
يحكى ( ** ) أن رجلاً تعلم الطب ومَهَر فيه، ثم ترك الاشتغال به وانصرف إلى الاشتغال بأمور التربية ومعالجة مسائلها، فلما سئل عن سر ذلك التحول أجاب: «وجدت بالاستقراء الدقيق أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية، فآثرت أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول. عليَّ أن أقضي الوقت في علاج ما ينجم عن هذا السبب، والوقاية خير من العلاج، ولا شك أني بذلك أقوم بخدمة أعظم للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد»( الموسوعة العلمية الحديثة: 1/26 )
القيام بالتربية الأسرية واجب شرعي دلت عليه النصوص الشرعية وتفرضه المصلحة الواقعية ويقتضيه العقل الحصيف، قال الحق - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْـحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: ٦]. وقال علي - رضي الله عنه -: «علموا أنفسكم وأهليكم الخير» (الحاكم في المستدرك )
وقال بعض أهل العلم: إن الله - سبحانه وتعالى - يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عــن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق؛ فكما قال - تعالى -: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحْسَانًا} [الأحقاف: 15]، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: ٦].
واستمع إلى هذه الأبوة الحانية وهي تسوق تأديبها في حلة قشيبة من التذكير والحض وإيقاظ دوافع النفس الخيرة: {وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ (14) وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 13 - 19].
بينما الأسلوب القائم على القهر والتسلط والإلزام الدائم فإنه يولد شعوراً سلبياً عند الناشئ تجاه ذاته أولاً ثم تجاه الأسرة والمدرسة والمجتمع والأصدقاء ثانياً، بل ويزيد من احتمالات ظهور مشكلات سلوكية لديه، وهذا ما انتهت إليه دراسة أجرتها أ. د نسيمة داود، و أ. نزيه حمدي على عينة من الطلبة العاديين والمضطربين سلوكياً في الأردن(الأسرة والطفل, ص 54-56. )
وثمرة النجاح في المجال الاجتماعي أمران مهمان:
المجال السلوكي:
وتتضمن مظاهر النمو السوي في المجال السلوكي ما يلي:
في تلك المجالات الثلاثة يجب أن تقوم الأسرة بواجبها في التنشئة الإسلامية من خلال:
وقبل هذه المجالات بل هو الموجه لها: التربية الإيمانية التي تربط المربي بالله - عز وجل - وتعلقه بخالقه، ويتجلى ذلك في:
وفي تقوية الروح الاجتماعية وإحسان التكامل مع الآخرين يقول - سبحانه -: {وإذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، ويقول أيضاً: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]( يراجع: كتاب الأسرة والطفل، أ. د نسيمة داود، و أ. د نزيه حمدي، دراسة أعدت بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج. ص 65-73)
تتفق أكثر الدراسات التي اطلعت عليها والتي جرى بحثها على شرائح من المجتمع السعودي أو بعض المجتمعات الخليجية أو العربية عموماً؛ على وجود خلل كبير في التربية الأسرية على الأقل في الميادين التي تناولتها تلك الدراسات، ففي دراسة الدكتور محمد السيف «تربية المراهقين والمراهقات في الأسرة السعودية» يشتكي عامة المراهقين من كون الآباء يطلبون منهم عمل المستحيل؛ كالانقطاع عن الأصدقاء، أو يقف الوالدان موقفاً متحيزاً في حال عراك المراهقين وجدالهم، وكذا السماح بالوشاية بين الأبناء ضد بعضهم، أو الغلظة في العقوبة التي تلجئهم إلى الكذب، أو ضعف المهارة في الاتصال، وهو ما يدفعهم إلى الانصراف عن الإنصات والاحترام لنصيحة الوالدين، أو الخشونة في اللفظ التي تعود بذاتها إلى استعمال الولد ذاته الأسلوب نفسه المتبع معه.
