منبر .. يوقد الهم !!

إن حياة الناس شيء, وحياة أصحاب المبادئ والأهداف السامية شيء آخر . فهذا نور الدين محمود الملك المظفر والقائد المسدد - رحمه الله - يبلغ به الهم مداه, ويتردد في نفسه صداه من أجل فلسطين , إنه الهم الذي أثقل كاهله , وأرَّق عينيه , وأخفى البسمة عن محياه , إنه هم القدس وكفى .. الهم الذي ضعف في نفوسنا , وانصرفت عنه قلوبنا - لطول الأمد - حتى قست ويئست , فاحتجنا إلى التذكير به وبعث الأمل عليه كل حين .
ذكر أبو شامة في كتاب الروضتين :( أنه جاء إلى نور الدين ذات يوم جماعة من العلماء فقالوا : جئنا نروي عنك بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مسلسلاً قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم , فتبسم نروه عنك . فالتفت إليهم نور الدين والهم يعصر فؤاده وهو يقول : كيف ابتسم والمسجد الأقصى راسف في قيود الذل والهوان , تحت سنابك خيل الأعداء ؟! )
آذاه جرح أوجعه فبكى وأبكى من معه
جرح قديم راعف أحيا القصيد ورجَّعه
إن نور الدين لا يلام لو تبسم, فقد تبسم النبي صلى الله عليه وسلم ومكة في قبضة الكفر, والأصنام معلقة على جدران الكعبة, - ومن يطيق ما أطاقه صلى الله عليه وسلم - أما نور الدين فعجزت نفسه أن ترقى لطاقة النبي صلى الله عليه وسلم - وأنا لها ذلك – فارتفعت عن حال كثير من الناس وما وقفت عليها همومهم , إذ غلب الهم الجاثم على نفسه فمنعه البسمة ..
من لم يبت والهم حشو فؤاده لم يدر كيف تفطر الأكباد !
لقد ظلت القدس ترسف في قيود الصليبيين قرابة السبعين عاماً ..
سبعون عاماً أو تزيد والقدس محجوبة عن المسلمين ..
سبعون عاماً أو تزيد ونداء الحق لا يرفع من مآذن بيت المقدس ..
سبعون عاماً أو تزيد كفيلة أن تبدد كل أمل, وأن تغرس في النفوس اليأس وتورثهم العجز والكسل ..
حتى إذا استيئس الناس قام نور الدين يبدد اليأس بالأمل ويعيد الهمة بالعمل , فماذا فعل ؟! . لقد أمر ببناء منبر للأقصى , والقدس لا زالت في الأسر !! إن ذلك لم يكن منه حلم نائم , أو مجازفة موتور , بل كان ذلك منه إملاء الحكمة وناتج النظر الثاقب . وفعلاً ابتدأ بناء المنبر وجُل الناس في حيرة يرقبون, منهم من صدمته الدهشة فلا يملك التعبير, ومنهم من أخفى ابتسامة ساخرة على هذا العمل الجليل, ومنهم من نطق وقال هذا مستحيل, يحكي أبو شامة رحمه الله حال الناس عند بناء النبر أنهم يقولون :( هذا أمر مستحيل , وحكم ماله دليل , وذكر جميل وأجر جزيل لو كان إليه سبيل , وهيهات أن يعود القدس إلى الإسلام , ويقضي الإصباح فيه على الظلام , فإن الفرنج مستولون مستعلون , ويكثرون على الأيام ولا يقلون , أما ناصفونا على أكثر أعمال حوران, وقابلوا الكفر بالإيمان, وقد أعجزوا ملوك الإسلام إلى اليوم, فما أصعب وأتعب وَقْم القوم .. ) إلى آخر هذا الحديث المُخَذِّل المقعد .. وهي لهجة مكرورة وخطاب لا يمل من إعادته المثبطون اليائسون, يقابلون به كل جهد مشكور , وعملٍ مبارك مبرور يراد به نصرة الإسلام وأهله . ولم يعلم أولئك القاعدون أن الهم الذي يتقد في النفس, والرغبة الجامحة التي تستولي على الحس, هي طليعة النجاح في كل عمل والنصر في أي معركة. أما الذين أوتوا العلم والإيمان فيقولون :( اصبروا , فلسر هذه الأمة نبأ, وهو كما قال الله تعالى" ويصنع الفلك وكلما مرَّ عليه ملأ " ) . إن بناء نور الدين للمنبر أورثنا عدة معانٍ عظيمة ينبغي أن لا تغيب نذكر منها :
أولاً: سلامة القصد وصدق العزيمة .
