أقدر على الحكم الصحيح والقرار الصائب .
8-    على الزوجة ألا تذكر زوجها بموقفها هذا بعد ذلك لأن ما فعلته كان من واجبها كزوجة تطلب رضا الله في علاقتها بزوجها , ولأن ذلك يعتبر من المن المحبط للعمل وينبغي أن تحتسب فيه أجرها عند الله سبحانه فهو القادر وحده على مكافئتها حقها 
9-     الرجل دائما وأبدا كموج هادر متتابع لا يقر له قرار , ويحتاج دوما إلى شاطئ أمان يسكن إليه وتهدا جوانحه وجوارحه عنده , يستوعبه ويطمئنه ويقويه ويشد من عزمه , إن نسي ذكره وان ذكر أعانه وإن خارت قواه عن مواصلة السير دفعه برفق نحو إعادة الكرة مرة أخرى , وان تسلل له الإحباط والشعور بالألم ذكره بسعة رحمة الله وذكره بسابق أيامه الحسنة حتى يعود ويقود السفينة مرة أخرى  
هذا الشاطئ الذي لا ينفك الرجل عن الحاجة إليه هو الزوجة الصالحة الناصحة , ولهذا لا نتعجب حين سمي العام الذي توفيت فيه خديجة بعام الحزن