توطئة:
حمداً لله على نعمائه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، وبعد:
فإن زكاة الفطر من شعائر الإسلام الظاهرة، التي تكتسي بها المجتمعات الإسلامية حلة التكافل الاجتماعي، ويحظى بها الفقراء بالمواساة الناجزة يوم العيد من قِبل إخوانهم المؤمنين، وهي في الوقت ذاته طهرة للمزكي الصائم من جارحات الصيام، من الأقوال والأفعال الذميمة.
وفي ظل جائحة الغلاء التي شملت أصناف السلع في السعودية تضررت طبقات من المواطنين، كما أنها سوف تشق على طائفة كبيرة ممن تلزمهم زكاة الفطر، خصوصاً أن الشريحة الاجتماعية المكلفة بزكاة الفطر أكثر عدداً من تلك المكلفة بزكاة المال، فهذه الأخيرة لا تلزم إلا من يملك نصاباً زكوياً حولياً، بخلاف زكاة الفطر التي تلزم كل من فضَلَ عنده يوم العيد وليلته صاعٌ من قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية، ولو لم يملك نصاباً زكوياً، هذا بحسب قول جمهور الفقهاء، وهو ما عليه الفتوى في هذه البلاد.
ولأجل كون هذه الشعيرة "عبادة"، وكون الشارع سماها "زكاة"، ولأنه قد توسع الناس اليوم في البحث في الخلافيات، ورافقَ ذلك وَلَعُ بعضهم بالطعن على غيرهم ممن لا يقول بقولهم، فقد أحببتُ أن أبين ما جاءت به السنَّة فيما تردد بين الناس هذه الأيام من الدعوة إلى التزكية بالنقود عوضاً عن الأرز، وهو السلعة التي اعتاد الناس عندنا إخراجها في الزكاة، ثم أبين ما يمكن أن يقال به في الأحوال الاستثنائية، ليُعلم ما الأصل وما الاستثناء.
أولاً: السنة في زكاة الفطر:
من وقف على النصوص الواردة في الموضوع يتبين له جلياً بأن السنة في زكاة الفطر: إخراجها طعاماً، من قوت البلد، تمراً كان أو قمحاً أو زبيباً أو شعيراً أو أَقِطاً، هكذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا أخرجها هو وأصحابه، وقد صحَّ ذلك عنهم من طرق متعددة مروية في الصحاح والسنن والمسانيد.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : ( فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة )، [خ (1432)، م (984)].
قال الإمام مالك: " لا يجزئ أن يجعل الرجل مكان زكاة الفطر عرضاً من العروض، قال: وليس كذلك أمر النبي - عليه الصلاة والسلام -"اهـ [المدونة (2/358)].
وقد احتج الإمام أحمد بقوله: ( فَرَضَ ...)، على وجوب إخراج الطعام خاصة، لأنه إذا عدل عن الطعام فقد ترك المفروض، ولهذا لما قيل للإمام أحمد كما في رواية أبي داود: " أعطي دراهم، يعني في صدقة الفطر ؟، قال: أخاف أن لا يجزئه، خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وقال أبو طالب: " قال لي أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قومٌ يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة، قال: يَدَعون قول - رسول الله صلى الله عليه وسلم - ويقولون: قال فلان !، قال ابن عمر: ( فَرَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...)، وقال الله تعالى: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [النساء (59)]، وقال: قومٌ يردون السنن، قال: فلان، قال: فلان "اهـ [المغني (2/357)].
كما أن حديث ابن عمر المتقدم قد سمى الأصناف التي يصح إخراج الزكاة منها، ولو لم تكن مقصودة، أو يكن جنسها مقصوداً لم يعددها صنفاً صنفاً، ولأرشد إلى القيمة، إذ هي أضبط وأسهل لو كان، فهذا تنبيه إلى مقصودية الطعام الذي يقع قوتاً لأهل البلد.
