مواجهة تأثير الإعلام العربي على الأسرة والمجتمع 1\2
20 جمادى الأول 1430
د. محمد البشر

مقـدمة :

   الحمد لله العلي الأعلى ، الذي خلق فسوّى ، والذي قدّر فهدى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وعلى آله وصحبه ومن تبع السنّة واقتفى ، وبعد :

   في منتصف الثمانينات الميلادية من القرن المنصرم ، أي قبل اثنين وعشرين عاماً ، كان الطلبة السعوديون وبعض الطلبة العرب المبتعثون إلى الولايات المتحدة في تخصصات الإعلام المختلفة يختارون موضوعات لبحوثهم تتناول ظواهر التأثير السلبي للقنوات التلفزيونية التي تبث برامجها عبر ما يسمى بـ( الكيبل ) . كان ذلك يحدث كثيراً أثناء دراستهم اللغة الإنجليزية قبل التحاقهم بالجامعات. يكتبون عن تأثير برامج العنف على الأطفال ، أو تأثير مشاهد الجنس على أخلاق الناشئة ، أو انعكاسات الجريمة على سلوك المراهقين ، أو غير ذلك من موضوعات تستهوي الطالب السعودي والعربي المبتعث إلى بلاد يقتطع فيها التلفزيون وبرامجه جزءاً كبيراً من وقت المشاهد.

 اختيار المبتعثين لمثل هذه الموضوعات في السنوات الأولى من الابتعاث له سببان:

الأول : التعبير عن استيائهمواستهجانهملتفشي مظاهر التأثير السلبي للبرامج التلفزيونيّة بشكل ملحوظ على سلوك أفراد المجتمعات الغربية ، وخاصة الناشئة منهم . ويرجع ذلك إلى اهتمام مالكي القنوات التلفزيونية بالوظيفة الترفيهية على حساب الوظائف الأخرى لوسائل الإعلام ، مثل التعليم، والتثقيف ، والتوجيه ، وغيرها . هذه الوظيفة الترفيهية اتخذت من مشاهد العنف أو الجنس ( بكل أشكاله ومستوياته ) محوراً رئيساً في البرامج التي تخدمها ، وهو ما يظنونه ( وهو صحيح في تلك المجتمعات ) عامل جذب للجمهور والمعلن.

الثاني : أن مثل تلك الظواهر السلبية كانت جديدة على الطلبة السعوديين والعرب ، الذين لم تعرف بلادهم في ذلك الوقت البث المباشر ، وانتشار القنوات التلفزيونية الفضائية كما هو حال الفضاء العربي اليوم.

   بعد ما يقارب ربع قرن من الزمان ، شهدت المجتمعات العربية تحولات كبيرة تقودها وسائل الإعلام الفضائية . وما كتب عنه الطلبة السعوديون أصبح حقيقة معاشة في مجتمعهم . فالقنوات الفضائية العربية ، وبخاصة في السنوات القليلة الماضية ، باتت تتنافس في تقديم الفجور والفساد الأخلاقي للجمهور ، عن طريق البرامج المستوردة والمدبلجة ، أو من خلال المشاهد ( المحلية الصنع ) المتضمنة لمظاهر الانحطاط الأخلاقي أو المعبرة عن السلوكيات الشاذة عن قيم المجتمعات العربية بعامة والمجتمع السعودي على وجه الخصوص. كل ذلك يتم بهدف جذب الجمهور ومن ثمّ الكسب المادي عن طريق  الإعلانات التجارية ، حتى ولو كانت مخلة بالذوق وآداب المهنة .

 

   من أجل ذلك كان موضوع تأثير الإعلام الربحي غير الهادف على قيم الأسرة المسلمة وأخلاق الناشئة مصدر اهتمام وقلق للمصلحين في المجتمعات المسلمة عامة ، والمجتمع السعودي على وجه الخصوص ، الذين بحثوا وكتبوا ونصحوا من أجل ( التقليل ) من مخاطر هذا الإعلام وبيان تأثيره على الفرد والأسرة والمجتمع .

 

 هذا البحث هو إسهام فيما كُتب عن هذا الموضوع ، بيد أنه يحاول تحديد الأطر العامة التي تساعد على مواجهة هذا المد الإعلامي الهادر وغير المنضبط لإيقافه ، أو تقنين عمله ، أو محاسبته . ولتحقيق الهدف الأساس من البحث فقد تم تقسيمه الى مقدمة ومبحثين وخاتمة . يتناول المبحث الأول أهمية الموضوع ، والهدف منه ، والنطاق الجغرافي له. والمبحث الثاني يستعرض المحاور الأربعة للتصور العملي المقترح لمواجهة التأثير الإعلامي على الأسرة والمجتمع .

   أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا جميعاً خالصةً لوجهه ، وأن ينفع بأعمال هذه الندوة المباركة ، وأن يحفظ لنا ديننا ، ويعصم بلادنا وبلاد المسلمين من الفتن والشرور ، والله وحده المستعان .
 
  
 
المبحث الأول
التأسيس المنهجي
 
 
أهميـة الموضوع :

 إن مما يدعو للأسى أن الغرب الذي آمن بـ ( سوق الأفكار الحرة ) هو الذي بادر في نقض هذه الفكرة ، واتخذ خطوات إجرائية عمليةفي حماية المجتمع والجماعات والأفراد من مضامين الإعلام غير الهادف الذي يُقوّض بنيان المجتمع ويهدد قيمه الثقافية والإجتماعية. ومن أهم ما اشتهر في ذلك وكان له تأثير على عمل وسائل الإعلام ، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ، ما قام به هنري لوس Henry R. Luce  - صاحب شركة التايم - بترجمة هذا الوعي والاهتمام بخطورة وسائل الإعلام على المجتمع إلى برنامج عملي عندما موّل دراسة أجراها البروفيسور روبرت هوتشنز Robert Hutchins- رئيس جامعة شيكاغو - هدفت إلى التعرف على مضامين الإعلام وتأثيرها على مستقبل الحرية الإعلامية  ، وذلك في عام 1942. أمر هوتشنز على الفور بتشكيل لجنة من عشرة أساتذة جامعيين ، كان من بينهم مساعد وزير خارجية سابق، وعرفت هذه اللجنة باسم: (لجنة هوتشنز). كانت مهمة هذه اللجنة مساعدة هوتشنز في تنفيذ هذه الدراسة، وفي عام 1947م أصدرت اللجنة تقريراً كان عنوانه: (صحافة حرة ومسؤولة)[1].

وجدير بالذكر أن المصطلح المعروف الآن باسم: (المسؤولية الاجتماعية للصحافة) الذي تبلور فيما بعد لم يذكر بهذا النص في التقرير الذي أصدرته اللجنة، لكنه ورد - فيما بعد - في كتابات أستاذ الصحافة المشهور ثيودور بيترسون  PetersonTheodorوكان من النتائج التي توصلت إليها اللجنة [2]: أن وسائل الإعلام أصبحت ترتكب ممارسات يرفضها المجتمع مما يحتم عليها - إن هي استمرت في ذلك - أن تخضع لقوانين معينة تضبط هذه الممارسات الخاطئة.

وقد تأثر الخطاب الإعلامي في الولايات المتحدة بتقرير اللجنة والنتائج التي توصلت إليها[3]. وكان من مؤيدي هذا التوجه الإعلامي الجديد ثيودور بيترسون حيث كتب عام 1956م عن جوهر نظرية المسؤولية الاجتماعية، وقال: «إن الحرية تحمل معها المسؤولية، وأن الصحافة التي تحظى بمكانة متميزة عند الحكومة الأمريكية لابد أن تكون مسؤولة عن المجتمع وأن تحقق الوظائف الرئيسية التي يؤديها الإعلام في المجتمع الحديث»[4].

جاءت نظرية المسؤولية الاجتماعية في الإعلام الغربي لتعزز مفهوم الحرية الإعلامية، ولكنها حملت معها فكرة الحرية المسؤولة وليست الحرية المطلقة، ولذلك فإن مبادئ هذه النظرية المتناثرة في كتب المتأخرين حاولت أن تجعل من وظائف وسائل الإعلام  المحافظة على قيم المجتمع ، وأن تكون ناقلة لهذه القيم من جيل إلى جيل، باعتبار الإعلام أداة تعليمية ووسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعية [5].
 
الهدف من الموضوع :

   ليس من شأن هذا البحث الحديث عن تأثير وسائل الإعلام العربية على قيم الأسرة والمجتمع ، وبيان أوجه هذا التأثير ، فالحديث عن ذلك قد اشتهر ، وهو معلوم لدى آحاد الناس والرأي العام ، فضلاً عن المتخصصين . ولذلك فإن موضوع البحث وهدفه اقتراح بادرة عملية وخطوات إجرائية لمواجهة تأثير هذا الإعلام على المجتمع . وتأسيساً على هذا الهدف ، فإن المقترح العلمي يرتكز على محاور أربعة : المحور السياسي ، والمحور الشرعي ، والمحور القانوني ، والمحور المجتمعي . وتندرج تحت كل واحد من هذه المحاور مجموعة من الخطوات العملية ذات العلاقة بطبيعته واختصاصه.

