الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فإن طلب الربح الحلال والسعي فيه بجد، والإقلاع عن الربح الحرام والابتعاد عنه أصبح مطلباً ملحاً في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى؛ وذلك لما نرى من كثرة النكسات الاقتصادية على شتى الصعد، ولما يسببه من بُعد في إجابة الدعوات ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم" (1) وقال "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"(2)ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)، وإن طلب الحلال واجب على كل مسلم، وإنبات اللحم من سحت(3) محرم النار أولى به(4)، ويجب لمن وقع بشيء من ذلك المسارعة إلى التوبة والتخلص من المال المحرم أياً كان نوعه وشكله؛ وذلك برده إلى مستحقه الأصلي أو البدلي عند تعذره.
وفي هذا الزمن ابتلي كثير من المسلمين بالتعامل بالربا مع الأفراد أو الشركات أو البنوك أو غير ذلك، وعندها يقع الناس في الحرج، وترد بعض الإشكالات والتساؤلات التي تعرض على طلاب العلم والمفتين على نحو:
هل المقبوض بعقد ربوي يملك أو لايملك؟ وما الحكم إذا نتج عن هذا المقبوض بعقد ربوي ربح هل يملكه المشتري أو لا يملكه ويكون لمالك الأصل(البائع) بناء على فساد العقد ولم يثبت الملك في الأصل بقبضه؟ وما كيفية التخلص من الربح الربوي؟ وهل يجوز التصدق به على الفقراء والمساكين ونحوهم؟ وهل يجوز رد الأرباح إلى البنك؟ وغير ذلك من الأسئلة التي حاولت جعل جوابها في نسق واحد في أثناء البحث، لبناء بعضها على بعض.
ولأجل تبسيط صورة هذا الموضوع أكثر أضْرِب مثلاً، فأقول: لو أن مسلماً عقد عقداً ربوياً وقبض المعقود عليه، وليكن أسهماً قبضها بعقد ربوي ووضعت في محفظته(5)، ولم يضارب بها، ورغب في أرباحها ثم استحقت الأرباح، فهل يملك تلك الأسهم بالقبض؟ ولمِن تكون هذه الأرباح المقبوضة بعقد ربوي ؟
هل تكون لمشتري تلك الأوراق المالية بعقد فاسد أو للمالك الأصل (البائع) وهي (الشركة مصدرة تلك الأوراق) بناء على أن المقبوض بعقد فاسد لا يملك؟
ولأجل معرفة لمن الأرباح؟ لابد من معرفة لمن الأصل(السهم المقبوض بعقد ربوي) أي هل تملك تلك الأوراق المالية بالقبض أو لا ؟
هذه المسألة من النوازل الفقهية التي لم يتطرق لها الفقهاء السابقون بحثاً وتدليلاً، ولكن أصولها موجودة في كتبهم، فإن هذه المسألة تعود إلى مسألة( ملكية المقبوض بعقد فاسد ) فيكون التخريج عليها.
فيقال: إن العلماء اختلفوا في تملك الأوراق المالية الربوية بالقبض على قولين:
القول الأول:
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية(6)، والشافعية(7)، والحنابلة(8)، وبعض الحنفية(9) إلى أن العقود الربوية لا تملك ولو اتصل بها القبض، بل هي مفسوخة أبداً، وعلى قولهم هذا فلا تملك الأوراق المالية الربوية بالقبض، ويجب فسخ العقد وردها .
جاء في "المدونة" عن ابن وهب قال:( وسمعت مالكاً يقول الحرام البين من الربا وغيره يرد إلى أهله أبداً فات أو لم يفت(10))(11).
وقال ابن عبد البر: ( قال مالك: ومن البيوع ما يجوز إذا تفاوت أمره وتفاحش رده، فأما الربا فإنه لا يكون فيه إلا الرد أبداً، ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}(12).
ثم قال: (هذا قول صحيح في النظر وصحيح من جهة الأثر فمن قاده ولم يضطرب فيه فهو الخيِّر الفقيه...)(13).
وقال: ( وقد اتفق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا مفسوخ أبدا )(14).
وقال السرخسي من الحنفية:( إن الربا... لا يكون موجباً للملك بكل حال)(15).
القول الثاني:
ذهب جمهور الحنفية(16) إلى أن العقود الفاسدة ومنها الربا تملك إذا اتصل بها القبض، ولكنه ملك خبيث يجب فسخه، فإن تصرف به ببيع أو هبة أو نحوه صح، وعليه فإن الأوراق المالية الربوية تملك عند جمهور الحنفية إذا اتصل بها القبض، لكنها ملك خبيث يجب عليه رد الربا على من أربى عليه.