إن نور الدين لم يبن المنبر لحظ نفسه, فقد مات والمنبر لازال في طور الإعداد , لقد مات - رحمه الله - ولم تكتحل عيناه برؤيته قد اكتمل , ولا برؤيته وقد نصب ببيت المقدس , لكن هل مات المشروع معه ؟! . إنه لما حسنت نية نور الدين كتب الله له من الكرامة والقبول أن شارك الفاتحين الفرحة بمنبرٍ يرقى عليه خطيب المسلمين مشيداً بالفتح والفاتحين,قال العماد :( لما فتحنا القدس .. ذكر السلطان _ صلاح الدين – المنبر الذي أنشأ الملك العادل نور الدين لبيت المقدس قبل فتحه بنيف وعشرين سنة, فأمر أن يكتب إلى حلب ويطلب, فحمل وعمل على ما أمر به وامتثل, فجاء كالروض النضير, والوشي الحبير, عديم النضير ) . كان يمكن أن ينسى المنبر, أو يتخذ غيره استثقالاً لنقله من حلب إلى بيت المقدس, أو يرغب صلاح الدين أن يتفرد بكرامة الفتح بصنع منبر آخر جديد, لكن شيئاً من ذلك لم يقع, يقول أبو شامة:( فعرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده بسنين, وكان من المحسنين الذين قال الله فيهم " والله يحب المحسنين " ) .
ثانياً : بعث الأمل وتدشين العمل .
لقد مات نور الدين لكنه أحيا بهذا المشروع أمة أصبحت بعد أكثر حماساً وأملاً, لقد صار المنبر بمثابة السوط الذي يلهب البدن كلما استرخى أو ركن إلى الترف والسكون . لقد بنى نور الدين المنبر من أجل أن يبعث الأمل في النفوس ويطرد عنها اليأس . اليأس الذي يقطع العمل ويذهب الأمل .. اليأس الذي يذيب المجتمع ويدجنه ويجعله ضعيف الرغبة في التصحيح والجد وإعادة البناء ..
واليأس يحدث في أعضاء صحبه ضعفاً, ويورث أهل العزم توهيناً
لقد فهم نور الدين أن الأمة إذا لم تشرق بالأمل فلن تستطيع أن تفعل شيئاً وستبقى ضعيفة تابعة لا متبوعة.( إن المتشائم ضيق النفس , بسيط التفكير , معدوم الرؤية , بل مشوش النظر , حتى لتنقلب عنده الصور , فيرى الزهرة شوكة, والسنبلة قنبلة , والنخلة حنظلة , يموت كل يوم مرات "يحسبون كل صيحة عليهم" ) .
ثالثاً: تربية النفوس على التصميم والالتزام .
لقد بنى نور الدين منبره لأجل أن يبني التصميم في النفوس ، التصميم والالتزام الذي لا ينقطع إلا بانقطاع الروح, أو حصول المقصود "ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" .
كم هي حاجة الأمة اليوم إلى التصميم والعمل الجاد المستمر المتتابع الذي لا يعرف الفتور أو الانقطاع، كم هي الأعمال الإصلاحية والدعوية التي تنقطع مع غروب شمس اليوم الذي بدأت فيه, ثم يشرق علينا يوم جديد بعمل جديد لا يتم - حالنا فيه كحال الذي يبتدأ كل يوم ببناء بيت فلا ينهيه فإذا جاء اليوم الأخر ابتدأ بالبناء في مكان آخر حتى أصبحت بيوته أطلالاُ موحشة لاتكن عن مطر ولاتحجب عن شمس -
مشاريع كثيرة التي ابتدأناها ولم ننهيها , سواء على نطاق الأفراد أو المؤسسات , كم هم الذين ابتدؤوا بحفظ القران ثم انقطعوا أو حضروا دروس ثم توقفوا , كم وكم قام دور المسجد ثم انقطعنا عنه أو هدية الأسرة الشهرية فانقلب الشهر سنة أو يزيد ((وأحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل )) .
رابعاً: وضوح الهدف وتوجيه الهمة لتحقيقه.
لقد بنى نور الدين منبره في سعي منه لضمان حيوية الأمة واستمرار توقدها, فقد ( كان فتح القدس في همته من أول ملكه) , لقد جعل المنبر هدفاً مرئياً واضحاً يتطلع إلى تحقيقه كل أحد, إن الذي تغيب أهدافه تتقاطع جوادُّه , وينقطع جواده , ويضيع سواده. وإذا كان نور الدين قد بنى المنبر ليحدد الهدف ويجمع الجهود عليه, فإنه لم يغفل أبداً إعداد الرجال الذين سيحملونه ويحمونه , فكم نحن بحاجة إلى إعداد منابر - لكنها من نوع آخر - من لحم ودم, لا من خشب مطعم بالعاج والصدف , نحتاج إلى إعداد نفوس تؤمن بالله وتثق بموعوده , تعتاد صف أقدامها للصلاة, تعرفها نجوم الليل بسجودها .
بقي المنبر بعد بنائه نيفاً وعشرين سنة لم ينصب في مكانه , لقد مات الباني والقائم على إعداده ,لكن الهمم لم تمت بل بقيت حيةً متوقدة , في تربيةٍ للأمة على عدم انتظار النتائج .. ثم لما نصب في المسجد الأقصى بقي فيه يطاول الزمن, ويُشهد التاريخ على أن العزائم تغلب الهزائم, لقد بقي المنبر عامراً يحكي القوة والعزة حتى التهمه حريق الأقصى بتدبير من اليهود يوم الخميس الثامن من شهر جمادى الآخرة عام 1389هـ , فكم بين البناء والحرق , وما ندري لو لم يحترق إلى متى سيبقى ؟! ( استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )
============================
يرجع إلى :

1- تذكير النفس بحديث القدس ..للعفاني
2- مختصر كتاب الروضتين ..للشريف