جمع القرآن في عصر الخلافة الراشدة ..قراءة تربوية وإدارية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فقد قال الرسول "صلى الله عليه وسلم": (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) (1). والسنة الأصل فيها الطريقة والسيرة. (2). فهي لا تقتصر على الشعائر التعبدية والأحكام الفقهية، بل وتشمل سيرهم في السياسة والإدارة والتربية وغيرها من المجالات.
وسنتتبع هنا سيرهم الإدارية والتربوية من خلال مشروع واحد من مشاريعهم الحضارية التي حافظوا بها على القرآن الكريم المنهج ومصدر التلقي، كما حفظوا بها وحدة المسلمين من التفرق والاختلاف.
تمهيد..
يطلق جمع القرآن ويراد به عند العلماء أحد معنيين: حفظه، وكتابته.
وقد كان النبي "صلى الله عليه وسلم" حريصا على حفظه كما قال تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرءناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ).
وحرص الصحابة _رضي الله عنهم_ على حفظ القرآن، وحفظه جم غفير منهم حيث كان السباق على حفظه وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار. قتل منهم في بئر معونة سبعون ومثلهم في اليمامة. وبرز من هذا الجم الغفير سبعة ذكرهم البخاري في صحيحه(3) وهم: عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو زيد بن السكن وأبو الدرداء "رضي الله عنه"، حيث جمعوا القرآن كله في صدورهم وعرضوه على النبي  واتصلت بنا أسانيدهم.
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو "رضي الله عنه" قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ "صلى الله عليه وسلم" يَقُولُ: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَالِمٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ).
وعن قَتَادَة قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ "صلى الله عليه وسلم"؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "رضي الله عنه" قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ "صلى الله عليه وسلم"وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ.
إلى جانب العناية بحفظ كتاب الله اتجهت عناية النبي "صلى الله عليه وسلم" بكتابته فاتخذ كتابا للقرآن من أجلاء الصحابة كعلي ومعاوية وأبي بن كعب وزيد بن ثابت "رضي الله عنه"؛ تنزل الآية فيأمرهم بكتابتها ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، وكان القرآن يكتب في العسب واللخاف والكرانيف والرقاع والأقتاب وقطع الأديم والأكتاف، وتحمل الصحابة في ذلك مشقة عظيمة.
وإتماماً للعناية بالقرآن فقد كان جبريل يعارض النبي "صلى الله عليه وسلم" بالقرآن مرة في رمضان من كل سنة، وعارضه مرتين في السنة الأخيرة من حياة رسولنا الكريم "صلى الله عليه وسلم" حيث كانت العرضة الأخيرة هي الصورة النهائية للقرآن في حياة النبي "صلى الله عليه وسلم".
ثم تجدد جمع القرآن في عصر الخلافة الراشدة، وأخذ أبعاداً حضارية. وسنأخذ هنا روايتين أساسيتين في ذلك، ونلحق بهما غيرهما من الآثار ذات الدلالة، نتأمل فيها ونستنبط منها ما يأذن الله.
الرواية الأولى:
عن زَيْد بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ،فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(4)
وبدأ زيد بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في مهمته الشاقة،معتمداً على المحفوظ في صدور القراء والمكتوب لدى الكتاب،وقد راعى غاية التثبت؛ فمع كونه حافظاً لم يكتفِ بمجرد وجدانه الآيات مكتوبة حتى يشهد بها من تلقاها سماعاً، قال ابن شامة: وكان غرضهم ألا يكتب إلا عين ما كتب بين يدي النبي "صلى الله عليه وسلم"، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.(5).

الرواية الثانية:
عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّاْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ. فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.(6)
أتمت اللجنة العلمية عملها بعناية فائقة، وأقرهم الصحابة على هذا العمل آنذاك، حيث تم نسخ ستة مصاحف وزع منها أربعة على الأمصار: مكة والشام والكوفة والبصرة، وأبقيت النسخة الخامسة بالمدينة واحتفظ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالنسخة السادسة. ثم نقلت سائر المصاحف عبر القرون التالية عن مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المعروف بالمصحف الإمام، وسمي رسمه بالرسم العثماني.(7).


