حاجتنا إلى تجديد المجتهد
17 رمضان 1429
ماجد أحمد الزهراني

"يمكن القول بأن واقع الأمة الإسلامية في تغيّر مستمر, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, وتتسارع وتيرة تغيّره يوما فيوما, حيث تواجه الفقيه قضايا مستجدة متعددة ومتشعبة, تتصل بصميم حياة المجتمع الإسلامي ومصيره, وتتحداه مشكلات داخلية وخارجية, تحاصره وتُضيق عليه مسالك حياته اليومية, ويحيط به خطر حضارة تزعم لنفسها أنها هي المعيار الذي ينبغي اتّباعه, والمنهج الوحيد الذي يتأكد استنساخه للنجاة من التخلف"(1)

ومن نافلة القول الحديث بأن على المجتهد أن يكون مجدِّدا, فلا يُتصور وجود مجتهد بدون تجديد, فالعلاقة تلازمية بينهما, إلا أن هذا المفهوم قد تقادم عهده عند المجتهد, حتى أصبح مفهوم التجديد عند المجتهد بحاجة إلى تجديد.

ففي الجانب التنظيري تعرض الأصوليون –في أواخر كتبهم تحت باب الاجتهاد- لمسألة تجديد الاجتهاد, وتحدثوا فيها عن نقض الاجتهاد أو تغييره, ويعنون بالتجديد "إعادة النظر في حكم الواقعة, لتجدد وقوعها أو السؤال عنها, مع سبق النظر فيها إلى حكم يغلب على ظنه أنه الصواب"(2).

وينشأ عن ذلك التجديد إما البقاء على الحكم القديم أو تغييره, إما لخطأ أو لاختلاف ظروف المسألة وملابساتها ونحو ذلك, فينتقل إلى رأي جديد بناء على ما ظهر له(3).

ولا يخفى أن ما يتغير من الأحكام لدى المجتهد, إنما هو المبني على الاجتهاد, كالتغير الناشئ عن تغير الأعراف والمصالح, أما ما ثبت بنص أو إجماع, فإنه لا يمكن أن يتغير كأركان الإسلام وسائر ما عُلم من الدين بالضرورة, والأحكام التعبدية والمقدرات الشرعية, وما يتعلق بالعقائد وأصول الدين.

ونظرا لذلك فقد عبّر بعض العلماء بتغير الفتوى, بدلا من تغير الأحكام؛ وذلك لأن الذي يتغير اجتهاد المجتهد, وتطبيقه للحكم الشرعي على الوقائع, وليس الحكم نفسه(4).

هذه المسألة الأصولية ليست مسألة مفردة بحد ذاتها, وإنما هي منهجية ينبغي تأصيلها لدى المجتهد, وبعثها وإحياءها, وتعميمها على كافة الأصعدة, ممارسة تجديدية تنبع من داخل التراث, بخلاف المحاولات التجديدية الحادثة, التي نبعت من خارجه, تحت ظروف وملابسات مختلفة.

والذي يعنينا هنا أن مصطلح التجديد مصطلح شرعي, قد كثر الجدل حوله, مابين مؤيد ومعارض, ومهما تشبث المخالف به, وأفرغه من محتواه الصحيح, فإن ذلك لا يعني رده من أصله, فليس من المنهج ولا من عادة السلف, أن يردوا المصطلحات الشرعية, بناء على أنها تغيرت مضامينها, فقد غيّرت بعض الاتجاهات مضامين بعض المصطلحات الشرعية كالتوحيد والعدل, وكان موقف السلف التفصيل, وإظهار المفهوم الشرعي ورد ما خالفه, وإلا لزم من ذلك الرد, نسف لغة الشريعة بدعوى استغلال المصطلح من طائفة مخالفة, وهذا مكمن الخطر.

يقول الدكتور عياض السلمي في معرض حديثه عن الأقوال في حكم تجديد الاجتهاد: "وهذه المسألة من أهم مسائل الاجتهاد؛ إذ يترتب على القول الراجح, وجوب إعادة النظر في أكثر المسائل التي تحدث بعد تغيّر الأحوال, لاحتمال أن تكون المصلحة فيها قد تغيرت وتبدلت.

