رب إن ابني من أهلي!
28 جمادى الأول 1429

حب الآباء والأمهات أبناءهم وحرصهم عليهم أمر فطري جبل الله قلوبهم عليه؛ هذه قاعدة مطردة قل من يخرج عنها، وما شذ عنها من شذ إلا تأكيداً لهذه القاعدة، إذ الشاذ لا حكم له، ووصفه بالشذوذ تثبيت للأصل.
ولئن كان الإنسان يحب أن يكون هناك من هو خير منه فليس ذلك إلا لأبنائه فلذات كبده، ولهذا نجد القرآن الكريم أوصى الأبناء غير مرة ببر آبائهم والإحسان إليهم بينما لم يوصِ الآباء بأبنائهم وترك ذلك لما أودعه قلوبهم في أصل الخلقة، وكذلك نرى السنة النبوية المطهرة حذرت أشد التحذير من عقوق الآباء بينما كان التحذير من الإساءة للأبناء يأتي عرضاً لعلاج واقعة معينة.
غير أن بعض الآباء يكون حرصه على أبنائه منصباً على النواحي المادية الدنيوية فيبذل ما في وسعه لتأمين المأكل والمشرب والملبس ومباهج الحياة، لكنه مفرط فيما هو أنفع لهم من كل ذلك وهو الحرص على آخرتهم، تجده حريصاً كل الحرص على دراستهم فيغضب أشد الغضب إن نام ولده عن الامتحان مثلاً، لكنه لا يبالي آَستيقظ لصلاة الفجر أم لا؟ تجده حريصاً كل الحرص على تلبية رغباته بحيث لا ينال أحد من أقرانه شيئاً لا يناله ابنه، لكنه لا يبالي أكان هؤلاء الأقران من أهل الخير والفلاح أم من أهل الشر والطلاح.
على النقيض من ذلك نجد بعض الآباء من أهل الصلاح يحرص على الجوانب الأخروية لأبنائه من صلاة وتلاوة قرآن وصيام وغير ذلك، لكنه يفَرِّط في أمور معاشهم فلا يهتم بنفقتهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم الاهتمام الكافي، وقد جاء في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول"، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والسبيل الأقوم التي لا محيد عنها هي الحرص على ما ينفع الأولاد في دينهم ودنياهم، في معاشهم ومعادهم.
هذا، وقد يبذل الرجل كل ما في وسعه لصلاح أولاده وفلاحهم لكنه لا يدرك مراده لحكمة يعلمها الله، لكن المهم هو أن يؤدي ما عليه أما النتائج فليست له و لا لأحد من الخلق، ولو كانت الهداية بيد أحد منهم لهدى النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، لكن الله عز وجل بين الأمر بقوله مخاطباً نبيه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56].
ومع ذلك فإن بعض أهل الصلاح -وقد يكون من طلاب العلم والدعاة إلى الله- يشق عليه أن يرى ابنه يتنكب طريق الخير والرشاد مع ما بذله كي يسلكها، ويشق عليه كذلك أن يدعو الناس إلى الله عز وجل ثم يكون أقرب الناس إليه لا يستجيب إليه، وهنا قد يقول -بقلبه إن لم يتحرك لسانه-: رب إن ابني مني، وأنا أدعو الناس إليك فلم تمنع الهداية عنه؟ فيستخدم منة الله عليه بهدايته وتوفيقه للدعوة إليه في المنِّ على الله كي يهدي من يحب، وهذا مزلق خطر!
فعلى من ابتلي في أولاده بمثل هذا الابتلاء العظيم أن يتأمل قصة نوح عليه السلام مع ابنه يوم نادى ربه (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود:45]؛ فنوح الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً قد دعا ابنه كذلك من هذه السنين ما شاء الله له أن يدعوه، وقد وعده سبحانه وتعالى أن ينجيه وأهله فلما أصر ابنه على الكفر وحال بينهما الموج فكان من المغرقين سأل اللهَ عز وجل أن ينفذه وعده في ابنه، لكن الله عز وجل أرشده وعلمه ومَن بعده من الآباء فقال سبحانه: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) فبين له سبحانه وتعالى حقيقة هذا الوعد وأن مخالفة ابنه له في النية والعمل تخرجه عن كونه من أهله الذين وعده بإنجائهم وتدخله فيمن سبق عليه القول كما قال تعالى: (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [هود:40]، فإن كان هذا في حق نوح عليه السلام فكيف بمن لم يعده الله لا بنجاة نفسه و لا بنجاة أهله!
ثم يخبر الله جل وعلا نوحاً عليه السلام أن مسألته هذه عمل غير صالح وأنها سؤال ما ليس له به علم مما لا ينبغي له أن يسأل عنه فيقول: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، ثم يقول: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) قال ابن جرير رحمه الله: "إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمَه عنك من أسباب أفعالي وليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين في مسألتك إياي عن ذلك"، وهي موعظة لنوح عليه السلام ولكل من جاء بعده وبخاصة إذا كان من الدعاة إلى الله، والواجب على كل من وقع منه تفريط في ذلك أن يسارع مسارعة نوح عليه السلام في طلب رضا مولاه بقوله: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود:47].
إن الحرص على الأبناء ورجاء صلاحهم أمر فطري، ورغبة أهل الصلاح في هداية أبنائهم أمر مشروع، لكن هذا لا ينبغي أن يخرج المرء عن مقتضى العبودية، بل يؤدي ما عليه من واجب تجاه أبنائه ويجتهد في الدعاء أن يهديهم الله ثم يعلم أن الأمر كله لله، وأنه سبحانه أيما قلب أراد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب أراد أن يزيغه أزاغه، وأنه سبحانه يحكم ولا معقب لحكمه.
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74] وصل اللهم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.