الدلالات والفوائد:
1- المبادرة الذاتية من أفراد الجماعة.. تلك المبادرة البناءة من عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين قدم فكرة جمع القرآن إلى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بعد أن تبين له وجه المصلحة واستجمع أمره حيث كانت معركة اليمامة وقتل الجم الغفير من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن القراء منهم سالم مولى أبي حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو من الذين أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلقي القرآن عنهم، فخشي عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن يذهب القرآن،مما جعله يستشعر المسؤولية ويقدم هذه الفكرة ويحث عليها. وكذا حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين رأى اختلاف الناس في القراءة اختلافاً يفضي إلى مفاسد ركب إلى الخليفة ناصحاً ومشيراً.
2- رغم الوعد الصادق من الله بحفظ كتابه كما في قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " إلا أن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم كانوا يدركون تماما أن من طبيعة هذا الدين أنه لا يقوم بذاته بل على كواهل طائفة من البشر، تتحمل في سبيل ذلك ما شاء الله مما يقدره على عباده الصالحين ويثيبهم عليه، ولهذا كان الخوف من ذهاب القرآن، وكان الشعور بمسؤولية حفظ القرآن، وهذا من فقه الصحابة.
3- أصالة المنهج في العمل لدين الله هو المحور الرئيسي بعد الإخلاص لله تعالى في قبول الأعمال، ولا يضره الإبداع والتجديد في الوسائل. فهذا عمر "رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" لما أشار بجمع القرآن على أبي بكر "رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" نفر أبو بكر من ذلك، وقال: كيف أفعل ما لم يفعله رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وكذا زيد "رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"... إنها حساسية المنهج حتى قال عمر: (وما عليكما لو فعلتما؟) مبيناً أن هذه المسألة من قبيل المصالح المرسلة، قال ابن الباقلاني: وقد فهم عمر أن ترك النبي "صلى الله عليه وسلم" جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك...(8). فانظر كيف تورع أبو بكر وزيد بن ثابت عن فعل هذا العمل مع علمهما بما يترتب عليه من مصلحة حفظ الشريعة وهي مصلحة كما تعلم عظمى لا يقوم بها إلا حراس الشريعة وحماة العقيدة، فتورعا لأنهما لم يجدا لها أصلاً في سنة النبي "صلى الله عليه وسلم" حتى استطاع عمر وهو الملهم المحدث أن يحل المعضلة ويقنعهما بما رءاه، قال الشاطبي رحمه الله: وحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتاً عنه في زمانه "صلى الله عليه وسلم" (9). إن تأصيل العمل يأتي في المرتبة الثانية بعد الإخلاص لله ليتكون منهما شرطا قبول العمل: الإخلاص والمتابعة.
4- مراعاة ظروف المرحلة في العمل لدين الله؛ مع الحفاظ على مقاصد الشريعة وحدودها كان حاضراً في ذهن المذكورين من الصحابة والمعنيين بجمع القرآن. فعمر "رضي الله عنه" لاحظ تفرق الصحابة في الأمصار للجهاد في سبيل الله وقتل كثير منهم بله القراء، فأشار إلى جمع القرآن خشية ذهابه، وانشرح صدر أبي بكر وزيد بن ثابت لذلك، وتم العمل. وعثمان بن عفان وحذيفة رأيا اختلاف الناس أثناء الجهاد في سبيل الله وتفرقهم في الأمصار في قراءة القرآن إلى درجة أن كفر بعض منهم بعضاً آخر، فكان حمل الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وهكذا تنهض الأمة بالتجديد واعتماد المرحلية في إطار المنهج.