وهكذا يكفل للفقه الإسلامي التجدد المستمر, وعدم الوقوف عند اجتهاد المتقدِّمين, وإذا عرفنا أن الإجماع قائم على أنه إذا وجد دليل جديد, أو تبدّلت الأحوال أو الأعراف, وجب معاودة النظر في المسألة, عرفنا فائدة هذه القاعدة, وعرفنا ما يحمله أصول الفقه من قواعد توجب التجديد المستمر للفقه.

وينبغي أن لا نفهم من إعادة النظر والاجتهاد, ضرورة تغيّر الرأي في المسألة؛ بل قد نبقى على الرأي الأول, وقد تزيد المكتشفات الحديثة التدليل على صوابه, وقد يؤدي معاودة النظر إلى ضرورة تقديم الحكم للناس بأسلوب آخر يناسب العصر, وقد يؤدي الاجتهاد إلى تغيّر الحكم في المسألة, ولا ينكر تغيّر الأحكام بتغير الزمان.

وقد يكون التغيّر ليس لذات الحكم, وإنما هو في تحقيق المناط, فقد يكون مناط الحكم لم يعد موجودا في الصورة المسؤول عنها, فلا يوجد الحكم بل نقيضه, ولا يعدّ هذا من تغيّر الحكم إلاّ تجوُّزاً(5).

وَعَوْداً على بدء فإن هذه القضية التي يراد التنبيه والتركيز عليها في واقعنا المعاصر, خاصة مع تقارب البلدان والأوطان, وانحسار العالم بحيث أصبح كالقرية الواحدة, وحصول تغير في الأعراف والمصالح والعلل, ومع ذلك لا يزال المجتهد على رأيه المخالف لكل ما ورد, بعيدا عن هموم عصره, مما يولد تبعا لذلك جمودا مخالفا لما عليه الفقه الإسلامي من حيوية ونشاط.

وهذه المراجعة وليس التراجع, التي  يمكن أن توصف فورا بأنه "انهزامية" أو"ذوبان" أو"ضعف ورقة دين" بغض النظر عن التقويم الحقيقي لذلك التغيير, ليست قضية معلقة في الهواء, أتت من هزيمة نفسية تجاه الواقع المعاصر, ومحاولة لتأويل وعصرنة الشريعة, كلا, وإنما هي في الأصل اقتفاء بمن سلف, وهذه بعض الشواهد:

-       جاء في كتاب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- المنسوب إلى أبي موسى الأشعري, قاضيه على الكوفة, "ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم, فراجعت فيه نفسك, وهديت فيه لرشدك, أن ترجع إلى الحق, فإن الحق القديم, ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".

وهذا في عصر الصحابة الذي يقل فيه الحوادث, وتميل فيه المعيشة إلى الاستقرار والثبات, بناءً على ضعف الاتصال ومحدودية المكان, فكيف بعصرنا هذا!

-       بل إن عمر-رضي الله عنه-  نفسه, كان يمارس التجديد على أوسع نطاق, وذلك بمراجعته لبعض الأحكام المبنية على علل, كالصدقة على المؤلفة قلوبهم, وعدم تنفيذ حكم السرقة عام المجاعة.

-       وفي كتب فقهائنا أكبر دليل عملي على ذلك, فلا توجد مسألة فقهية إلا ويقال إن للإمام الشافعي فيها قولان, قديم وجديد بسبب انتقاله من وطن إلى آخر, وللإمام أحمد فيها روايتان, مما يوحي بأن هناك تفاعل وتأصيل للحوادث على مدار الساعة, جعلت من بعدهم عالة عليهم في الاختيار والترجيح.

وكم خلّف إلغاء الاجتهاد وإقفاله من نتائج وخيمة, جرّت القوانين الوضعية إلينا, وبرّرت الحكم بغير ما أنزل الله, ونخشى أن جمود الفقيه على أقوال تغيرت عللها وأعرافها, يؤدي بالضرورة إلى إسقاط مكانته في المجتمع, بدعوى تجديد الدين, وأن هؤلاء يعيشون خارج التاريخ.

ونستطيع أن نحاكم المجتهد ليس بتغيّر اجتهاده, وإنما بالمنهجية والمستند التي من أجلها غيّر اجتهاده, وبهذا نكون قد ضبطنا محاولات التجديد المعاصرة.