 

النطاق الجغرافي للموضوع :
   قد يكون من الصعوبة بمكان الحديث عن كيفية مواجهة مضامين الإعلام في كل المجتمعات العربية ، ذلك أن هذه المجتمعات تختلف في مرجعيتها السياسية ومصادرها القانونية التي يمكن أن تُبنى عليها إستراتيجية المواجهة . وقد رأى الباحث قصر الحديث المجتمع على السعودي بوصفه المجتمع الذي تنطلق منه إستراتيجية العمل المنظم لمواجهة الأثر السلبي لوسائل الإعلام وذلك للاعتبارات التالية :
1-              أنه مجتمع تحكمه الشريعة الإسلامية ، ونظامه السياسي والأنظمة المهيمنة عليه مستمدة من الإسلام.
2-              أنه مجتمع متدين ومحافظ ، قياساً بالمجتمعات العربية والإسلامية الأخرى.
3-     أن أكثر القنوات الفضائية العربية انتشاراً وتأثيراً على الجمهور العربي تعود ملكيتها إلى رجال أعمال سعوديين . فشبكة تلفزيون الشرق الأوسط بقنواتها التلفزيونية والإذاعية المتعددة ، ومجموعة ( روتانا ) ، وقناة LBC ، والمستقبل ، وشبكة تلفزيون ART ، وغيرها من المؤسسات الإعلامية المؤثرة في الوطن العربي مملوكة من رجال الأعمال السعوديين المستثمرين في مجال الإعلام والبث الفضائي.
 
 
 
 
المبحث الثاني
محاور التصور العملي لمواجهة التأثير الإعلامي
 

   يستعرض هذا المبحث المحاور الأربعة التي يرتكز عليها البحث في تصوره المقترح لمواجهة التأثيرات السلبية لوسائل الإعلام على المجتمع المستهدف في هذا البحث ، وهو المجتمع السعودي بوصفه عينة مقصودة تكون نموذجاً يمكن تطبيقه على باقي المجتمعات العربية . المحاور الأربعة هي : المحور السياسي ، والمحور الشرعي ، والمحور القانوني ، والمحور المجتمعي .

 

أولاً : المحور السياسي

    لا يعاني المجتمع السعودي من الفصام بين دستوره ومعتقده . فشريعة الإسلام هي الضابطة لعقيدة الأمة السعودية في كل مجالات حياتها . ومبادئ الإسلام هي الأصول الكلية التي قامت عليها الدولة السعودية ، وتطبيق هذه الأصول تمثل في التزام المنهج الصحيح في العقيدة والفقه والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.[6] وقد جاء النظام السياسي للحكم في السعودية مؤكداً على هذا المنهج[7]، وانبثقت منه سياسات الدولة المختلفة ونظمها وقوانينها ، ومنها السياسة الإعلامية.[8]

   ومن العقل وفقه الواقع القول أن هذا المنهج الذي التزم به المجتمع السعودي قيادة وشعباً منذ تأسيس الدولة السعودية حتى وقتنا الحاضر يواجه تحديات خارجية كبيرة منذ ظهوره. وكلما تداخلت الثقافات وتقاربت المسافات ، وزاد انفتاح المجتمع على غيره من المجتمعات المغايرة له في الدين والمتباينة معه في القيم الثقافية والسلوكيات الاجتماعية عبر منافذ التقنية المتعددة ، كلما اشتدت الحاجة إلى الجهود التي تحمي دين الدولة وتحفظ نسيجها الاجتماعي.

   ومن أهم وأعظم التحديات التي يواجهها المنهج والتي هي من مسؤولية ولاة الأمر في المجتمع هي مضامين الإعلام الفضائي العربي التي تهدد أمن المجتمع وسلامة بنيانه ، وبخاصة تلك المضامين التي تنتهك حرمات الدين ، وتهزأ بقيم المجتمع ، وتنشر الفساد الأخلاقي والسلوكي بين أفراده.

