ثغرة في سد
2 جمادى الثانية 1428

سد مأرب سد عظيم، له تاريخ مجيد، تعظم آثاره عين الناظر، وتدهش له لذلك البناء الذي قد يفوق كثيراً مما وصل إليه المعمار اليوم، إن ثغرة غفل عنها أهل ذلك السد العظيم أو تغافلوا عنها أودت بسدهم، وتشتتوا بعد ذلك شذر مذر، وتفرقوا أيدي سبأ.

وكم في حصوننا من ثغرات، كم نجد في حصن الأسرة من ثغرات يغفل عنها رب الأسرة، ويحسب أنها ليست ذات بال فتؤدي إلى مشاكل عظيمة، وبلايا كبيرة، بل ربما أودت بكيان الأسرة، وفرقت قلوب أفرادها.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لحظ هذه الثغرة في حصن بشير رضي الله عنه يوم جاءه حاملا ابنه النعمان، يستشهده على هبة للنعمان لم يعط مثلها بقية أولاده.

قال النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر: "أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا" . قال: لا. قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". قال: فرجع فرد عطيته"(1).

إنه أمر يبدو يسيراً عطية لأحد الأبناء وقد يكون الباقون عنها راضين ولكن رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثغرة كافية لذهاب ريح الأسرة وضياع الحقوق والألفة فيها ولذا في بعض الروايات قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان"؟ قال: لا. قال: "فأشهد على هذا غيري"، ثم قال: "أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء"؟ قال: بلى. قال: "فلا إذا"(2)، إذا أردت أن يكون شمل الأسرة مجتمعاً فلا تفتح ثغرة في حصنها:


فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام

فرب عقوق يصدر من أحد الأبناء الذين لم ينالوا مثل تلك الهبة التي أعطيت للنعمان، ويستنكر الأب ذلك العقوق، ولا يرى له مسوغاً، ويعجز عن تفسير ما حدث من ولده، ثم يُرجع عقوقه هذا إلى سوء أدبه ولؤم طباعه، ولا يشعر بأن ذلك العقوق ناله بما كسبت يداه بسبب ثغرة فتحها في بناء المحبة الأسرية، وربما يعمل الحقد والحسد في صدور بقية أبنائه على النعمان فيصيبه بذلك من الشر أضعاف أضعاف الخير الذي حصل له من تلك العطية، فتكون منحة الوالد تلك من أعظم المحن عليه.
فأمر يسير ربما أدى إلى نتائج لم تكن في الحسبان، كما انهدم سد مأرب بثغرة في جداره من فأرة!

إن كثيراً من الناس عندما تقع عليه مشكلة يعرضها ويذكر أخطاء الأطراف الأخرى، وربما جهل أو تجاهل الثغرة التي منها خلصت تلك المشكلة إليه، وربما كان يعرف تلكم الثغرة ولكنه يستصغرها، ولا يعزو لها تلك النتائج العظيمة، والأمر بخلاف ذلك.

إن اتهام النفس من أعظم عوامل تفقد الثغرات ومعرفتها، فإن من أبعد نفسه عن دائرة الاتهام قد يعمى عن معرفة الخلل الذي يقع منه. وبالمقابل فإن إعطاء الثغرات حجمها، والقيام بسدها يكفل بقاء الحصن آمناً، أو على الأقل يقلل من عوامل انهياره.

_______________
(1) رواه البخاري، 2/914، (2447)، ومسلم، 1/196، (213).
(2) رواه مسلم، 3/1241، (1623).