وأسوأ ما يكون حينما يربي الوالدان ابنهما تربية سلبية تجاه الأسرة الجديدة التي سيقودها، فيمتد ذلك الشقاء إلى الأسرة الجديدة التي لم يؤهَّل قائدها أو على العكس من ذلك أهِّل تأهيلاً غير سوي، وقد أدى ذلك بالفعل إلى واقع مؤلم في فشل مشروع الزواج في المجتمع، حيث أثبتت الإحصائية الرسمية الصادرة من وزارة العدل من عام 1404هـ ـ 1424هـ أن ثلث مشاريع الزواج ينتهي بالطلاق، وتتراوح النســـب السنــوية ما بين 31% عام 1403هـ إلى 22% عام 1424هـ. هذا إذا نُظر إلى ظاهرة الطلاق بعامة، لكن إذا نظر إلى حالات الزواج الحديثة في المحافظات والمدن السعودية؛ فالأمر أشد، حيث تتراوح النسب ما بين 41% في منطقة الرياض إلى 17% في منطقة المدينة إلى 31% في المجمعة وهكذا. وينتهي الباحث الدكتور محمد السيف في دراسته الثانية (العشرة الزوجية والطلاق في الأسرة السعودية) إلى أن هذه الظاهرة نتاج خلل في ثقافة المجتمع وبنائه الاجتماعي بشكل أعم، ولا يصح إسناد هذه الظاهرة إلى تفسير جزئي كالدخل الاقتصادي أو عمل المرأة، أو مستوى التعليم وهكذا.
بل إن التربية الخاطئة دفعت إلى جرائم خطيرة كما في دراسة أجريت على 228 من الخاضعات للتأهيل في مؤسسات رعاية الفتيات، حيث كشفت الدراسة عن أن 86.8% من عينة الدراسة ارتكبن ما وقعن فيه بحثاً عن مشاعر الحب والحنان والعلاقة الحميمة التي افتقدنها في بيت الزوجية أو بيت الوالدين من خلال سلوكيات الوالدين في التفرقة والتفضيل بين الأولاد وخاصة الذكور والإناث، أو تفضيل أولاد إحدى الزوجات، أو معاملة البنت بأسلوب النبذ والإهمال وعدم اهتمام الوالدين بحاجات البنت النفسية والاجتماعية والمادية(الحرمان العاطفي في الأسرة وعلاقته بجرائم البنات والزوجات، الدكتور محمد السيف، ص 38، وما بعدها.)
وشبيه بهذا من حيث الدلالة على ضعف أساليب التربية لدى الأسرة ما توصلت إليه الباحثة مها العلي في دراستها التي بعنوان: (إدراك الأبناء في مرحلة الطفولة المتأخرة لأساليب العقاب الضابطة المتبعة من قبل أمهاتهم، دراسة مسحية في ضوء بعض المتغيرات في مدينة الرياض)، وتكونت عينة الدراسة من 306 طلاب(215، وما بعدها )
وإذا تجاوزنا ذلك إلى خارج المحيط السعودي فسنجد شبيهاً بمثل هذه النتائج، ففي الدراسة التي أجراها د. حمدي ياسين، ود. حسن الموسوي، وأ. محمد الزامل على عينة من أطفال الروضة في مصر والكويت؛ نجد أن ثمة صوراً ومظاهر شائعة لإساءة المعاملة لطفلة الروضة في كل من مجتمعي عينة الدراسة، وتتراوح هذه الإساءة ما بين الإساءة العدوانية (كالتأنيب، والصراخ، والسخرية، والتهديد، والتخويف، والإحساس بالذنب، والاحتقار، والشكوى، والحديث بجفاء).
إن الأسرة المسلمة بل والأسرة عامة تمر بها جملة من المتغيرات التي أثرت في الأدوار والمجالات التي تنهض بها الأسرة في تربية أفرادها، ومن جملة المتغيرات: المتغير الاقتصادي الذي كان له بجانب الجوانب الإيجابية جوانب سلبية تمثلت في ظهور الأسرة الثروية واتسامها بالعزلة والتفرد وتغير العلاقة بين الآباء والأبناء وضعفها، وتخلي الأسرة عن كثير من أدوارها في التعليم والتدريب على المهن المختلفة، وظهور بعض الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية عند الأبناء (ندوة: دور الأسرة في رعاية وتنمية الطفل: نظرة مستقبلية، ورقة الدكتورة آمنة خليفة، ص 13.)
ومن أهم المتغيرات: المتغير الإعلامي، حيث يعيش المتلقي في جو ثقافي كثيف وخفي يشكل وجدانه وعقله وتوجهاته. وقد دأبت أكثر أجهزة الإعلام على اقتباس النموذج الثقافي العالمي الذي يجري تعميمه على العالم كله، بل لم تكتف بذلك حتى أنتجت ثقافة مشوهة؛ ثقافة المتعة العابرة مع إشاعة التفاهة والسطحية والابتذال (المرجع السابق ورقة الدكتور حسن مدن، والدكتور علي عبد الرحمن عواض، ص 235-283.)
وأخطر ما في واقع التربية الأسرية أن عناصرها الأساسية (أعني: الوالدين) منصرفة عن التعلم والتدرب لقيادة الأسرة بشكل منهجي صحيح قائم على معرفة نفسيات من يربونهم وحاجاتهم المتنوعة بتنوع جنسهم وعمرهم، ومعرفة الأساليب المساعدة في تحقيق الطموحات التي تريدها الأسرة.
فالأكثر يعتمد في أساليبه التربوية على محاكاة ما كان يعامله به والداه، أو ما يسمعه من أقاربه وأصدقائه، أو ما يشاهده من بعض الممارسات الإيجابية.
وعلى هذا؛ فهو يخوض معركة ليس معه سلاحها، ويكون ضحية هذا التفريط براعم هذه الأسرة، وقد لا يدرك الوالدان كثيراً من أخطائهما إلا بعد فوات الأوان.
تتراوح أساليب التربية الأسرية - كما يذكر بعض الباحثين - بين ثلاثة أساليب، أسلوب الحرص المبالغ فيه الذي يقف فيه الوالدان بكل دقة وراء تصرفات أفراد الأسرة، متبعين ذلك بسيل من الإرشادات والتوجيهات وألوان من العتاب والعقاب؛ بغية النشأة التي يتصورون أنها خير نشأة، وربما اصطحبوا تربية الوالدين لهم ونصبوا أمامهم آمالهم التي يبتغون وصول ولدهما إليها.
وأسلوب ثانٍ غير مبالٍ بتصرفات الأولاد تاركاً للآخر أن يقوم بالدور، وربما ظن أن عوامل السن التي يصير إليها المتربي كافية في اختفاء السليبات وحصول الإيجابيات. وقد يكون هذا النوع من الأساليب استراتيجية دائمة عند المربي، وربما سلكه بعد يأس اعتراه إثر محاولات لم يكتب لها النجاح.
وهناك أسلوب آخر ناجح قد تزود بالعلم وتسلح بالمهارة ومارس التربية بوعي ونضج، وهذا قليل، ولكن في غياب الدراسات الشاملة يصعب إعطاء نسب دقيقة لممارسة كل نوع من هذه الأساليب في المجتمع.
وهذه الاقتراحات تندرج تحت دائرتين:
وإذا كانت هذه المقترحات عامة يقوم بأكثرها أجهزة مساعدة خارج الأسرة؛ فذلك لا يغني عن مبادرة الأسرة إلى جملة من الأسباب، منها:
4 - تكثيف الاستشارة من الوالدين للخبراء في التربية؛ لعلاج المشكلات الطارئة التي تتعرض لها الأسرة، والمبادرة بذلك قبل أن تصل الحالة إلى درجة يصعب علاجها أو يطول.
وختاماً: فلست أجد أنفع في التربية ولا أجدى في تحقيق طموحات المربي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «... وما أعطي أحد عطاءً أوسع من الصبر».
===============================
(** ) ورقة مقدمة لندوة الأسرة المسلمة والتحديات المعاصرة التي تعقدها مجلة البيان بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في يوم الخميس 15/11/1429هـ بمدينة الرياض