   هذا التحدي للمنهج الذي تأسست عليه الدولة ، وتربى عليه المواطن والمقيم في هذه البلاد يحتاج إلى جهود القيادة السياسية لمواجهته ، ومسؤوليتها في ذلك ناجزة لا تحتمل التسويف أو التأخير . فالساسة عليهم واجب الأخذ بكل أسباب تكثير الخير وفتح أبوابه ، وتقليل الشر وسدّ منافذه ، وقد وفقوا في ذلك أيما توفيق – ولله الحمد – في التصدي للفكر المغذي للغلو في الدين ، وتضييق الخناق عليه بتتبع مصادره الإعلامية عبر وسائل إعلامه ومواقعه الالكترونية . والإرهاب الثقافي والإعلامي المضاد للدين ، الداعي إلى الانحلال والفجور الأخلاقي لا يقل خطورة عن ذلك ، وكلا الأمرين تطرف يعاني منه المنهج ، ومآثره مذمومة على المجتمع .

   ومن أسباب تقليل الشر الإعلامي وسد منافذه التي يُعوّل على الساسة الأخذ بها – باعتبار سلطتهم التنفيذية – ما يلي :

1- المساءلة الدورية لمالكي القنوات الفضائية والقائمين عليها ، وتخشين القول لهم ، والتلويح بالتضييق على نشاط مكاتبهم ومراسليهم في المملكة ، ووضع الشروط الصارمة على نشاطهم ومعاملاتهم التجارية.
2- استدعاء المعلنين في هذه القنوات من رجال الأعمال ، وتذكيرهم بأن إعلاناتهم في برامج معينة في هذه القنوات هو تشجيع لها على الاستمرار في بث الفساد وتوسيع دائرة انتشاره . فالمعلن هو المغذي الحقيقي للقناة ، والتلويح لهؤلاء المعلنين بتعقّبهم ، والتضييق على تجارتهم ، وإيقاع العقوبة عليهم باعتبارهم شركاء مؤثرون في الترويج للرذيلة والتسويق لها عبر دعمهم المادي لهذا النوع من البرامج الفضائية التي تنشر الرذيلة وتمكن لها [9] من شأنه أن يقطع المدد الاقتصادي على المؤسسات الإعلامية التي تتجاوز ما اصطلح عليه بـ " السمت العام للمجتمع ".
 
ثانياً : المحور الشرعي
1-              دور العلماء :

لايزال للعلماء الشرعيين مكانتهم السامية في المجتمع ، فهم أهل الكلمة العليا ، وهم المؤثرون في الناس ، وهم قادة الإصلاح الديني والاجتماعي الذين يتصدرون للقضايا الكبرى ويقولون فيها كلمتهم الفصل . والفتاوى التي تصدر منهم يرجع إليها الناس ويحتكمون إليها في شؤون حياتهم ، لأنهم الموقّعون عن رب العالمين . ولئن تألق العلماء في القيام بهذه الوظيفة في العقائد والمعاملات والأخلاق ، إلا أن هناك جانباً من هذه الوظيفة لا يزال يحتاج إلى كلمة العلماء فيه ، وبيان حكم الشرع في شأنه ، وهو جانب ما ينشر في القنوات الفضائية من تطاول على المقدس الديني ، وتجاوز للثوابت،وانتهاك للقيم والأعراف الاجتماعية ، وإشاعة الفاحشة في المجتمعات الإسلامية .

   هذه الوظيفة التي هي من واجب علماء الشريعة ومن مسؤوليتهم التضامنية مع القيادة السياسية ومؤسسات المجتمع قد اعتراها نوع من التردد في بيان الحكم الشرعي فيها ، وهذا تراجع لا ننتظره من العلماء ولا نأمله منهم . وأياً كانت مسوغات التوقف أو التردد عن الحديث فيه فإن الظاهرة قد استشرت ، وعمَّ بلاؤها ، وظهر خطر أثرها ، فلا يجوز السكوت عنها.

   وقد عدَّّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك المسلم الإدلاء برأيه فيما يرى أنه الحق أمراً محتقراً.[10] فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يحقرنَّ أحدكم نفسه ، قالوا : يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه ، قال يرى أنه عليه مقالاً ثم لا يقول به ، فيقول الله عز وجل يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى" [11] ، هذا في شأن آحاد الناس ، فكيف بالعلماء الذين أخذ الله عليهم الميثاق بأن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه .

   وقد ظهر تأثير صدع العلماء بكلمة الحق في شأن المؤسسات الإعلامية التي تروج للفجور والرذيلة في مجتمعات المسلمين ، واتضح تأثير مواقفهم على مالكي القنوات الفضائية والرأي العام والجمهور على حدِّ سواء ، عندما بيَّن سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رأيه في هذا النوع من القنوات[12]، فتلقى المجتمع هذا الرأي بارتياح ، وشعر الناس بمكانة العلماء وتأثيرهم في القضايا الكبرى ذات المساس المباشر بحياتهم الدينية والاجتماعية.

 2 – دور الدعاة :

   المتتبع لمسيرة التطور الثقافي في المجتمع السعودي يلحظ الأثر الكبير لقادة الرأي غير الرسمي ، وهم العلماء و الدعاة في تشكيل المواقف الشعبية والتأثير في توجهات فئات المجتمع المختلفة. وسبب ذلك ظاهر وجلي ، وهو أن المجتمع السعودي مجتمع متدين ومحافظ . والتنشئة الإجتماعية والسياسية لأفراده قامت على أسس من العقيدة والشريعة في كل مجالات الحياة . ولذلك كان للدعاة القبول من الرأي العام باعتبار ما يحظون به من مصداقية وثقة . فهم المؤثرون الذين يخرجون من أنساق المجتمع السعودي ، المرتبطة جميعها بالعامل الديني المهيمن على ثقافة المواطن  .

    إن الثقة والقبول الاجتماعي هي سمة أساس من سمات قادة الرأي ذكرها غير واحد من الباحثين المتخصصين في دراسات الإعلام  والرأي العام . عبر عنها وايمان   ( Wiemann, 1994 ) بمصطلح ( الاعتراف والقبول الاجتماعي ) [13]،و( المصداقية ) [14] ، ووصفها روبرت وزملاؤه ( Robert, etal. 1991 ) بمكانة قائد الرأي المعتبرة في المجتمع.[15] ومن كانت هذه صفته فإن آحاد الناس يتوجهون إليه لمعرفة آرائه ووجهات نظره تجاه القضايا العامة في المجتمع ، وهو بالتالي يؤدي وظيفته في محاولة صياغة الرأي العام والتأثير فيه.[16] ولذلك فإن الدعاة الذين يحظون بثقة أفراد المجتمع السعودي يُعدون مصادر مؤثرة عندما يكون هناك توجه جماهيري لمعرفة آرائهم . والمؤمل منهم تكثيف حضورهم الإعلامي ، ومضاعفة جهودهم الدعوية لبيان التأثير السلبي لوسائل الإعلام، وخطرها على ثقافة المجتمع وأخلاقه .

ثالثاً : المحور القانوني

   العملية الاتصالية في عناصرها الرئيسة ( القائم بالاتصال ، والوسيلة ، والرسالة ، والأثر) تتوجه إلى الجمهور ، باعتباره الهدف الأساس لعملية الجذب ومن ثم التأثير . هذا الجمهور – في كل فلسات الدنيا وثقافاتها المختلفة – له حقوق ينبغي أن تُصان ، وأن تكون خطاً أحمراً لا تتجاوزه الرسالة الإعلامية . وقد جاءت الدساتير ومواثيق الشرف الإعلامية حامية لهذه الحقوق وضامنة لها . فكما أن المنظمات الصحية وجمعيات المحافظة على البيئة تسعى لتهيئة الأجواء الصحية والبيئية للإنسان في بُعدها المادي المحسوس ، فإن المنظمات المعنية بالمحافظة على أخلاق المجتمع وجمعيات حمايته من تجاوزات وسائل الإعلام ينبغي أن تنال اهتماماً أكبر من المسؤولين والنُّخب في المجتمع لحماية البناء المعنوي للإنسان.

   والعقلاء – حتى في الدول الغربية التي تعاني من نشر وسائل إعلامها للسلوكيات المخالفة للقيم الاجتماعية – يؤكدون على أن القائمين على وسائل الإعلام مسؤولون عن حماية المجتمع من البرامج الإعلامية التي تصادم القيم الإجتماعية ، فهم حراس البوابة ، ومسؤوليتهم تتساوى مع مسؤولية الشخصيات العامة في الدولة في حماية قيم المجتمع وثقافته ، كما يقول لويس داي Louis Day في كتابه ( القيم والأخلاق في وسائل الإعلام )[17].

