ليسوا سواء بل هم طوائف
30 ربيع الأول 1429

شاعت بين المسلمين -أثناء التعدي الدنمركي على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم- عبارة غير دقيقة اتُّخِذت كشعار، ونصها: "لو عرفوه لأحبوه"، وهذا الشعار طبع في أذهان كثير من المسلمين أن الإشكال مع الغرب جاء من جهة عدم تصورهم أو فهمهم للإسلام ولنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شك خطأ كبير يكذبه الواقع، وهو مخالف لما بينه لنا ربنا سبحانه وتعالى في نحو قوله: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [آل عمران:71]، وقوله عز وجل: "الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [البقرة:146].
إن كثيراً منهم يعرفون الكتاب، ويعرفون أن ما جاء به القرآن الكريم هو الحق من ربهم ثم يكتمونه حسداً وبغياً، وكثيراً منهم يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً وصدقاً، ومع ذلك أبوا إلاّ أن يناصبوه العداء في الحاضر، كما ناصبه أسلافهم العداء في الماضي وهم يعلمون، ولهذا أثنى الله على من خالف هواه منهم، وانصاع للحق الذي عرفه، فقال سبحانه: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف:157].
وفي قصة إسلام عبد الله بن سلام الحبر البحر -رضي الله عنه- في صحيح البخاري وغيره ما يبين حقيقة العداء بجلاء(1).
وهذه حال النصارى أيضاً، فليسوا بمنأى عن نهج هؤلاء، وقد ثبت عند البخاري وغيره خبر أبي سفيان مع هرقل الروم عظيم النصارى يوم جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: "فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغُلِّقت، ثم اطَّلَع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حُمُرِ الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل"(2).
فأخطأ من ظن أن سبب العداوة من جميع اليهود والنصارى لنبينا صلى الله عليه وسلم عدم معرفتهم به أو بصدق رسالته.
نعم هو سبب موجود في بعضهم، ولذا فإن هذا السبب لا ينبغي أن يُغفل أو يُهمل، كما لا ينبغي أن يُغالَى فيه ويعمَّم، فإن هذا من دواعي تفاقم الإشكال لا حله، لأن التعميم سيكون حكماً مبنياً على محض الوهم، والحق أن في الغرب خمس طوائف وليس من الصواب التعامل معهم كأنهم طائفة واحدة:
فالطائفة الأولى طائفة المستكبرين المعاندين باطري الحق وغامطي الإسلام، وهذه الطائفة هي التي تتولى كبر محاربة الحق عبر التاريخ، وهي اليوم تؤلب الإعلام، وتوجه الرأي العام ضد الإسلام، ونبيه عليه الصلاة والسلام، فهذه ينبغي أن تخاطب بما يفضح أهلها ويبين تناقضهم، ويظهر للناس حنقهم وحقدهم، وذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة وحال الإسلام قوة وضعفاً.
والطائفة الثانية طائفة الجهلة المغرر بهم، وأهلها لا يعرفون عن الإسلام إلاّ ما صَوَّرته الطائفة الأولى، فهؤلاء المساكين ينبغي أن يستنقذهم بنو الإسلام، فيُعَرّفونهم بنبي الثقلين وبدين الحق، ويعرضون عليهم صورته المشرقة في سكينة وهدوء؛ فإن أبوا الانصياع للحق بعدها ألحقوا بالطائفة الأولى. وينبغي التفطن إلى أن طريقة تعريفهم المرضية لا تكون بعرض بعض حقيقة الإسلام وإنكار بعضه أو تعميته، بل يعرض الشرع كاملاً كما هو، وتبين محاسنه ويذاع فضله على شرائعهم وقوانينهم بالحجج والبينات، ولا ينبغي أن يغفل عن الشبه التي يقذف بها ملابسو هؤلاء من الفريق الأول، خاصة مع ذيوعها وتحكم أهلها في كثير من وسائل الإعلام.
ولعل التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم، يشمل أموراً منها:
- التعريف به وعرض أخباره ابتداء.
- تنقية الصورة المشوهة بالشبه الباطلة.
- بيان أخطاء المسلمين ومعالجتها، على المستوى الداخلي والخارجي، فعندما تزوّر ممارسات باسم الإسلام، وتترك أو ويُزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بها، ثم لا يوضح بجلاء أن الإسلام من هذا الافتراء براء، فقد يؤدي هذا إلى تشويه صورة الإسلام وصد الناس عنه.
فهذه ثلاثة محاور للتعريف به عليه الصلاة والسلام لا ينبغي أن تغفل، وإلاّ وصلت الرسالة في كثير من الأحيان مبتورة.
أما الطائفة الثالثة فهي بين الأولى والثانية، وهم المعرضون الذين لا يريدون معرفة الحق وتمييزه من الباطل، فيصمون آذانهم ويستغشون ثيابهم، إما لهوى، أو ظلم، أو جهل، وهؤلاء ينبغي أن يُرَغَّبُوا في الإسلام ويُنبَّهوا إلى ضرورة النظر فيه، فإن أعرضوا ألحقوا بالطائفة الأولى كذلك، وتطبيق هذا في طريقة خطابهم، وقد قال نوح عليه السلام على من جعل أصبعه في أذنه واستغشى ثيابه وأصر واستكبر عن الانصياع للحق، بما هو معلوم في سورة نوح.
وأما الطائفة الرابعة فهم المنصفون من الغربيين، الذين عرفوا شيئاً من الإسلام فبانت لهم تعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، وعرفوا شيئاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم فعظموه واحترموه، ووقفوا موقف أبي طالب من محمد صلى الله عليه وسلم، وقاموا مقام غيره ممن حمى بعض أهل الإسلام وذب عنهم، وهؤلاء قلة، ولعل منهم -على سبيل المثال- "جوسلين سيزاري" الباحثة الفرنسية، و"روبرت فيسك" الصحافي البريطاني، و"ماركوس بورج" أستاذ علوم الدين في جامعة أوريغون الأمريكية، و"فرانسوا بورجا" الباحث الفرنسي البارز، وكذلك "كارين أرمسترونج" الكاتبة البريطانية والراهبة الكاثوليكية سابقاً، وصاحبة العديد من المؤلفات عن الإسلام والنصرانية واليهودية، وربما كان منهم كذلك الأمير الإنجليزي "تشارلز" بشهادته النادرة التي أسقط فيها صفة التطرف والبغي التي يحاول الإعلام الغربي أن يربطها بالإسلام، إلى جانب دفاعه عن فضل الحضارة الإسلامية على القارة الأوروبية وعلى الحضارة الغربية بصفة عامة. فأمثال هؤلاء ينبغي أن يُعرف لهم فضلهم، وأن يُكافَؤوا عليه، وأن يُحرص على دعوتهم وهدايتهم، فليس هؤلاء كغيرهم من بني جنسهم.
وأما الطائفة الخامسة والأخيرة فهم من أسلم من أهل الغرب، وهؤلاء من الذين أثنى الله عليهم في كتابه، فينبغي أن نكون معينين لمحسنهم، حادبين على مسيئهم، حريصين على هدايته وتوجيهه التوجيه الأمثل.
وموقفنا هذا في التفرقة بين طوائف الغرب المختلفة هو مقتضى الإنصاف الذي علمناه ديننا، فقد بين لنا ربنا سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ليسوا صنفاً واحداً فقال عز وجل: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]، وبين أن ممن بقي منهم على دينه أهل أمانة، ومنهم أهل خيانة فقال سبحانه: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا" [آل عمران:75]، فإن سوينا بين هؤلاء وهؤلاء لم نسلم من إفراط أو تفريط، وظلم لهم أو لأنفسنا، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فاعتبروا يا دعاة الإسلام.

_______________
(1) ينظر صحيح البخاري 3/72-73 (3911).
(2) البخاري 1/17-18 (7).