موضوع مهم أشار إليه النبيان الكريمان هود وصالح عليهما السلام، وهو موضوع الإسراف والتبذير الذي كان متفشياً في مجتمعيهما قال هود عليه السلام: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [الشعراء: 128-129]، قال الطبري: "قال مجاهد (بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) قال: آية بنيان"(1)، وقال ابن كثير: "( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً)، أي معلما بناء مشهورا (تَعْبَثُونَ) أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)، قال مجاهد: والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد"(2).
لقد كان قوم هود عليه السلام يبنون ما لا يسكنون، ويشيدون الأبراج تفاخراً ومباهاة ويتنافسون في إظهار الثراء.
وهذا الداء كان مسيطرا كذلك على قوم صالح عليه السلام قال الله تعالى عنهم: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء: 149-152]، قال ابن كثير رحمه الله: "(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ)، قال ابن عباس وغير واحد: يعني حاذقين، وفي رواية عنه: شرهين أشرين، وهو اختيار مجاهد وجماعة، ولا منافاة بينهما؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشراً وبطراً وعبثاً من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم"(3).
والشاهد أن قوم هود وقوم صالح عليهما السلام أهل إسراف وبطر وتفاخر في البنيان، وكان التبذير هو الصفة الغالبة على ذلك المجتمع، فنصح هود عليه السلام قومه وذكرهم بنعمة الله عليهم وأن حق هذه النعمة أن تشكر ولا تكفر، وأن يتقى المنعم عليه المنعم فلا يصرف النعم فيما يغضبه، ولا يبذر نعمة الله عليه فيما لا طائل من ورائه، فقال عليه السلام كما أخبر الله تعالى عنه: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء: 132-134].
ثم حذرهم من العذاب الأليم الذي رصده الله تعالى لمن كفر بنعمه، وذلك بسلبها منه في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، فقال عليه السلام: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: 135]، ولكن القوم صموا آذانهم عن سماع الهدى فقالوا كما أخبر الله تعالى عنهم: (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 136-138]، فهكذا نرى أنه لم يجد أولئك المبذرون حجة لما هم فيه إلا أمنهم مكر الله تعالى وزعمهم أن العذاب بعيد عنهم وأنه لن يبلغهم، ثم احتجوا بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن هذا هو نهج الآباء والأجداد فلا محيد عنه ولا تراجع.
وكذا قوم صالح عليه السلام دعاهم النبي الكريم لترك التبذير والإسراف، فلم يجد منهم آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية، قال لهم صالح عليه السلام: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ)[الشعراء: 146]، يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب قال ابن العباس: كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، ودل على هذا قوله: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]، فقرعهم صالح ووبخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت"(4).
ثم خوفهم النبي الكريم من المرجع والمصير والمنقلب إلى الله تعالى وأخبرهم أن الله عز وجل لن يتركهم وإن طالت أعمارهم في الدنيا وأن لهم أجلاً هم بالغوه.
إن ما أصاب الأمم السابقة بسبب المخالفات التي وقعت فيها ومنها مخالفة الإسراف والتبذير لسنا في وقاية منه، فإن نقص النعم وارتفاع الأسعار عقوبة إلهية لمن ضيع نعم الله تعالى عبثاً وبددها سدى، لقد تكرر الأمر بالقصد في كثير من الآيات قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: من الآية31]، وقال الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء: 26-27]، وقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات: فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضى والسخط، والقصد في الغنى والفقر، وأما المهلكات: فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن"(5).
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع"(6).
إن الإسراف في حياتنا صار ظاهرة لا تخطؤها العين، بل صار عادة وسجية ينشأ عليها الصغير ولا يستغربها الكبير، والإسراف في حياتنا عم جميع نواحيها ففي الأكل والشرب نطبخ أكثر مما نأكل بكثير، ونطبخ في البيوت ثم نأكل في المطاعم، مع أننا ونحن المسلمين أولى خلق الله بالاعتدال في الطعام والشراب، فالله عز وجل يقول لنا: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: من الآية31]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطنه، حسب ابن آدم ثلاث أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام و ثلث شراب و ثلث لنفسه"(7).
ونحن نشتري الكثير من الأشياء التي لا نحتاج إليها، وننسى أن الذي يشتري ما لا حاجة له سوف يبيع ما يحتاج إليه، في القريب أو في البعيد، من بيده أو بيد أجياله القادمة.
فما أحرانا أن نتبع شريعتنا الغراء، وأن نتقي شرور أنفسنا وشهواتها، وأن نكبت رغبتنا في طلب ما لا حاجة لنا فيه، فنكون من المقسطين الأبرار، ونبعد عن إخاء الشياطين الفجار.
_______________
(1) جامع البيان، 9/459.
(2) تفسير القرآن العظيم، 3/454.
(3) تفسير القرآن العظيم، 3/457.
(4) الجامع لأحكام القرآن، 13/117.
(5) حسنه الألباني في مشكاة المصابيح، 3/110، (5122).
(6) المستدرك، 1/705، 0(1923)، و صححه الألباني، شرح الطحاوية، 1/101.
(7) المستدرك، 4/376، (7945)، وصححه الذهبي في التلخيص.