5- أثر الحركة الجهادية والدعوية في الريادة العلمية حيث تم جمع القرآن وتدوينه بطريقة رائعة محكمة على أيدي من ذكرنا في عهد أبي بكر وعثمان (واقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ومن سباقهم في ذلك مالك بن أنس "رضي الله عنه" فقد كان من أشدهم اتباعا وأبعدهم من الابتداع)(10) وكان مبعث ذلك والدافع إليه أثراً من آثار الجهاد في سبيل الله وتعليم الناس دين الله في الأمصار، حيث إن الجمع في عهد أبي بكر كان دافعه نازلة مقتل القراء في اليمامة، والجمع في عهد عثمان كان منشؤه أثناء الفتوحات الإسلامية وتفرق القراء في الأمصار، وأخذ كل مصر عمن وفد إليه من القراء قراءته، فكان إذا جمع الناسَ موطنٌ من مواطن الغزو والجهاد اختلفوا في أوجه القراءات، فكانت نازلة أخرى أثرت الساحة العلمية وأسهمت في تشييد حضارة الإسلام.
إن الحراك الدعوي والجهادي له أثره، وإن من آثاره الإيجابية اليوم – وكلها كذلك –الإقبال الكبير على التدين، كما نرى اليوم من آثار الصحوة الإسلامية. وهل كان إسلام عمر الفاروق "رضي الله عنه" إلا نتاجاً من أثر ذلك الحراك.
ولا تزال فضائل الدعوة والجهاد تترى على الناس كافة.
6- قال زيد "رضي الله عنه": (فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر)..
القائد الجيد هو الذي يحاور الأفراد ويناقشهم ويسعى لإقناعهم، ما دام في الأمر فسحة، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يؤثر عليهم ويقنعهم بفكرته، بل يصل بهم إلى أن يتبنوا أفكاره ويكونوا جنوداً مخلصين لها.. وهكذا كان أبو بكر "رضي الله عنه". ليس في هذه النازلة فحسب بل تجده في نوازل أخرى كذلك مثل إقناعه عمر "رضي الله عنه" بقتال مانعي الزكاة.
القائد الجيد لا يقوم بإصدار الأوامر من أبراجه العاجية، ولا يستسيغ أن ينفذ الأتباع أمره دون قناعة منهم، لما في ذلك من ضعف أخلاقيات القيادة الفاعلة، وأيضاً لما في ذلك من أثر على المهمات والأعمال؛ فتفشل أو تضعف.
إن القيادة كما تعني القدرة على التخطيط والتوجيه فهي أيضاً تعني القدرة على التحفيز والتأثير في الأتباع للقيام بالمهام والأعمال.
7- القائد الجيد هو من يستشير أهل الرأي في جماعته ويطلع على آرائهم ويقارنها..فهذا أبو بكر "رضي الله عنه" يستمع إلى مشورة عمر "رضي الله عنه" ويناقشه وهذا عثمان بن عفان "رضي الله عنه" كما في رواية ابن أبي داود لما كان في خلافته جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافاً، لكنه لم يحدث شيئاً حتى جاءه حذيفة "رضي الله عنه" بخبر الاختلاف وقال: والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنه أن يجعلها قراءة واحدة. وعن علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" قال: والله ما فعل عثمان الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأٍ منا... قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت (11) .
8- القرارات الكبرى عندما يسبقها إجراءات للتأمل والمشورة والدراسة وجمع البيانات وتحليلها، وتقييم البدائل والخيارات، فإنها حتماً ستكلل بالسداد والتوفيق وسيكون لها الأثر الإيجابي والكبير بإذن الله.
وقرار كهذا القرار – وهو جمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة – مثال على ذلك.. فعثمان بن عفان "رضي الله عنه" لاحظ المشكلة، لكنه تريث واستشرف أبعادها، ووعظ الناس واستمع إليهم واستشار الصحابة، ثم صدر القرار فكان الخير لهذه الأمة جمعاء.
9- العمل لدين الله يلزمه بعد الاستعانة بالله التخطيط، والتخطيط الجيد هو الذي يشتمل على رؤية واضحة لأهداف العمل على ضوء المقاصد الشرعية مع استشراف المستقبل، وآليات العمل وضوابطه وقيمه، وتكوين اللجان المشرفة والمنفذة مع الفصل بينهما.
