ِِهويتنا والبحث عن التمايز
6 شوال 1429
ماجد أحمد الزهراني
عاش الفكر الإسلامي المعاصر تساؤلات مقلقلة, أرهقت كاهله خلال القرن المنصرم, ابتداءً من سؤال النهضة الذي حمله دعاة النهضة الأوائل, من رفاعة الطهطاوي إلى من بعده, وكان هذا السؤال ليس محصورا بالمسلمين بل بالعرب عموما, عندما واجهوا صدمة حضارية, إثر رؤيتهم لما عند الغرب من تطور وتقدم, وما عندهم من تخلف ورجعية. فكرّسوا أوقاتهم للقيام بمراجعات وإصلاحات على كافة الأصعدة, من الدين والتعليم إلى الحكم, وكان شعار المرحلة كتاب شكيب أرسلان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" .
 
 وانفلت زمام تلك المبادرات, حتى تحولت إلى السؤال عن مدى عِِلاقة الدين بالنهضة, وهل يمكن أن يعيش المسلم متدينا مع مواكبته للحضارة, حتى وصل ببعضهم أن جعل الدين الإسلامي عائقا من عوائق النهضة, خاصة مع استلهام التجربة الأوربية وجعلها النموذج الأكمل الذي ينبغي أن يحتذى,مع فارق القياس بين الحالتين,الحالة الإسلامية المبنية على الدين المنزّل, والحالة الأوربية المبنية على الدين المبدّل.

ووُظِّف بعض المصلحين لخدمة مصالح أجنبية, اغتراراً منه بقيم التسامح والحرية التي رأوها في بلدانهم, والحقيقة أنها كانت قيم تطبق في بلدانهم على مواطنيهم فقط, وأما خصومهم فإن لهم وجها آخر, ظهر مع بدايات الاستعمار, فانكشفت أقنعة تلك القيم وتحولت إلى حديد ونار .

 
 ففشل مشروع النهضة, وانتقل السؤال بعد الهجوم الشرس عليهم على كافة المستويات, إلى سؤال الهوية أي خصوصية الذات في الامتياز عن الغير والمطابقة للنفس, خاصة بعد المد الشيوعي والرأسمالي إلى الليبرالي الآن, الذي كشّر عن أنيابه ورمى الدبلوماسية عرض الحائط , ولازال البعض لم يستفق ولم تقنعه التجربة التاريخية, ويطالب بالارتماء في أحضان الغرب, وأن يقبل لنفسه أن يكون بوقا لهم, ويدّعي أن ذلك صار قدرنا فلا مفر منه. 

وهذه النزعة الجبرية بحاجة  إلى تساؤل, هل لها مستند ديني أو عقلي أو تاريخي؟

بصفتنا مسلمين فنصوص الكتاب والسنة مستفيضة, في تأصيل مبدأ المخالفة للكفار فيما ابتدعوه من دينهم, والاعتزاز بما أكرمنا الله به من اصطفاء, بأن جعلنا خير الأمم, فلدينا الاكتفاء الذاتي ولا حاجة لنا للأفكار البشرية المستوردة, والتي لا تصمد أمام مطارق النقد من البشر أنفسهم, وينكشف زيفها بمجرد الخوض في تطبيقها على الواقع,  بالإضافة إلى أنها تتصف بالتحول والتبدل, والذي ينتج نه الحيرة والتردد والشك, الذي هو صفة ملازمة للفكر الغربي الباحث عن الحقيقة والأمان الفكري.

بينما شريعتنا من خاصيتها الثبات,  والذي يولد في النفس البشرية الأمان وبرد اليقين, فإن في القلب حاجة ضرورية لإشباع الجانب الروحي الذي لا يسده إلا النور الإلهي, وانظر إلى مذكرات المفكرين الذين قضوا حياتهم في التنظير لهذه الأفكار لترى شهاداتهم في ذلك.

وليس ذلك دعوة لإلباس هذه الأفكار بلبوس شرعي حتى يتم تقبلها, فإن هذه مرواغة تأويلية معهودة لا ينبغي ممارستها, وتلفيقٌ  نكشف عواره من قديم, فلا يخفى على عاقل.

والعقل موافق للنقل وإن توهم البعض تعارضهما لقصورٍ في فهمه, فالأنبياء قد أتوا بمحارات العقول لا بمحالاتها, فمن المعروف أن الأمم القوية هي التي تعتز بتاريخها وعظمائها, وأنها مهما ضعفت ماديا فإنها لم تستكن معنويا, ولا تزال تطالب بحقها التاريخي ومكانتها القيادية للأمم, ولم يتغلغل اليأس إلى نفوسها, لأن ذلك كافٍ في  ذوبانها في الأمة المهيمنة, وبالتالي إزالة كيانها من الوجود التاريخي والجغرافي.

