على هامش صمود غزة .. التربية على الصمود وقود المؤمن القوي
3 محرم 1430
حسن الأشرف

كما النار لا تزيد الذهب إلا نقاء وصفاء ولمعانا، فكذلك المحن العظيمة التي يبتلى به المؤمنون في بعض الأحيان لا تزيدهم إلا إيمانا وصبرا على تحمل الشدائد والأهوال والمصائب.

 

وهؤلاء إخواننا في غزة يتحملون النار تنهال عليهم صباح مساء منذ بضعة أيام ولم يزدهم هذا الوضع إلا صمودا وصبرا على تحمل الآلة الصهيونية الهمجية والإجرامية، يستوي في هذا الصمود الكبار والصغار، بل تجد الأطفال والشباب أحيانا أكثر صمودا وتآزرا وتآلفا على استيعاب الضربات وامتصاصها بغير قليل من القوة والتضحية والعزة. فكيف يتأتى لهذه النماذج الإنسانية الحية والواقعية أن تتوفر على مثل كل هذا الصمود، أو بعبارة أخرى كيف يمكن تربية النشء والأطفال على الصمود لمواجهة مصاعب الحياة ونوائبها..

 

 
صمود الرسول

ولعل خير قصص الصمود هي تلك التي رسمها أفضل الناس وخير الأنام وهو يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام في بيئة كلها كفر وشرك وصد عن سبيل الله، فلاقى صلى الله عليه وسلم ما لاقاه من مصاعب ومخاطر وواجه الشتائم والسخرية والعنف والإيذاء الجسدي والتهديد بالقتل والتصفية من طرف صناديد قريش بكثير من الصمود والثبات على الحق، ليس فقط لأنه رسول الله بل لأنه فداه نفسي وروحي كان متصلا بالله تعالى ومتوفرا على دعائم الإيمان في قلبه وحققها في حياته العملية اليومية، فكان الصمود ثمرة لذلك الإيمان المتوهج ونتيجة لتلك العبودية المطلقة لرب العزة والجلال.

 

وأكبر صور الصمود التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التي عاشها محمد وأصحابه في شِعب أبي طالب ويقال له شعب بني هاشم. حيث حاصر كبار قريش وساستها الأقوياء المتكبرون عن سماع الحق محمدا رسول الله وثلة من بني هاشم وبني عبد المطلب لأنهم فشلوا في ردعه عن دعوته التي يبشر بها رغم ما استعملوه من تهديدات وإغراءات نفسية ومالية واجتماعية.

 

 
وقد اجتمع كبراء القبيلة حينئذ في دار الندوة وكتبوا صحيفة مقاطعة لبنى هاشم بألا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يبيعون لهم ولا يشترون منهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.. وكان من نتيجة الحصار الذي
 
 
 

دام زهاء ثلاث سنوات أن أكل الرسول العظيم وصحبه من أوراق الشجر بسبب الجوع ونفاد الزاد والمال. لكن بفضل صمود هذه الثلة من الرجال خرجوا مرفوعي الرأس من الحصار الغاشم دون أن يتنازلوا قيد أنملة عن مبادئهم التي بسببها حوصروا وجُوعوا وعذبوا..

 

 

ولعل هذا الحصار الذي ضربته قريش على الرسول الكريم يحيل الأذهان والألباب إلى حصار الصهاينة المتغطرسين في هذا الزمن العربي المتردي للمؤمنين من أبناء فلسطين في قطاع غزة خاصة بعد أن فشلوا في تنحية قادتها وزعمائها وتركيع أبنائها، فكان الحصار العسكري والاقتصادي الوسيلة المتاحة لهم.

 

 
صموده في الطائف والمعارك

والقصة الثانية من صمود خير الخلق كانت متمثلة في ما جرى له في الطائف من محنة عظيمة وصد كبير لدعوته، لكنه لم يفشل أبدا كما ادعى بعض الدعاة الجدد ـ خطأ ـ ، بل إنه قام بما كان عليه أن يقوم به، ونال شرف ذلك حتى لو ينل نتائج عمله حينها بشكل فوري لكنه حاز على الثمار لاحقا وبشكل أكثر عمقا وكثافة.

 

 

وصمود الرسول الحبيب في الطائف يمكن إيجازه في كونه صلى الله عليه وسلم فكر بنقل دعوته من مكة، حيث وجد الصد والنفور إلى منطقة الطائف حيث كان يأوي إليها سادة قريش وأهلها في الصيف وفيها يمتلكون الأراضي والمنازل.

 

 

غير أنه صلى الله عليه سلم لم يجد الطائف خيرا من أهل مكة، إذ رده كبار القوم وتبعه عبيدهم يشتمونه ويسبونه بأسوء الصفات والنعوت ورموه بالحجارة إلى أن أدموا قدميه الشريفتين، فتألم الرسول الكريم وأصابه حزن وهم وتعب ونصب، ورغم أن الله تعالى بعث له ملك الجبال يستأذنه أن يطبق الأخشبين على القوم لكنه رفض بأدب وقال قولته المشهورة "أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا " رواه البخاري .

