"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" (النحل: من الآية120)، "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ" (هود:75)، "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً" (النحل: من الآية123)، نصوص واضحة بينة عن فضل ذلك الرسول الكريم، لا تكاد تجدها وصفاً أو مدحاً لغيره من المرسلين سوى نبينا _صلى الله عليه وسلم_، إن شخصاً هذه نعوته وهذه صفاته وتلك أخلاقه وذلك سمته، جدير أن يقف العاقل معه متأملاً نهجه في الحياة وطريقته في العيش.
إن التزكية والمدح لهذا الإمام العظيم والنبي الكريم لم يأت من أحد المصلحين أو أحد العقلاء أو جمع منهم، مع أن من مدحه العقلاء والمجربون كان جديراً بالاهتمام، والوقوف مع تجربته في الحياة، فما بالنا بمن مدحه ونعته بتلك الأوصاف رب العز والجلال واختاره من قال عز وجل: "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ" (القصص: من الآية68)، عندئذٍ يكون الاقتداء والتأسي به من الواجب عقلاً، كما أنه من الواجب شرعاً قال الله تعالى: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل:123).
ولعظم تجربة إبراهيم _عليه السلام_ وعدم إمكان سبرها في عجالة كهذه فلنقف على جزء من جوانبها وهي تعلق إبراهيم _عليه السلام_ الدائم برب العزة والجلال.
إن حياة إبراهيم يمكن إجمالها في قولنا هي تعامل مع الله تعالى، فقد كان دائم التعلق بخالقه واللجوء إليه في كل صغيرة وكبيرة.
فيوم مر بمصر وتعرض أهله لمكر حاكمها الفاجر، أقبل إبراهيم _عليه السلام_ على الله يدعوه، فنجى الله أهله ممن أراد بهم السوء والفحشاء، ولما أمره الله تعالى بترك هاجر وولدها _عليهما السلام_ في وادي غير ذي زرع عند بيته المحرم، قابل الأمر بالخضوع والإذعان، ثم انصرف عنهم يدعو الله تعالى، "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم:37)، نعم هذه الدعوات رفعها إبراهيم _عليه السلام_ للذي يصعد إليه الكلم الطيب ويرفع العمل الصالح، لم يرفعها إبراهيم _عليه السلام_ إلا بعد أن توارى من أهله، وخلا بربه، فعل ذلك حتى لا يتعلق أهله بدعائه، ولا يتكلون على صلاحه بل يتعلقون بربهم تعالى، وهكذا كان إبراهيم _عليه السلام_ دائم الفرار إلى الله "إن إبراهيم لحليم أواه منيب".
ولما أراه الله تعالى في المنام أن يذبح ابنه، نادى ولده فقال كما أخبر الله عنه: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" (الصافات:102، 103)، لقد تعلق قلب الوالد والولد بالله تعالى واستسلاماً له، ولم يترددا في الإذعان والانقياد لله تعالى، فأي تعلق بالله تعالى يعدل تعلقهما؟ سوى تعلق نبينا _صلى الله عليه وسلم_.
إن الله تعالى أمرنا بالتعلق به، واللجوء إليه والاعتماد عليه، قال الله تعالى: "وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً" (الأعراف: من الآية56)، وقال الله تعالى: "فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ" (الشعراء:213)، وكافأ الله المنيبين إليه في الدنيا قبل الآخرة ويكفي هذا العلو والفضل والتمجيد لإبراهيم _عليه السلام_ من رب العالمين.