كما أن قوله- عليه الصلاة والسلام - عن صدقة الفطر: ( طُعمَة للمساكين ) [أخرجه أبو داوود (1609)، وابن ماجه (1827)، وصححه الحاكم على شرط البخاري، وقال الدارقطني: رواته ليس فيهم مجروح كما في سننه (2/183)]، يبين أن الطعام مقصود في هذه الشعيرة.
ثم إن زكاة الفطر صدقة عن البدن والنفس والرقبة، وليست صدقة عن المال كأنواع الزكاة الأخرى، قال الإمام مالك: " وإنما هي زكاة الأبدان "اهـ[التمهيد 14/328)]، وهذا مأخوذ من قوله في الحديث الآنف الذكر: ( طهرة للصائم من اللغو والرفث )، وإلى هذا المعنى أشار ابن قتيبة في غريب الحديث (1/184): " قيل لزكاة الفطر: فطرة، والفطرة الخلقة، ...أي: أنها صدقة عن البدن والنفس، كما كانت الزكاة الأولى صدقة عن المال "اهـ.
فهي بهذا تختلف عن صدقة المال، ولذا منع الجمهور إخراجها نقداً في حين أجاز بعضهم إخراج النقود في زكاة المال، فالظاهر أن هذا هو مأخذ التفريق عندهم، وبه يعلم خطأ الغماري حين احتج على أفضلية القيمة بأن الأصل في الصدقة المال.
ويتفرع عن هذا المأخذ: أنها تجب على كل من فضَلَ له صاعٌ من قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، كما ذهب إليه كثير من الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة [التمهيد (14/329)].
كما أن إخراجها طعاماً يستلزم كيلها ووزنها وإخراجها، ففيه إظهار لهذه الشعيرة، ولو أخرجها نقداً لكانت خفية، ولم يشعر بها أحد، فهذه مؤيدات تعضد قول الجمهور.
ثانياً: الخلاف في إخراج القيمة في زكاة الفطر:
بما تقدم يتبين أن من أخرجها طعاماً برئت ذمته باتفاق الفقهاء، واختلفوا في إخراجها نقوداً على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء: مالك والشافعي وأحمد وابن حزم إلى أنه لا تبرأ ذمته بذلك، وهو ما جرى به العمل في هذه البلاد المباركة، وعليه فتوى علمائها في غير حال الضرورة.
القول الثاني: ذهب الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وذكره الحنابلة رواية مخرَّجة عن أحمد: إلى جواز إخراجها نقوداً، وبه أخذ جماعة من المعاصرين، كالشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري في رسالة له خاصة في الموضوع، سماها: " تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال "، أفتى بذلك بسبب انقطاع الحبوب في عصره جراء الحرب العالمية، وقد جرت العادة أن تقوم دور الفتوى الرسمية في بعض البلدان الإسلامية بإصدار بيان بقيمة صدقة الفطر قبيل يوم العيد، بناءً على سعر الطعام الذي تخرج منه زكاة الفطر، وهذه الأسعار تتفاوت من عام لآخر، ومن بلد لآخر، ويطول الجدل هنالك حول تلك التقديرات !.
والمسألة من مواطن الاجتهاد كما ترى، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ( أغنوهم في هذا اليوم )، لم يثبت مرفوعاً، فقد رواه سعيد بن منصور والدارقطني والحاكم، وفي إسناده أبو معشر المديني ضعفه البخاري وغيره، فلا يحتج بحديثه، ولذا ألمح البيهقي إلى تضعيفه، وضعفه غير واحد كابن عدي في الكامل، والنووي في المجموع، وابن حجر في البلوغ (598) والفتح [(3/375)]، وله طريق أخرى عند ابن سعد في الطبقات، وهي الأخرى لا تثبت كذلك، لأنها من رواية الواقدي وهو متروك الحديث كما قال البخاري، ومع هذا فلو صح، فواضح منه أن مقصود زكاة الفطر: إغناء الفقير عن البحث عن (الطعام) ذلك اليوم، وليس المقصود به الإقناء؛ وهي حالٌ فوق الإغناء.
ثم إن قوله: " أغنوهم " مجملٌ، وقد فسره حديث ابن عمر في تسمية الواجب على وجه التحديد، والأخذ بالمفسر مقدم على المجمل عند أهل العلم.