وبعد أن آوى إلى بستان في الطريق ذكرت بعض الروايات التي حسنها بعض العلماء أن قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل علي غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك"

 
هنا يتبين صموده صلى الله عليه سلم،فلولا هذه الخصلة النفسية والخلقية فيه لاكتفى بما قام به وقال لأصحابه ان يكملوا المشوار دونه
 
لأنه لاقى ما لاقاه، لكنه الصمود وقود النفوس الحرة والأبية والأرواح المؤمنة والتقية. ذلك الصمود الذي برز في كثير من المواقف منها صموده صلى الله عليه سولم في معركة بدر وهي معركة حاسمة تاريخيا وفاصلة بين عهدين عهد الكفر وعهد الإيمان، وقد صمد الرسول وصحبه القلائل أمام جيش جرار، لكن لا يمتلك بوصلة الصمود الإيماني. ومثل معركة بدر هناك معارك أحد والأحزاب
وحنين، وفيها كلها أبرز الرسول الكريم صمودا نادرا ينم عن شجاعة وقوة إيمان بالله تعالى .
 
 
الصمود لله
إن هذا الصمود للرسول الكريم ومن بعده للمؤمنين الأتقياء والسلف الصالح ليس سلوكا عاديا يأتى لهم من لاشيء أو من سيرورة تربوية اعتباطية، بل إنه ولاشك ثمرة تربية إيمانية قوية تعتمد على الارتباط بالله تعالى أولا وأخيرا، فالصامد الذي يصمد من اجل الله تعالى ليس كالصامد من اجل هوى أو غرض دنيوية، فمثلا الذي يصمد الساعات الطويلة ـ من اجل التبسيط فقط ـ داخل ملعب لكرة القدم من اجل مشاهدة مباراة فريقه المفضل ليس مثل الصامد في ساحة الوغى في سبيل الله أو الصامد في صلاة طويلة أو الصامد في شتى فنون الدعوة ، فشتان بين الصامدين معا وبين وسائلهما وغاياتهما، فالصمود من اجل الهوى وسيلته شخصية ذاتية وهدفه متعة زائلة، أما الصامد من اجل ربه فوسيلته مرتبطة بخالقه ووسيلته أيضا إرادته وعزيمته الصلبة وغايته رضا الله عنه، فانظروا رعاكم الله من هو البون شاسع لا محالة..
 
آليات تربوية للصمود
ولعل من وسائل تربية أبنائنا على الصمود حتى يترعرعوا على هذه الخصلة الإيمانية الراقية والنادرة في زماننا هذا أن تتم تربيتهم على الاخشوشان وعدم التعود على التنعم حتى لو وجدت .
 
هاتان وسيلتان عظيمتان تكسبان الفرد في صغره الصمود وتجعلانه صامدا في أوقات الشدائد لا يستكين ولا ينكسر رغم هول الصعاب وقوتها..قد تنحني الهامات للعواصف لكنها لا تنحني للخصوم ولا تركع غلا لله تعالىن وهذا دَيْدن ثلة من المؤمنين في غزة ـ نحسبهم كذلك ـ تربوا على الصمود في صغرهم ورضعوا الصمود من أثداء أمهاتهم ورأوا في أشخاص كرام مثل الشيخ احمد ياسين رحمه الله
قدوتهم ومثالهم الحي.
 
 
ويتطلب الاخشوشان أن نمنع بين الحين والحين أبناءنا من ميسرات الحياة وندعهم يتدبروا امورهم دون تسهيل رغم توفر الوالدين على مقومات هذا التيسير، حتى يشب الطفل والمراهق على الاخشوشان ليس في جسده أو صوته بل في سلوكه وعزيمته، ذلك الاخشوشان الذي لا يخدش في طفله وحسن تأدبه مع الغير طبعا..
 
ويقول في هذا الصدد الأخصائي النفسي الدكتور فضل أبوهين أستاذ الصحة النفسية بجامعة الأقصى بغزة في استشارات نفسية لمرتادي أحد المواقع الإسلامية متوجها بخطابه للآباء: "علموهم القناعة والصبر والتحمل، حملوهم المسئولية منذ الصغر، ولا تجعلوهم معتمدين عليكم طوال الوقت، اجعلوا الأبناء دائما يواجهون بعض المواقف، وانتظروا عليهم ليحلوا هذه الموقف بأنفسهم ولا تقدموا لهم الحلول جاهزة.. وإذا أردنا للطفل أن يكون خشنا فلنعلمه الخشونة وخاصة الأبناء الفتيان ذووا الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة أرسلوا بهم إلى معسكرات الكشافة والتطوع، واطلبوا منهم أن يكونوا رجالا يتحملون المسئولية..".
 
ويعتبر بعض التربويين أيضا أنه من وسائل الاخشوشان وعدم التعود على النعم أن يعطى الأكل الخشن أو البسيط للأبناء ولو يوما في الشهر، حتى يتعودا على ذلك ويتذوقوا معنى الطعام القليل مثل التمر والماء فقط أو الخبز والزيت فقط، وهي فرصة كي يتعرفوا على ماذا يعانيه الفقراء..ومثل هذه السلوكيات لا شك أنها تخلق في الفرد صغيرا بناء شخصية صامدة واعية بما لها وما عليها..