فمع اكتساح الأمريكان عسكريا وثقافيا للعالم,وظهور النظام العالمي الجديد أو ما يسمى بالعولمة أو الأمركة, وانبثاق نظريات علمية مسيَّسة كنهاية التاريخ, بغرض تحطيم الأمل لدى الأمم الضعيفة في الرجوع إلى سابق مجدها, إلا أن هناك أمم أبت الخنوع لهذا المارد المارق, وظلت تتمسك بهويتها رغم الضغوط المتزايدة عليها.

ففرنسا والتي ترى نفسها سيدة الحرية والتنوير, تأبى أن تتكلم بغير لغتها في جميع المحافل, اعتزازاً بها, ولذلك صرّح ساركوزي بإصدار أمر بإغلاق القناة الفرنسية التي تُبث بالعربية, ولسان حاله أن من يريد أن يتابعنا فليتعلم لغتنا, فلسنا بحاجة لأن ننزل إليهم, وتعتبر هذا القضية بمنزلة الحفاظ على الأمن القومي.

بل رأيت حواراً بين مفكرَين غربيَين مشهورَين بنظرياتهم, أحدهما نعوم تشومسكي المفكر اللغوي السياسي الأمريكي ,والمفكر الناقد جاك دريدا الفرنسي, وبينهما مترجم يترجم  لغة الآخر لصاحبه, ويأبى كل فرد أن يتكلم بلغة الآخر, مع معرفته وإتقانه لها.

وخصمك عندما يرى فيك انعكاسا له فإنه يحتقرك ويزدريك, فإن مقتضى الخصومة الندية والتساوي, وإن استغلك لخدمة مآربه وتظاهر بافتخاره بك, فإنه يستخف بك في داخله, لأنك لن تكون مثله ولم تنتمي إلى ثقافتك, فأنت تعيش مرحلة الذبذبة وكما قال أحد الفلاسفة "بمعرفة الأنا تعرف الآخر".


وعلى المستوى الأدبي فإن أعظم الأدب هو الذي يتحدث عن واقعك  المحلي, لا أن تتحدث بثقافة الآخر, وانظر إلى أثر كتاب ألف ليلة وليلة في العالم لترى مصداق ذلك.

فلا يغرنك تقلبهم في البلاد, فالتاريخ يشهد بأن أمة محمد كالغيث لا يُدرى خيره في أوله أم آخره, ولقد مرّ على المسلمين لحظات ظن المؤرخون بأنه لن تقوم للإسلام قائمة, ابتداءً من غزوة أحد وإشاعة موت النبي, ثم موت النبي الذي يعتبر أعظم مصاب أصيب به مسلم, نظرا لانقطاع وحي السماء عن الأرض, إلى عصر التتار الذي هلك فيها مليون مسلم.


وهذا العصر مشابه لعصرنا من ناحية غياب توازن القوى, وظهور القطب الواحد المتفرد بالقوة, إلا أن مقولة ابن خلدون أن المغلوب
مغرم باتّباع الغالب بحاجة إلى قيد, وهو المغلوب فكريا لاماديا, بدليل أن التتار أنفسهم دخلوا في الإسلام بعد أن تعرفوا على هذا الدين العظيم.

وإن تخلى العرب عن دورهم القيادي في تبنيهم لهذا الدين, وتركهم للمخلّفات البشرية, والتي ما زادتهم إلا نكسات فوق نكستهم, سوف يأتي الله بقوم غيرهم يحبهم ويحبونه.

فالبحث عن التمايز والخصوصية الثقافية قضية ضرورية دينا وعقلا وتاريخا, لا ينبغي أن نتهرب من ذكرها, ونشمئز من طرحها, وأن ذلك مما يساهم في بعث الهمة والحنين إلى الإسلام, ويقوي شوكتنا أمام أعدائنا, وانظر إلى صورة الإسلام في ذهن الغرب قبل مائة سنة تجده عبارة عن زوايا ومسابح وخرافات, والآن بعد الخطر الشيوعي الأحمر ليس لهم في الدنيا إلا الخوف من الخطر الأخضر, وما شهادة مراكز دراساتهم إلا أكبر دليل على أن الإسلام قادم بعز عزيز أو بذل ذليل, وتلك الأيام نداولها بين الناس.