ثالثاً: حجج القائلين بإخراج القيمة:
وللقائلين بالقيمة حجج لا تخلو جميعها من ضعف، وإن كانت تتعاضد في مجموعها لترجِّح الجواز للحاجة العامة والمصلحة الراجحة على سبيل الاستثناء، ومن تلك الحجج:
أ ـ قياسها على إخراج العروض في زكاة الأموال، وهي مسألة خلافية كذلك، واشتهر القول بالجواز عن أهل الرأي، ووافقهم عليه بعض المحققين، وقد انتصر الإمام البخاري لهذا القول، واحتج له في صحيحه [باب العرض في الزكاة]، ورجح ابن تيمية الجواز للحاجة والمصلحة الراجحة، ومنعه لغير الحاجة [مجموع الفتاوى (25/82)]، إلا أنه فرَّق بين زكاة المال وزكاة الفطر، فجعل زكاة الفطر زكاة أبدان، وألحقها بالكفارات، التي أوجب الله فيها الإطعام قصداً، فتجري مجرى كفارة اليمين والظهار والقتل والجماع في رمضان وكفارة الحج، فإن سببها البدن لا المال، " ولهذا أوجبها الله طعاماً، كما أوجب الكفارة طعاماً "اهـ (25/73)، هذا ما ظهر لي من كلام ابن تيمية، إلا أن برهان الدين ابن القيم قد نقل عنه في اختياراته (138)، جواز إخراج القيمة حتى في زكاة الفطر للحاجة، فالله تعالى أعلم، وعلى كل حال فزكاة الفطر تختلف عن زكاة الأموال من حيث متعلق الوجوب، فالقياس إذاً ضعيف من هذا الوجه.
ووجه آخر من الضعف في هذا القياس: أن زكاة العروض تجب الزكاة في قيمتها، بخلاف زكاة الفطر، فهي زكاة للأبدان كما تقدم فاختلفا [الحاوي؛ للماوردي (3/393)].
ب ـ ما روي عن بعض السلف كالحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، وقول أبي إسحاق السبيعي: "أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام"، مقابَلٌ بقول من منعه، ذكر هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه (2/398).
وهذه الآثار الدالة على جواز دفع القيمة في الفطر محمولة على الحاجة، بحيث يتعسر دفع الطعام، أو حمله، أو قبوله، وبهذا يتفق المنقول عن السلف بعضه مع بعض، وبه تجتمع مع الأدلة، والله تعالى أعلم.
ج ـ النظر إلى مقصد الزكاة، وهو دفع حاجة الفقير، وهذا يحصل بإعطائه النقود كحصوله بالطعام، والجواب عن هذه الحجة من ثلاثة أوجه:
1- أن الأصل في الزكاة التعبد، ولها جانب تعليلي، لكن لا ينبغي الميل إلى التعليل كل الميل، وإنما يلحظ هذا وهذا، فجَعْلُ الزكاة مجرد واجبٍ مالي يخرجه الإنسان، كسائر الواجبات المالية من نفقة ونحوها فيه إخلالٌ بملحظٍ مهم في هذه الشعيرة، وهو التعبد المرتبط بإتمام فريضة الصيام، ولهذا ردَّ أبو بكر ابن العربي على الحنفية قولهم بالقيمة في الكفارات بقوله: " إن نظرتم إلى سد الخلة؛ فأين العبادة ؟، وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوعٍ إلى نوع، ولو كان المراد القيمة لكان في ذكر نوعٍ واحد ما يرشد إليه ويغني عن ذكر غيره "اهـ [أحكام القرآن (3/277)]، وهذا إيرادٌ متين، وأيضاً: من توسع في هذا الباب يلزمه أن يخرج قيمة الأضحية والهدي والدم في المناسك.