وكما بيّن العلماء أن السلاح محرم بيعه زمن الفتنة, وأن العنب محرم بيعه على من يصنع منه خمرا, سداً لذريعة القتل والسكر, فإنه هذا التحريم ليس إلى الأبد, فلابد من هذا السد من فتح وكذلك العكس, وإلا لزم فساد الدنيا, والحرج والمشقة على الناس.

وما أجمل كلام ابن القيم في ذلك حين قال: "مهما تجدد في العرف فاعتبره, ومهما سقط فألغه, ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك, بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك, فلا تجره على عرف بلدك, وسله عن عرف بلده فأجره عليه, وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك"(6).

وقال ابن عابدين: " من لم يكن عارفاً بأهل زمانه فهو جاهل"(7).

فكما أنه لا يجوز الجمود على الأحكام الصادرة من أهل العلم السابقين, المبنية على أعرافٍ تغيرت وتبدلت, كذلك لا يجوز للمجتهد البقاء على الأحكام الصادرة منه سابقاً, المبنية على أعراف وعلل تغيرت وتبدلت, وقد كان هذا الجمود من أعظم الظلم الذي نسب إلى الشريعة, والشريعة منه براء(8).

ونحن في نقاشنا هذا نفترض أننا نخاطب المجتهد اجتهاداً جزئياً, أي:تخصصيا, وإلا فالمجتهد المطلق لا يُطمع فيه في هذا الزمان, الذي اتسعت معارفه وتشعبت, وإن كان هناك من يوصف بذلك (جدلا) فإننا نتسامح معه ليس في التجديد؛ بل بأن لا يكون له حكم في كثير من المسائل لصعوبة الإحاطة!!!

وإنما المؤمل أن يوجد المجتهد المتخصص, "الذي لابد من وجوده وقيامه بمهمته, من إعداده إعداداً تخصصيا, لا في الجانب الشرعي فحسب, وإنما في جانب التخصص الذي يتجه إليه, سواءً في الاقتصاد أو الطب, أو الاجتماع أو علم النفس, أو غير ذلك من المجالات.

ولا يكفي في إعداد المجتهد المتخصص في مجال الاقتصاد مثلاً, أن يقوم بدراسة كتاب أو مقرر واحد من مقررات الاقتصاد, وإنما يلزم أن يشمل برنامجه الدراسي في المرحلة الجامعية الأولى, على30 إلى 45 من نظام الساعات المعتمدة, وأن يتم توجيهه بعد ذلك إلى الدراسات العليا, حيث يحصل على عدد آخر من الساعات, في دراسة متعمقة في الاقتصاد إلى جانب الدراسة الشرعية.

إن الحل الذي لجأت إليه المؤسسات المختصة بالاقتصاد أو الطب, أو بغير ذلك, من إقامة مجالس أو لجان تضم متخصصين في الاقتصاد أو الطب, ومتخصصين شرعيين, إنما هو حل مؤقت واضطراري, لا يحل المشكلة جذريا؛ بل إنه يكرّس عملية الازدواج الثقافي"(9).

ومما مضى ينبغي تحليل واقع الأزمة, ومردها في نظري أنها أزمة نفسية لا فكرية, فالتنظير يُبيّن أنها مقررة سلفا ولا ينبغي المحاججة في ذلك, وبنظرة فاحصة في حال الأمم المتطورة دنيويا, ولا يتبادر في الذهن إلا الغرب, فالذي لا يشك فيه عاقل تقدمهم العلمي الدنيوي -بخلاف التخبط الفكري  الذي يعيشونه متبعين لكل موجة وموضة بحثا عن الحقيقة- والذي مرده المراجعات المستمرة لمخترعاتهم, والتي هي تجربة بشرية لا تخلو من النقص, ولذلك يبحثون عن الأفضل والأقوى والأسرع, أي بمعنى أصح, البحث عن الكمال.