10- (فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم)
تكونت اللجنة العلمية لكتابة المصحف بأمر الخليفة عثمان بن عفان "رضي الله عنه" من زيد بن ثابت الأنصاري والقرشيين الثلاثة. وهنا تتجلى الحنكة الإدارية للخليفة الراشد حيث كون اللجنة ووزع الأدوار بوضوح؛ فزيد "رضي الله عنه" يكتب وسعيد بن العاص "رضي الله عنه" يملي وعموم الثلاثة القرشيين يرجحون اللسان القرشي والخليفة يحسم الخلاف إن لم يترجح، قال ابن شهاب: (فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوة، فقال القرشيون: التابوت. وقال: زيد: التابوة، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش) (14) مستدلاً على هذا المعيار بقوله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم).
11- لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا زيد "رضي الله عنهم" حين جمع القرآن بحاجة إلى ذلك في زمنهم، فقد كان القرآن محفوظاً في صدورهم، وصدور أبنائهم، لكن التفكير الاستراتيجي والنظرة بعيدة المدى تجعل أمثال هؤلاء الأفذاذ يستشرفون مستقبل أمتهم ويتوقعون تحدياته وفرصه، ويضعون حلولاً لمشكلاته، فيقع المستقبل على المستقر،كما تقع النقاط على الحروف فتزيل عجمتها.
إن أعمالنا سيكتب لها السداد والتوفيق إن شاء الله تعالى إن صحبتها عدة عوامل، منها التفكير المستقبلي والنظرة الاستشرافية. وها نحن إلى هذا الوقت وإلى أن يشاء الله نتفيأ ظلال هذا العمل العظيم: جمع القرآن.
12- الخطة الجيدة تحتاج إلى تنفيذ جيد..
بعد تكوين اللجنة العلمية بدأت الكتابة على المعايير الموضوعة لها.
وكتبت ستة نسخ ووزعت كما هو في الخطة، وأحرق ما سواها وأبيد. (حتى إذا نسخوا الصحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق).
هناك اعتقاد خاطئ: (عندما تقر الخطة فإن عملية التخطيط قد اكتملت) ولكن النظرة الصحيحة هي: (عندما تقر خطة العمل فإن المرحلة التالية للتخطيط قد بدأت. والمرحلة التالية هي: التنفيذ الجيد ومتابعته بشكل جيد).
بقيت الصحف التي كانت بحوزة حفصة بخط زيد بن ثابت "رضي الله عنه".. وبعد أن ردت إليها ثم ماتت أرسل مروان بن الحكم إلى عبد الله بن عمر "رضي الله عنه" وعزم عليه بإرسال الصحف إليه، فأمر بها مروان فشققت، وقال: إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان؛ أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب (12).
13- قال زيد "رضي الله عنه" : (قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله "صلى الله عليه وسلم"؛ فتتبع القرآن فاجمعه). القائد له قدره على معرفة مواهب الأفراد وقدراتهم ، كما أنه يستطيع تحليل شخصيات أتباعه، من خلال سبرهم ومعايشتهم وتكليفهم بالمهام، ومن خلال الاستشارة، فأبو بكر هنا يبين لزيد الأسباب الداعية لتكليفه بهذه المهمة من كونه شاباً فيكون أنشط لما يطلب منه،عاقلاً فيكون أوعى له ، والقضية تتطلب عقلا علميا رزينا، أميناً فلا يتهم في دينه وأمانته، وبصفته أحد كتاب الوحي الذين شرفوا بكتابة كلام الله ومارسوها، كما أن له شرف العرضة الأخيرة قبل وفاة رسول الله "صلى الله عليه وسلم". والعقل والأمانة صفتان لا تعرف في الرجل إلا بعد سبر ومعايشة واستشارة، قال ابن حجر: ووقع في رواية سفيان بن عيينة (فقال أبو بكر: أما إذ عزمت على هذا فأرسل إلى زيد بن ثابت فادعه، فإنه كان شابا حدثا نقيا يكتب الوحي لرسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فأرسل إليه فادعه حتى يجمعه معنا...) (13) .