2- أن العدول عن المقدرات الزكوية إلى القيمة من غير حاجة مخالف للسنة، وإلا لكان ذكر مقادير الزكاة في بهيمة الأنعام مثلاً عبث، وقول الشارع منزهٌ عن العبث، ومعلوم أن بعض الفقراء يستفيد من قيمة بنت اللبون أو بنت المخاض أكثر من انتفاعه لو أعطيها بذاتها.
3- أن التنصيص على الأطعمة المذكورة، مع تفاوت قيمة كلٍّ منها عن الآخر يفيد مقصودية الطعام، ولو كان المقصود القيمة لجاء النص على طعامٍ مقارب في القيمة.
د - أن الفقراء يأخذون الأرز ويبيعونه بأبخس الأثمان، لينتفعوا بقيمته، مما يدل على أن المال أنفع لهم، والجواب: مع التسليم بوجود هذه الظاهرة عند من يتقبل الزكاة في الطرقات العامة، إلا أن تعميمها على فقراء البلد، أو أكثرهم غير مسلم، ولقد نجد كثيرين يفعلون هذا، وهو إنما يدل على تقصير أرباب الزكاة في تحري الأحوج فالأحوج، نعم لو فرض أن الناس تحروا ذوي الحاجة للطعام، فلم يجدوا من يقبلها إلا بنية بيعها فإن القول بدفع القيمة يتوجه حينئذٍ، والواقع أننا نشاهد كثيراً من آخذي الطعام يحتفون به ويقع منهم موقعاً حسناً، وبهذا يتبين ما في هذه الحجة من المبالغة.
والأمر كما قال ابن عبد البر: "وفي أخذ البدل والقيمة في الزكاة وفي صدقة الفطر كلامٌ يطول، واعتلالٌ يكثر، ليس هذا موضع ذكره"اهـ [التمهيد (4/139)].
رابعاً: إخراج الزكاة نقوداً بسبب غلاء الأرز:
تبين مما سبق أن الأصل في زكاة الفطر إخراجها من الطعام لا النقود، وأنها لا تُخرج نقوداً إلا استثناء للحاجة ومصلحة الفقير، فهل غلاء الأرز هذه الأيام يسوغ إخراجها نقوداً، رفقاً بأموال المزكين، أقول: إن هذا الغلاء يجعل الزكاة بالأرز أفضل من غيره، لأن الفقهاء نصوا على أن الأفضل أن يزكي بأغلى الأصناف ثمناً، وأنفسها عند الناس [المغني (4/291)]، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الرقاب فقال: ( أغلاها ثمناً، وأنفسها عن أهلها ) [متفق عليه خ (3/188)، م (1/69)]، ولهذا استحب الإمام مالك إخراجها من تمر العجوة لأنها أنفس في عصره ومصره، واستحب الإمام الشافعي إخراجها براً، لأنه أنفس عنده، واستحب الإمام أحمد إخراجها تمراً، اقتداءً بالصحابة - رضي الله عنهم -، وروى بإسناده عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقاً، وأنا أحب أن أسلكه [المغني (4/291)]. ويلي التمر في الأفضلية: البر عند الحنابلة.
خامساً: أسئلة تتوجه إلى من يقترح الاستغناء عن الأرز في الزكاة:
هاهنا أسئلة تتوجه إلى من يفتي بإخراج زكاة الفطر نقوداً لأجل غلاء الأَرُز، إشفاقاً على المزكين:
أ ـ على أي أساس تحتسب القيمة، هل تحدد على أساس سعر الأرز، أم التمر، أم ماذا، ومعلوم أن الأصناف تتفاوت من حيث السعر، فإن حددت على أساس الأرز لم نصنع شيئاً، وكذا التمر لأنه ليس بأرخص من الأرز، والقائلون بالقيمة يقولون: إنه يتخير في إخراج قيمة أي طعام شاء، من حنطة، أو تمر، أو شعير كما في حاشية ابن عابدين، وهم يجعلون إخراج القيمة أفضل في حال السعة، فأما في حال الشدة - أي الغلاء - فالأفضل عندهم إخراج الطعام، كما في الدر المختار، قلت: فهذا يرجح إخراج الأرز في هذه الأيام، لأنه قد غلا سعره، وعسر على الفقراء الحصول عليه، مع وفرته في السوق، ووافق الحنفية في هذا قول الجمهور.
