استبقوا الخيرات
21 رمضان 1428

ثبت من حديث جرير رضي الله عنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فإذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" (النساء: من الآية1) إلى آخر الآية (إن الله كان عليكم رقيبا) والآية التي في الحشر "اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ" (الحشر: من الآية18) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، (حتى قال) ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام، ورأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً"(1).

في هذا الحديث بيان طرف من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أنه لم يمدح الصحابي الجليل الذي سارع في رفع المسغبة عن أولئك الفقراء باسمه، وإنما مدح سبقه، ليدخل تحت هذا التنويه كل سباق إلى الخير، ولم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأنصاري رضي الله عنه بذله وعطائه فحسب، بل مدح حضه العملي على الصدقة والمعروف.

إن العمل أبلغ من القول، والناس يتأثرون بالأعمال أكثر مما يتأثرون بالأقوال، ولذا لما رأى الناس هذا الصحابي يتصدق بسخاء تنافسوا في بذل صدقاتهم، فكان له أجر صدقته ومثل أجور الآخرين دون أن ينقص من أجورهم شيئاً.

لقد وردت آيات كثيرة في القرآن تحض على المسابقة والمسارعة في الخيرات، منها قوله تعالى: "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (البقرة: من الآية148)، وقال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (الواقعة:10- 12)، ووصف الله تعالى أنبياءه الكرام في سورة الأنبياء بقوله: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" (الأنبياء: من الآية90)، وقال الله تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران:133)، وقال تعالى: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (الحديد: من الآية21)، وقال عز وجل: "أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" (المؤمنون:61).

ما أكرم الله تعالى الذي يهب على فتح باب الخير الثواب الجزيل والأجر العظيم، فيعطي السابق مع أجره مثل أجور من تبعه وتأسى به دون أن ينقص الداعي من أجور المدعوين شيئاً، وما أجدرنا ونحن في هذا الشهر الكريم أن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر وأن نتنافس في شعب الإيمان، وهي أفضل ما تنافس فيه المتنافسون.

_______________
(1) رواه مسلم، 2/704، 1017.