   وليس صحيحاً ما يرده بعض المتخصصين في الإعلام الذين يرون أن المضمون الترفيهي الذي تقدمه القنوات الفضائية والذي يعبر كثير من الناس عن رفضهم تفاصيله  يبقى الأكثر شعبية بين الناس ، حسب دراسات السوق التي تقوم بها شركات الأبحاث شهراً بعد شهر ؛ ويستشهدون بالمسلسلات الأمريكية التي تبقى على قمة قائمة النجاح ، وهو الأمر الذي يدفع المزيد من وسائل الإعلام التلفزيونية للاعتماد عليها للوصول إلى مساحات واسعة من الجمهور، ومن ثم تحقيق رضا المعلن الذي يبحث عن وسيلة الوصول لهذه الجماهير.[18] فهذا الرأي قد جانب الصواب ، لجملة من الأسباب أهمها :

1-     أنه إذا كان شعار القائمين على القنوات الفضائية هو تلبية ما يطلبه الجمهور وإشباع دوافعه ، فإن من الجمهور من يطلب أموراً مخلة بالأدب والدين والذوق السليم والفطرة الصحيحة.

2-     إذا كانت القنوات الفضائية تستهدف الربح بتحقيق ما يطلبه الجمهور ، فإن تجارة الجنس والعنف والرذيلة مربحة جداً على المستوى العالمي ، وليست وظيفة الإعلام هي مسايرة رغبات الجمهور حيثما كانت وجهتها ، بل الارتقاء بذائقته والسمو بأخلاقه.

3-     كما أن في هذا المنزع تجاهل لشرائح من الجمهور كبيرة جداً تبحث عن المواد المفيدة والهادفة ، وما تعاطف الجمهور مع النداءات الصادقة للحد من تأثير برامج الفضائيات على المجتمع إلا شاهد على ذلك.

ولذا فإنه إذا لم يلتزم القائمون على الوسيلة الإعلامية بواجبهم ، وانتهكوا حقوق هذا الإنسان ( الجمهور ) ، وآثروا الربح المادي ، وقدموا الوظيفة الترفيهية في جانبها الربحي السيء على وظيفة التعليم أو التثقيف أو الإرشاد فإن اللجوء إلى القوانين الإعلامية ، أو سنّ قوانين وتشريعات جديدة هو سبيل من سبل الحد من تأثير هذه الوسائل على أفراد المجتمع .

   ومن وسائل تفعيل المواجهة القانونية لتجاوزات المؤسسات الإعلامية ما يلي :

 - إقامة دعاوى الحسبة أمام المحاكم الشرعية على مالكي القنوات الفضائية ، أو على القائمين بالاتصال ( رجال الإعلام ) الذين يتبين مدى نفوذهم المستقل في مؤسسات إعلامية أو برامج معينة تسيء إلى المجتمع ، أو تنال من قيمه وأخلاقه. وقد شهدنا حالات كثيرة يترافع فيها أفراد أو مؤسسات أمام المحاكم الشرعية لإساءة إعلامية لحقت بهم ، وسلامة مجموع الأمة لا تقل أهمية عن سلامة حياة الفرد الشخصية أو سمعة المؤسسة الاعتبارية.

- مقاضاة الوسائل الإعلامية المتجاوزة في برامجها ومضامينها الحدود القيمية والاجتماعية وفقاً لما نصَّت عليه مواثيق الشرف الإعلامية في الوطن العربي . فقد جاء في البند الخامس من وثيقة تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية التي أقرها وزراء الإعلام العرب[19] ما نصه : " الالتزام باحترام حرية التعبير بوصفها ركيزة أساسية من ركائز الإعلام العربي ، على أن تُمارس هذه الحرية بالوعي والمسؤولية والالتزام بأخلاقيات مهنة الإعلام ... ) . ولا شك أن من أهم أخلاقيات المهنة الإعلامية احترام ثقافة المجتمع الذي تصدر منه المؤسسة الإعلامية أو تتوجه إليه برسالتها . ولذلك فإن من ضمن ما دعت إليه وثيقة الشرف الإعلامي التي أقرها وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم في القاهرة بتاريخ 12 فبراير 2008 م هو : ( ضرورة الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية للمجتمع العربي ، والامتناع عن بث كل ما يسيء إلى الذات الإلهية والرسل والرموز الدينية ، والامتناع عن بث وبرمجة المواد التي تحتوي على مشاهد أو حوارات إباحية أو جنسية صريحة ... )[20]. وفي موضع آخر من ميثاق الشرف الإعلامي العربي جاء ما نصه[21]: ( تتحمل وسائل الإعلام العربية مسؤولية خاصة تجاه الإنسان العربي ، وهي تلتزم بأن تقدم له الحقيقة الخالصة الهادفة إلى خدمة قضاياه ، وأن تعمل على تكامل شخصيته وإظهار حقوقه وحرياته الأساسية وترسيخ إيمانه بالقيم الروحية والمبادئ الخلقية ...).

    وقد يتعذر القائمون على المؤسسة الإعلامية بحرية الرأي والتعبير في البلد التي تصدر فيها تلك المؤسسات ، ويتذرعوا بسماح قوانين البلاد التي تبث منها تلك المؤسسات برامجها في بث ما يتعارض مع القيم ويخرم السلوك ، لكن ذلك لا يعفيهم من المساءلة القانونية ، وعليهم ( أن يتحملوا مسؤوليتهم الإجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمعات التي يصل إليها بثهم ، بمعنى أن لا يستغلوا ساحة الحرية الواسعة في بث الفساد والإنحلال والإباحية ، لأن المقياس هنا ليس هو الحرية المتاحة وإنما المقياس هو احترام معايير المشاهدين وقيمهم وحرماتهم والمستوى الأخلاقي الذي يحرصون عليه لأنفسهم وأهليهم وأولادهم ) [22].

- سنّ القوانين ، واقتراح الضوابط لسوق الإعلان التجاري السعودي في    مؤسسات الإعلام العربي ، وبخاصة في القنوات الفضائية . فكما أن هناك ضوابط لاستخدام الانترنت في المملكة. وضوابط للإعلان التجاري في وسائل الإعلام السعودية ، فإنه يجب أن تكون هناك معايير ثقافية وضوابط أخلاقية للإعلان التجاري السعودي في وسائل الإعلام العربية . وإذا ما تم تفعيل ذلك فإن كثيراً من البرامج الفضائية سيصيبها الكساد وتبؤ بالفشل إذا علمنا أن نسبة كبيرة من الإعلان التجاري في القنوات الفضائية العربية مصدرها من السوق السعودية.

إنشاء جمعيات - ضمن منظومة مؤسسات المجتمع المدني - تكون مهمتها حماية المجتمع من مضامين وسائل الإعلام غير الهادفة ، أو تفعيل الجمعيات الناشئة مثل    ( جمعية الدعوة إلى الفضيلة في وسائل الإعلام ) التي دعت في الإعلان الصادر عن تأسيسها إلى التعاون بين المؤسسات الدينية والثقافية والتربوية والإعلامية على ترسيخ القيم الأخلاقية النبيلة ، وتشجيع الممارسات الاجتماعية السامية والتصدي للإباحية والانحلال وتفكك الأسرة ... )[23] .

   إن إنشاء منظمات جديدة لحماية المجتمع من وسائل الإعلام أو دعم الجمعيات القائمة وتشجيعها هو عمل حضاري يدعو إلى احترام الجمهور ، وحماية أخلاقه ، وكفّه عن التمادي في الترفيه غير البريء الذي يخرم بنيان المجتمع ، ويقضي على ما تبقى فيه من قيم الفضيلة والأخلاق.

 ( يتبع الجزء الثاني )


[1]  الصحافة في الغرب تطلق على جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية .
[2]Fink, Conard C. (1988). Media Ethics in the Newsroom and Beyond. New York: McGraw-Hill Company, P. 10                                                                           
 
[3]Hutchins, Robert. (1964). Commission on Freedom of the Press: A free and         Responsible Press. Chicago, University of Chicago.                                                 
Fink, ibid, P. 11           4
 
[5]مرجع سابق ، ص83
[6] انظر نص خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله - بمناسبة صدور الأنظمة الثلاثة : النظام السياسي للحكم ، ونظام مجلس الشورى ، ونظام المناطق الذي نشرته وسائل الإعلام السعودية في 29 شعبان 1412هـ.
[7] انظر المادتين الأولى والسابعة من النظام الأساسي للحكم في المملكة الصادر بتاريخ 27/8/1412هـ.
[8] انظر المواد : الأولى ، والثالثة ، والسابعة ( فقره أ ) من السياسة الإعلامية للمملكة .
[9] وقد حدث نوع من هذا الإجراء لقنوات فضائية إخبارية يدعمها معلنون سعوديون انتهكت برامجها سيادة الدولة، أو عرّضت برموزها ، وتوقف المعلن عن رعاية ذلك النوع من البرامج أو الإعلان فيها، وحُجبت مواقع سياسية الكترونية ، وتعرض أصحابها للملاحقة والمساءلة ، وهذا إجراء حسن ينبغي أن يطرد مع مالكي القنوات الفضائية التي تنشر ما يسيء إلى الإسلام أو ينتهك حرماته ، أو يتطاول على ثوابته ، أو يشيع الفاحشة وسوء الخلق بين أبنائه، وأن تكون المعاملة بالمثل حتى يسعد الوطن وأبناؤه .
[10] محمد أحيد عمر . الرقابة في الإعلام الإسلامي ، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع ، الرياض ، ط1412هـ ، ص11.
[11] رواه ابن ماجه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ج2 ، رقم الحديث 4057 ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، ط 1 ، 1407هـ.
[12] كان ذلك في رمضان من العام 1429هـ ، في جواب لسؤال عن الموقف من مالكي القنوات الفضائية التي تبث المجون والفتنة ، بثته إذاعة القرآن الكريم في برنامج " نور على الدرب "، وتداولته وسائل الإعلام العربية والأجنبية ، ومنتديات الشبكة العنكبوتية ، والمجالس الخاصة والعامة ، وحظي موقف الشيخ باهتمام كبير من كل المستويات الاجتماعية . كما أثارت فتوى الشيخ حفيظة المرجفين ، فلم يجد له مؤيداً ونصيراً إلا من طائفة محدودة من العلماء على الرغم من اتفاقهم معه !!
  
 Wiemann, Gabriel.(1994). The Influentials: People Who Influence 1 People. State University of New York Press, New York.
 
                                                                 
2     Ibid
Robert, House J., Spangler, William D., & Woycke, James 3 (1991), "Personal Influence and Opinion Leadership."  Administrative Science Quarterly. No. 3, PP. 366-378.
 
 
    4    Wiemann, ibid, P. 182
[17]Day , Louis A. ( 1997 ) . Ethics in Media Communication. Wadsworth Publishing Compay , Belmont : California , P 243
[18] عمار بكار ، ( مدير قطاع الإعلام الجديد في مجموعة الـ MBC ) ، مقال منشور في جريدة الاقتصادية بعنوان : ( الجمهور هو السبب ) ، الإثنين 29 رمضان 1429هـ - 29 سبتمبر 2008 م ، يعمل ، ونقل المقال موقع قناة العربية على الإنترنت في اليوم نفسه ولقي ردوداً معارضة من القراء.
[19] هذه الوثيقة صدرت لحماية المجتمعات العربية من العري والجنس والإباحية ، كما صرح بذلك أنس الفقي وزير الإعلام المصري. وقال الوزير إن هذه الوثيقة مفسرة لبعض البنود التي نص عليها ميثاق الشرف الإعلامي العربي . انظر تصريحه لوسائل الإعلام المصرية في 14/2/2008م. وبرر الوزير صدور الوثيقة بقول : إنها تؤكد حرية الإعلام في إطاره المنضبط ، لأن هناك تجاوزات تستحق أن يكون لوزراء الإعلام فيها وقفة تستهدف حماية المواطن العربي وحقه في إعلام يحترم خصوصياته ويقوم بدوره التربوي ويحافظ على ثوابت المجتمع.
[20] أنظر : محمد علي الحلبي ، مقال منشور في موقع مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية بتاريخ 28 فبراير 2008م .
[21] أنظر المادة الثالثة من الفقرة " ثانياً " من ميثاق الشرف الإعلامي العربي الصادر في القاهرة بتاريخ 12 فبراير 2008 م.
[22]  زين العابدين الركابي ، ( إطار منهجي أرحب لمناقشة قضايانا : الفضائيات مثلاً ) ، مقال منشور في جريدة الشرق الأوسط ، السبت 21 رمضان 1429 هـ الموافق 20 سبتمبر 2008 م ، العدد 10889 .
[23] انظر الصفحة الرئيسة لموقع الجمعية على شبكة الإنترنت . وقد تصدرت هذه الصفحة رسالة من المؤسسين إلى ملاك القنوات الفضائية التجارية الخاصة تضمنت رفض رسالة الجمعية للبرامج المتضمنة مشاهد العري المباشرة وغير المباشرة ، أو تشجيع السلوكيات الشاذة والمنحرفة ، أو العبارات الداعية للرذيلة أو المحرضة عليها ، أو البرامج المستفزَّة لثقافة المجتمعات العربية والتي تقدم النماذج الشاذة ، وتفتح لهم الشاشات ، وتبرر سلوكهم ، وتهيئ المجتمع لقبولهم .