ب ـ أليست مصلحة مستحقي الزكاة من الفقراء أولى بالاعتبار من مصلحة مخرجي الزكاة، لأنهم الطرف الأضعف، ولأنه لأجل مواساتهم شرعت هذه الفريضة أصلاً.
ج ـ يلزم من قال بالقيمة مطلقاً أن يجيز إخراج نصف صاع من الأرز، وهو قيمة صاع من الشعير في أيامنا هذه، بسبب غلاء الأرز، وهذا فيه ما فيه، ذكر هذا الإيراد الماوردي في الحاوي (3/392).
سادساً: اتجاهات المعاصرين في إخراج القيمة:
أما أصل المسألة، وهو إخراج النقود في زكاة الفطر فقد انقسم المعاصرون فيها ثلاثة أقسام، طرفان ووسط:
فمنهم من يأخذ بقول الجمهور، ويشدد على الناس في المنع، حتى لو تعذر إخراج الطعام أو تعسر جداً، كما نجده في بعض البلاد الغربية، وبعض المبتدئين يصف القائلين بإخراج القيمة بأنهم مبتدعة في الدين، ولا شك أن هذا غلو وجفاء.
ومنهم من يتسامح جداً، ويجعل القيمة هي الأصل، ولا يكاد يذكر الطعام أصلاً، بل يثرب على القائلين بإخراج الطعام، ويرميهم بعدم الفقه في الواقع، وهذا تفريط وتساهل.
وكلا هذين قد تجاوز الصواب، فالمسألة من مواضع الاجتهاد، ولكلٍّ حجته، وطائفة ثالثة توسطت، فقالت بوجوب إخراج الطعام في حال السعة، ووجود من يقبلها وينتفع بها، فإن تعذر أو تعسر أخرج القيمة، كما هو الحال في بلاد الغرب ونحوها، حيث لا يجد المسلم من يقبل الفطرة طعاماً، لأن الرواج هنالك للوجبات السريعة والجاهزة، وربما وجد - أحياناً - من يقبل الطعام، لكن معهود الفقهاء أن الفتوى العامة لا تبنى على نوادر الأحوال، وإنما ينظر فيها إلى العام الغالب، والنادر لا حكم له، فلا مناص من القول بمشروعية إخراج النقد حينئذٍ في تلك البلاد، وقد وقفتُ بنفسي على أحوال الأقليات الإسلامية في عدد من الدول الغربية فوجدت الأمر كما وصفتُ، وبالجواز عند الحاجة أفتى أبو العباس ابن تيمية وبه صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالرياض (12/92)، والله تعالى أعلم.
سابعاً: مشروعية إخراج الأرز أو التمر:
لا إشكال في إجزاء زكاة الفطر من الأرز، لكونه طعاماً، فيندرج تحت عموم قوله في الحديث: "صاعاً من طعام"، وبه يعلم الجواب عن قول بعض المعاصرين بأن الأرز لم ينص عليه في الحديث، لأنه جاء التنصيص على الطعام، وبوَّب عليه البخاري في صحيحه [باب صدقة الفطر صاعٌ من طعام ]، فيندرج تحته جميع ما يشمله جنس الطعام، من الحبوب والثمر [المغني (4/289)]، والأرز من الحبوب، بل هو من أنفسها عند المعاصرين، وهو - بلا شك - أفضل عندهم من الشعير الذي ورد النص بإجزائه، على أن التنصيص على بعض الأطعمة في الروايات إنما هو مفهوم لقب، ومفهوم اللقب أضعف المفهومات عند الأصوليين، فيقدم عليه ما ذكرته آنفاً.
ويترجح الأرز في هذا العصر من وجوه، أهمها ما أشرت إليه في الفقرة السابقة، ويضاف إليها: أن الأرز أيسر على الفقير وأنفع له، فإن القمح ونحوه يحتاج إلى مؤونة طحن وإصلاح، بخلاف الأرز.