14- كما أن القائد الجيد هو من يختار الشخص المناسب للعمل المناسب في المرحلة المناسبة، وهذه من أخص خصائص القيادة الجيدة، فهي تجمع بين أمرين، أولهما: فهم طبيعة العمل ووضوح الأهداف. وثانيهما: اختيار الصالح لها.
15- لا يمكن أن يكون الناس كلهم زيد بن ثابت "رضي الله عنه"، فهم قدرات متفاوتة "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا"، وإن كان الرسل قد فاضل بينهم المولى سبحانه؛ فسائر الناس من باب أولى"تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات". والقائد الجيد ينظر إلى الجميع بعين العدل ويجندهم؛ كل بحسب طاقته وما يناسبه. وتأمل دور أم المؤمنين حفصة بنت عمر في جمع القرآن .. دور محدود، لكنه مهم، ومع ذلك لا يستطيعه كل أحد.
16- التربية على ضبط النفس والطاعة والنزول عن رأي النفس لرأي الجماعة مهمة شاقة، غير أن قائداً كرسول الله "صلى الله عليه وسلم" وخلفائه الراشدين يمكنه أكثر من ذلك .. فالقيادة الجيدة هي في الحقيقة تربية!
وفي المواقف تتكشف المخرجات التربوية! فهذا عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه" وهو من الأربعة الذين أمر النبي "صلى الله عليه وسلم" بأخذ القرآن عنهم في الحديث الآنف الذكر ( خذوا القرآن من أربعة .... )يقول معاتباً على عدم إشراكه في لجنة كتابة المصحف وجمعه، وعدم أخذ رأيه في ذلك: (لقد أخذت من في رسول الله "صلى الله عليه وسلم" سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان) (15) لكنه في نهاية المطاف ينزل عن رأيه إلى رأي الجماعة، مع ثقته برأيه.. هكذا الجندية الحقة: التزام بالأمر وإن كان في النفس منه شيء.
17- حاجة الأمة في مشاريعها الدعوية والعلمية بل وكل مشاريعها الحضارية إلى العمل الجماعي والمؤسسي.. العمل الذي يقوم على لجان وهيئات ومؤسسات لا على أفراد، تبدأ فيه كل مجموعة أو لجنة من حيث ينتهي من قبلهم؛ لا من الصفر!
هذا أبو بكر "رضي الله عنه" يبدأ من حيث انتهى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وهذا عثمان "رضي الله عنه" يبدأ من حيث انتهى أبو بكر "رضي الله عنه" حتى استقر الأمر.
الأعمال المؤسسية ضمان بإذن الله من انقطاع العمل وفساد الثمرة، وكثيراً ما تؤتى الأمة من قبل الأفراد الذين يبذلون ويضحون وهم محتسبون في ذلك، لكنهم لا يلبثون أن ينقطعوا عن أعمالهم لأي سبب كان؛ فتذهب أعمالهم وتنقطع معهم.

وبعد، فهذا غيض من فيض من الألمعية الإدارية والتربوية التي تميز بها أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وبخاصة الخلفاء الراشدون، إضافة إلى عميق الإيمان الذي خالط شغاف قلوبهم؛ يجعلك تدرك أبعاد قول النبي "صلى الله عليه وسلم" ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن يتبع سنتهم ويهتدي بهديهم، وأن يسلك بنا وجميع المسلمين سبل الرشاد.


الهوامش:

1- الترمذي رقم 2676 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2- النهاية في غريب الحديث 2/409.
3- صحيح البخاري،كتاب فضائل القرآن حديث رقم 4449 – 5003 – 5004 .
4- صحيح البخاري،كتاب فضائل القرآن حديث رقم 4986 .

5- مباحث في علوم القرآن 127.
6- صحيح البخاري،كتاب فضائل القرآن حديث رقم 4987 .
7- عصر الخلافة الراشدة 281.
8- فتح الباري 8/629.
9- الموافقات 3/41.
10- الاعتصام 1/230.
11- فتح الباري 8/634.
12- فتح الباري 8/635.
13- فتح الباري 8/636.
14- فتح الباري 8/629.
15- فتح الباري 8/653.