وهي فطرة وغريزة راسخة في الإنسان, أنه متى شعر بالكمال فقد بدأ في النقص, وما حال المجتهد في عصرنا إلا أنه يظن أن اجتهاده المبني على غلبة الظن, -بخلاف الشريعة التي كملت وانتهت-,وهذا الاجتهاد بشري, بحاجة إلى التأمل والنظر في هذه المسألة, هل هذا الحكم يحقق مراد الله أم لا؟, هل هذه العلة أصلية أم عارضة؟, هل هذا الاجتهاد راعاه العرف أم لا؟, وهكذا هي التساؤلات التي ينبغي أن تشغل فكر وذهن المجتهد إلى مماته.

وقد يبدو الخلط واضحا عندما يتم استقبال المسائل الاجتهادية المبنية على غلبة الظن, بمثل استقبال المسائل الاعتقادية, التي من خالفها فقد ابتدع, فيخشى التجديد خوفا من الاتهام في دينه, وهذا مع الفارق بينهما. 

نحو تجديد المواقف:

مما ذكرته مسبقا أن تجديد الاجتهاد قضية منهجية ينبغي تأصيلها لمن يمارس التفكير في نهضة الأمة, سواء كان فقيها أو مفكرا أو مثقفا, فالمجتهد كغيره من الناس يتخذ مواقف تجاه بعض الشخصيات يكون مبناها على:   سوء فهم منه, أو انطباع  ظهر لديه  في سن مبكرة من طلبه للعلم ولم يبلغ بعد سن النضج, أو تلقى الموقف تقليدا لشيخه الذي علّمه, أو روي له سماعا ولم يتثبت منه.

هذه بعض الأعذار التي نعتذر بها عن المجتهد وهو لذلك بحاجة إلى إعادة نظر في مواقفه التي تبناها بناء على ما سبق, لأن من مقصد المجتهد وكل مسلم, اجتماع المسلمين ووحدتهم, فلا تطغى القضايا الشخصية على مصلحة الأمة.

 

وقد تكون الحكمة عدم اتخاذ موقف مضاد من المخالف, لما يترتب عليه من مفاسد تضر بالدعوة والعمل الإسلامي, كما هي رؤية الرسول في هدم الكعبة لولا خوفه من قومه الذين كانوا حديث عهد بإسلام, وعدم قتله للمنافقين مخافة أن ينتشر الخبر بأن محمد يقتل أصحابه فيصد ذلك عن الدخول في الإسلام.

وقد يكون المستحسن مداراة المخالف, لما يساهم ذلك في رد عدو أعظم لا يحصل دفعه بالشقاق مع المخالف, كما كان يفعل ابن تيمية في حروبه, وابن تيمية من أفقه الناس في التعامل مع المخالف حسب المصلحة والمفسدة.

يروى عن يونس الصفدي قوله:" ما رأيت أعقل من الشافعي, فقد ناظرني يوما في مسألة ثم افترقنا, ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة".

"وأخيرا.. فإن هذا الطرح ينبغي أن لا يفهم على أنه في إطار التنظير المجرد, ولذلك فإنه لا يتوجه إلى هواة التنظير والكلام, وإنما نتوجه به إلى من يتحرك في ميادين الحياة أنّى كانت, بروح المجاهد المتوثب الرابض على الثغور, ليبينوا بشكل عملي شمول الإسلام وخلود رسالته المعجزة, وصلاحيتها المطلقة لكل زمان ومكان"(10).

ــــــــــــ

(1)     نحو تجديد الفقه وتيسيره, د.عمار الطالبي.

(2)     أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله, ص:467, أ.د/عياض بن نامي السلمي.

(3)     تجديد الاجتهاد وتغيره, ص: 12, صالح بن محمد الفوزان.

(4)     تجديد الاجتهاد وتغيره, ص: 14, صالح بن محمد الفوزان.

(5)     أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله, ص: 469-470.

(6)     إعلام الموقعين, نقلا عن كتاب نظرات في أصول الفقه,ص:197, للدكتور:عمر سليمان الأشقر.

(7)     نقلاً عن كتاب نظرات في أصول الفقه,ص:198.

(8)     بتصرف, نقلاً عن كتاب نظرات في أصول الفقه,ص:208.

(9)     بتصرف, جمال الدين عطية, توسيع مجال الاجتهاد... آفاق وعقبات, إسلام أون لاين.

(10)    بتصرف, الاجتهاد والتجديد بين المقاصد والقوالب, وائل ميرزا, إسلام أون لاين.