وقد وضع الفقهاء معايير للأفضلية، وهي بحسب الاستقراء: الأغلى والأنفس، والأنفع للفقير والأبلغ في دفع حاجته، والأيسر للفقير والأسهل، ولهذا فضل الحنابلة في قول لهم الزبيب على البر، لأن الزبيب - كما يعبر ابن قدامة -: " أقرب تناولاً، وأقل كلفة "اهـ [المغني (4/292)].
نعم لو فرض أن بعض الناس لا يقدر على التزكية بالأرز، لقلة ذات يده، فله أن يعدل إلى أنواع الطعام الأخرى، كالقمح والشعير والتمر والزبيب، ويلحق بهذه الأصناف الدقيق منها والطحين، كما يجزئ الزكاة بالمكرونة المعروفة عند الناس اليوم، وهي أفضل وأنفع من الخبز، وهو من الطعام المجزئ.
وقد دعا بعض الكتاب إلى إخراج التمر عوضاً عن الأرز، بحجة أن التمر سلعة وطنية بخلاف الأرز، وهذا ملحظ له وجاهته، وإخراج التمر لا خلاف في إجزائه، وقد نص عليه في حديث ابن عمر المتقدم، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يخرج إلا التمر، لأنه غالب قوت أهل المدينة، ولما أعوز أهلُ المدينة من التمر أخرج الشعير، كما عند البخاري، ومع ذلك فالتمر هو الآخر قد غلا سعره هذه الأيام، فهو لا يقل عن سعر الأرز.
ونحن إذا استحضرنا كون الزكاة يراعى فيها جانب الفقير قلنا: إن الأفضل هو الأنفع للفقراء، تمراً كان أو أرزاً، ولو أن كل أسرة اجتمعت وأخرجت كيس أرز من فئة (45) كيلو غرام، أو نحوه من التمر، ودفعته إلى أسرة فقيرة من ذوي قرابتها أو معارفها؛ لكان في ذلك تحقيق مصالح عديدة.
وبكل حال فلا ينبغي لنا أن نقحم هذه الشعيرة الإسلامية في خصومة اقتصادية أو سياسية أو فكرية، نكاية بتجار السلع أو غيرهم، ولتبقَ فريضة يُقصد بها إغناء الفقراء عن السؤال يوم الفطر، ولنراعِ كون هذه الزكاة عبادة كوناً يقع منها موقع الروح من الجسد، ونلتفت إلى إدخال الفرح على الفقراء في ذلك اليوم العظيم، ولا يغيبنَّ هذا المقصد عنَّا في زحمة حركة الأقلام في البحث العلمي والإعلامي عن الأقوال والروايات، ولا يشغلنا ذلك عن مقاصد هذا الموسم العظيم، فقد أفلح من تزكى، وذكر اسمَ ربه فصلى.
كما أذكِّر هنا بأن على التجار واجباً دينياً، والتزاماً وطنياً؛ بأن يراعوا حاجة المجتمع في خفض الأسعار، خصوصاً على السلع الاستراتيجية، التي هي أقوات الناس اليومية، كالأرز والتمر ونحوها، والواجب يقع على عاتق تجار الجملة أولاً، ثم تجار التجزئة ثانياً، ومن ورائهم الوزارات المعنية كلٌّ في مجاله.
خلاصة القول: أن الأرز - ومثله التمر - في هذه الأيام: أقرب تناولاً، وأقل كلفة، ومن نظر إلى الواقع بمرآة الشريعة تحقق أن إخراج الأرز إذا وُجد من يقبله وينتفع به أفضل مما سواه، وهذا الصنف من الفقراء موجود بكثرة في بلادنا، ومن اجتهد في البحث عن المحتاجين إلى الطعام سيجدهم، سواء كانوا من ذوي قرابته - وهم أولى - أو غيرهم، ممن استتر برداء التعفف، لا يسألون الناس إلحافاً، ومن لم يجد من يقبل الطعام، أو كان يأخذه ليعيد بيعه من جديد ليحصل على النقد، فالأفضل في حقه إخراج النقود، والله تعالى أعلم.
والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين.