مقاطعة المنتجات الدنمركية… شبه وردود
13 ربيع الأول 1429
د. إبراهيم الفوزان

عندما أبدت أفواههم وأيديهم ما تخفي صدورهم بسبِّ خير البرية وأزكى البشرية – فديته بأبي وأمي – صلى الله عليه وسلم – خرج علينا المخذولون منا من المخدوعين والمنهزمين ليبعثوا فينا الطمأنينة ويوهمونا بأن الأمر لا يعدوا مشاغبة من رجال الإعلام الذين عرفوا بحب الخروج عن المألوف وإثارة الضجة فحسب، ولا يمثلون بذلك شعوبهم ولا حكوماتهم!!!

هذه هي الشبهة الأولى؛ وقد سمعتها من أحد أصحاب المعالي وليس شخصاً عادياً حتى يمكن أن يقال رأي شاذ لا يعول عليه. العلماء في عصرنا هذا كغيرهم من الناس منهم من تأثر بوسائل الإعلام التي لا تبث الرذيلة والفساد فحسب – كما يعتقده الكثيرون – بل تبث أفكاراً لا تبدوا في ظاهرها خطيرة ولكنها في الحقيقة هدامة، تهدم المبادئ والمرتكزات الأساسية للفرد والمجتمع وتضعف القناعات؛ وأما العلماء الراسخون الربانيون فهم الذين ثبتوا أمام هذه الشبهات ودافعوا ونافحوا عن الدين بقوة علم ويقين.

الحق الذي لا محيد عنه أن القوم "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ" (آل عمران: من الآية 118) يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري – رحمه الله تعالى –: (يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم). وهل يشك عاقل في العداوة الواضحة البينة من الكفار للمسلمين "إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينَا" (النساء: من الآية 101). نحن وللأسف نعيش فترة من التخبط و"اهتزاز القناعات" ففي ذات الوقت الذي يُظهر فيه الكفار عداوتهم لنا كما في تواطئهم الصارخ مع اليهود وسكوتهم عن حصار غزة، واعتداءاتهم العسكرية على البلاد الإسلامية في العراق وأفغانستان ودعمهم لحكومة الصومال ضد رغبة الشعب الصومالي المسلم، وأخيراً نشرهم للرسوم المسيئة للرسول – صلى الله عليه وسلم –؛ بعد هذه العداوة الواضحة وضوح القمر ليلة البدر تزداد درجة تعلق المسلمين بالغرب ومحاكاتهم والتلقي عنهم ومشاهدة أفلامهم والتشبه بهم والتعامل معهم وشراء بضائعهم، في مشهدٍ مخزٍ ينم عن جهل وغفلة عن المصالح الشرعية والدنيوية.

لا شك أن الله قادر على إنطاق من يشاء من خلقه لتقوم الحجة على عباده، فبعد أن نطق كبيرهم وأحمَقهم عندما أعلنها حرباً صليبية ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، نطق وزير الداخلية الألماني بما تخفي صدورهم في يوم الأربعاء 20/2/1429 عندما طلب من الصحف الأوروبية نشر الرسوم المسيئة للمصطفى – صلى الله عليه وسلم – بحجة دعم الحرية(1)!!! فالأمر إذاً ليس مشاغبة صحفية بقدر ما هو رأي رسمي لم ينكره ساستهم ناهيك عن مثقفيهم. كلنا يعلم أن حريتهم المزعومة تأخذ أفقاً ممتداً إلى ما لا نهاية عندما يتعلق الأمر بنا نحن المسلمين؛ وفي المقابل تنكمش هذه الحرية عندما يتعلق الأمر باليهود مثلاً! فلا أحد يجرؤ باسم الحرية أن ينكر محرقة اليهود "الهولوكوست" لأنه سيواجه بتهمة الإرهاب... أعني "معاداة السامية"!!!

وعلى المستوى الشعبي فقد أظهر الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة "T.N.S."و"N.I.B.O." لصالح محطة تلفزيون "RTV" أن 54% من الهولنديين يعتقدون أنه يتعين عرض فلم مسيء للإسلام، على الرغم من أن 76% منهم توقعوا أن يزيد ذلك من التوتر بين المسلمين وغير المسلمين(2). فعلى هذا ومع أن غالبيتهم يتوقعون توتر العلاقات مع المسلمين فقد رأى أكثر من نصفهم أنه يتعين عرض الفلم! هذا يدل على عمق كراهتهم لنا من جهة، وعلى احتقارهم لنا من جهة أخرى.
ففي ما ذكر ردٌ علمي واضح – يعتمد على الحقائق لا على الآراء الشخصية – على أن الرأي الرسمي والشعبي كلاهما متواطئ بل مؤيد لنشر الرسوم!

أما الشبهة الثانية فهي أن مقاطعة الدنمارك ستؤثر على التجار المحليين المستوردين منهم حيث أنهم قد دفعوا قيمة ما سيستوردونه لمدة عام قادم! والرد على هذه الشبهة من جهتين؛ الأولى: أن هؤلاء التجار ما زالوا يتعاملون مع الدنمارك بعد نشر الرسوم الأخيرة ولم تتحرك فيهم الغيرة والحمية لجناب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – فهم بذلك مستحقون للمقاطعة أيضاً. ولو أنهم أعلنوا براءتهم من التعامل مع الدنمارك بعد نشر الرسوم أو على أقل تقدير من الآن لكان من حقهم علينا دعمهم ومؤازرتهم وشراء سلعهم حتى تنفد. الأمر الآخر: لو افترضنا أن في المقاطعة حصول الضرر على تجارنا المحليين فلا يعدوا الأمر كونه تقديم للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية. يقول العز بن عبدالسلام – رحمه الله تعالى – في معرض كلامه عن التأديب والزجر: (لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة)(3).

الشبهة الثالثة: هي أن المقاطعة غير مشروعة. ويكفي في الرد على هذه الشبهة حصار النبي – صلى الله عليه وسلم – لبني النضير بعد أن نقضوا العهد وهموا بقتله فقطع نخيلهم وحرقها، حتى سألوه – صلى الله عليه وسلم – أن يجليهم ويكف عن دمائهم ففعل – صلى الله عليه وسلم – فهذه القصة دليل على مشروعية الحصار الاقتصادي الذي هو أشد من المقاطعة لأن فيه منع لوصول الطعام والسلع للعدو من أي مصدر ناهيك عن التعامل معهم ببيع أو شراء!

وفي قصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة أنه بعدما أسلم "قدم ‏ ‏مكة ‏ ‏قال له قائل ‏ ‏صبوت ‏ ‏قال لا ولكن أسلمت مع ‏ ‏محمد ‏ ‏رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ولا والله لا يأتيكم من ‏ ‏اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم"(4) متفق عليه و‏زاد ابن هشام: (ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا, فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم, فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم). أقول: ولم ينكر عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وإنما أمره النبي بفك المقاطعة عنهم لأنهم استجدوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – وطلبوا منه ذلك، فحصل المقصود من إذلالهم وإجبارهم على اللجوء إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهذا ما نرمي إليه من خلال مقاطعة الدنمارك من إذلالهم وإظهار عزة المسلمين!

الشبهة الرابعة: يقول البعض إن في المقاطعة إلحاق أذى بجميع الشعب الدنمركي وهو قد لا يؤيد هذا الهجوم على الرسول – صلى الله عليه وسلم – والإسلام جاء بالعدل وعدم تحميل الكل تبعات أخطاء البعض.

أقول إن في اختيارهم للحكومة بالانتخابات العامة تأييد لهذه الحكومة التي لم تتنزل بالاعتذار للمسلمين وإيقاف هذه الممارسات المشينة. وأيضاً ما جاء في الاستفتاء الهولندي لنشر الفلم المسيء للإسلام والمذكور في الإجابة على الشبهة الأولى، دليل على أن غالبيتهم يؤيدون مثل هذه الممارسات. وأخيراً وعلى افتراض أن الشعب الدنمركي لم يرضى بذلك، فقد جاء في مسألة التترس والتي يحصل فيها إزهاق لأرواح بريئة من أطفال ونساء ما يدل على مشروعية إلحاق الضرر المادي بالجميع من باب الأولى إذ لا طريق لعقوبتهم بغير ذلك. يقول العز بن عبد السلام – رحمه الله –: (قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة، لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم)(5). وفي موضع آخر يقول: (وأما إتلاف أموال الكفار بالتحريق والتخريب وقطع الأشجار فإنه جائز لإخزائهم وإرغامهم، بدليل قوله تعالى: "مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ"، ومثله قتل خيولهم وإبلهم، إذا كانت تحتهم في حال القتال. وكذلك قتل أطفالهم إذا تترسوا بهم، لأنه أشد إخزاء لهم من تحريق ديارهم وقطع أشجارهم)(6).

إن المسلمين عندما ينال من عرض نبيهم ويسب أحب الخلق إلى الله ينزعجون ويغضبون، وحق لهم ذلك! كيف لا وهم أتباعه المقرون له بتبليغ الرسالة التي جعلها الله سبباً لخلاصهم من الجهل المؤدي لعقاب الله وسبباً لهدايتهم إلى الحق والهدى المؤدي لرحمة الله. حبيبنا وقدوتنا وقائدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أوذي في الله وطرد واضطهد وتعرض لأنواع العداوة والظلم فصبر وجاهد – بأبي هو وأمي – حتى أتاه اليقين من ربه جل وعلا.
"إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ" (التوبة: من الآية 9) يقول الإمام الطبري – رحمه الله –: (يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه, فالله ناصره ومعينه على عدوه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم).

_________________
(1) وكالة فرانس برس – نقلاً عن موقع العربية.
(2) نقلاً عن موقع العربية بتاريخ 27 / 2 / 1429 هـ.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام - العز بن عبدالسلام - (2 / 84).
(4) البخاري (كتاب المغازي)، مسلم (كتاب الجهاد والسير).
(5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام - العز بن عبدالسلام - (1 / 122).
(6) قواعد الأحكام في مصالح الأنام - العز بن عبدالسلام - (1 / 104).