والراجح في هذه المسألة -والله أعلم- أن الأوراق المالية الربوية لا تملك ولو اتصل بها القبض، ويجب فسخ ما قبض منها، فيرد الأوراق المالية إلى بائعها، ويسترد ثمنها إن أمكن، وإلا يتخلص منها بالبيع(17).
و الأدلة على هذا كثيرة ومن أقواها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أين هذا؟)) فقال بلال : تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع؛ لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ((أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به))(18)، وفي رواية لمسلم : ((فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا))(19).
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرد ولم يقره على هذا العقد الربوي، بل أمر بفسخه مع اتصال القبض به.
قال النووي عند هذا الحديث: ( وقوله :صلى الله عليه وسلم [هذا الربا فردوه] هذا دليل على أن المقبوض ببيع فاسد يجب رده على بائعه وإذا رده استرد الثمن)(20)، وقال ابن حجر: (وفيه أن البيوع الفاسدة ترد)(21).
حكم أرباح الأوراق المالية بعد القبض:
لما عرفنا حكم تملك الأوراق المالية بالقبض، بقي حكم ما ينتج عن تلك الأوراق من أرباح، وإن أقرب تكييف فقهي لتلك الأرباح هو نماء المقبوض بعقد فاسد، وهذا النماء من قبيل النماء المنفصل غير متولد من الأصل كالكسب والغلة، والعلماء مختلفون في حكم نماء المقبوض بعقد فاسد من حيث ملكيته تبعاً لاختلافهم في ملكية أصله على القولين السابقين.
أما من حيث وجوب رد النماء إلى مالك الأصل (البائع) فلم تختلف أقوال المذاهب الأربعة في ذلك؛ فإنهم قضوا بوجوب رد النماء –ومنه الأرباح- مع أصله إلى البائع وأن ذلك النماء والربح لا يمنع الفسخ، – وإليك بيان ذلك:
أما الشافعية، والحنابلة، والظاهرية: فهم على قاعدتهم السابقة لايثبتون الملك بالقبض، ويوجبون رد المقبوض بعقد فاسد ونماءه سواء أكان ربوياً أم غير ربوي.
أما المالكية: فإنهم لا يثبتون الملك في العقود الربوية مطلقاً، وهو مفسوخ عندهم أبداً سواء فات أم لم يفت، ولا يكون فيه إلا الرد أبداً، ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز
فيه ما يجوز في غيره(22) ولا ينتقل الضمان فيه للمشتري.
فظاهرٌ أن الغلة والأرباح لا تأثير لها على الحكم في العقد الربوي-عند المالكية-، وأن هذه الزيادات لا تصِّير العقد فائتاً، وبالتالي يجب عندهم رده وأرباحه على من أربى عليه (23).
جاء في مواهب الجليل: ( وهنا - أي في العقد الربوي - لم ينتقل الضمان لبقاء المبيع تحت يد بائعه، فلا يحكم له -أي المشتري-بالغلة بل لو قبض المشتري المبيع، وتسلمه بعد أن أخلاه البائع ثم آجره المشتري للبائع لم يجز؛ لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو...)(24).
أما الحنفية(25): فإنهم وإن أثبتوا الملك بالقبض إلا أنهم قالوا: إن الزيادة- المنفصلة- على المقبوض بعقد فاسد لا تمنع الفسخ، ويجب ردها مع أصلها إلى البائع، ولزوم ضمانها عند التلف، سواء أكانت هذه الزيادة المنفصلة متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمرة؛ لأن هذه الزيادة تابعة للأصل لكونها متولدة منه، والأصل مضمون الرد فكذلك الزيادة، كما في الغصب، أم كانت الزيادة غير متولدة من الأصل كالهبة والصدقة والكسب والغلة والأرباح؛ لأن الأصل مضمون الرد، وبالرد ينفسخ العقد من الأصل فتبين أن الزيادة حصلت على مالكه(26).
الترجيح:
يلاحظ في المسألة أنه وإن اختلف العلماء في تملك الأوراق المالية الربوية بالقبض إلا أن المذاهب الأربعة اتحد قولهم في الأرباح، فإنهم اتفقوا على أن هذه الأرباح الربوية والتي تعتبر نماءً منفصلاً من ملك البائع لاتمنع الفسخ ويجب ردها مع الأصل إلى البائع؛ حتى على رأي الحنفية الذين يثبتون الملكية في المقبوض بعقد فاسد؛ لأنها حصلت في ملكه، وحتى على رأي المالكية الذين يعتبرون النماء فوتاً في المبيع يثبت به الملك في المقبوض بعقد فاسد إلا الربا لأن الربا عندهم لايثبت فيه الملك أبدا .
ومع أن هذا هو الأصل والراجح في المستحق للربح الربوي إلا أن المستحق شيء وطريقة التخلص منه شيء آخر؛ وذلك أنه قد يستحقه صاحبه ابتداء ولكن لسبب شرعي أو عذر أومانع نصرف الربح الربوي لجهة أخرى دون مستحقه ابتداء .
لذا يقال إن مستحق الربح الربوي لا يخلو من ثلاث حالات .
الحال الأولى: إذا كان مستحق هذه الأرباح الربوية شخصاً معيناً معلوماً، ويمكن ردها -أي الأرباح والأصل- إليه، ولم يكن معروفاً بالتعامل بالربا والحرام فالواجب في هذه الحالة رد تلك الأرباح وأصلها إليه؛ لأنها مقبوضة بعقد فاسد، والأرباح لها حكم أصلها؛ لأنها تبع، والتبع يتبع الأصل(27)، والتبع يملك بملك الأصل(28)، والتابع لا يفرد بالحكم(29).
الحال الثانية: إذا كان مستحق الأرباح مجهولاً أو تعذر الرد إليه ولم يكن معروفاً بالتعامل بالربا والحرام فإنه يجب على المشتري التخلص من المقبوض بعقد ربوي وأرباحه بالتصدق به -على الفقراء والمساكين...- عن صاحبه بنية التخلص منه لا بنية التقرب إلى الله تعالى بهذه الصدقة كما هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية(30) والمالكية(31) والحنابلة(32) وبعض الشافعية(33)، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أكثر من موضع من فتاويه، والقاعدة عند شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا(34):( أن الأموال التي تعذر ردها إلى أهلها لعدم العلم بهم مثلاً، وأن من كان عنده مال لا يعرف صاحبه كالغاصب التائب والمرابي التائب ونحوهم ممن صار بيده مال لا يملكه ولا يعرف صاحبه فإنه يصرف إلى ذوي الحاجات ومصالح المسلمين)(35)، وقال: (هذا عند أكثر العلماء)(36).
ثم قال: ( إذا تبين هذان الأصلان فنقول: من كان من ذوي الحاجات كالفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل، فهؤلاء يجوز، بل يجب أن يعطوا من الزكوات، ومن الأموال المجهولة باتفاق المسلمين )(37).
وقال: ( وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين، فيعطى منه من يستحق الزكاة، ويقرى منه الضيف، ويعان فيه الحاج، وينفق في الجهاد وفي أبواب البر التي يحبها الله ورسوله كما يفعل بسائر الأموال المجهولة، وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه )(38).
وقال: ( المال الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده، فيصرف في مصالح المسلمين، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين، وهذا أصل عام في كل مال يجهل مالكه بحيث يتعذر رده إليه كالمغصوب والعواري والودائع يتصدق بها عن صاحبها أو يصرفها في مصالح المسلمين على مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وإذا صرفت على هذا الوجه جاز للفقير أخذها؛ لأن المعطي هنا إنما يعطيها نيابة عن صاحبها)(39).
قال القرطبي: (قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت ربًا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرًا فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك)(40).
وقال الغزالي: ( إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه -فإن كان له مالك معين- وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتاً وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته، فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة كالقناطر والربط والمساجد ومصالح طريق مكة، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء...)(41).
الحال الثالثة: إذا كان مستحق الأرباح الربوية معلوماً وأمكن الرد إليه، بيْدَ أنه يعرف عنه التعامل بالحرام كالمقبوض من البنوك أو الشركات التي تتعامل بالربا، والمقبوض على الزنا - مهور البغاء - والغناء ولعب القمار وثمن الخمر، والمقبوض على النياحة وغير ذلك فالصحيح من أقوال أهل العلم في هذه الحال أنه لا يجوز رد المال والربح على ذلك الزاني ولا تلك الشركة وذلك البنك، حتى لا يجمع له بين العوض والمعوض، وعليه إذا قبض المشتري تلك الأرباح أن يتصدق بها بنية التخلص منها وهذا قول عند المالكية(42)، وعند الحنابلة، وهو المنصوص عن أحمد في ثمن الخمار أنه لا يرد إلى صاحبه، ويجب عليه التخلص منه والتصدق به في مصالح المسلمين(43)، وانتصر لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية(44)، وابن القيم(45).
والقاعدة عند هذين الشيخين-رحمهما الله- في هذه المسألة: ( كل كسب خبيث لخبث عوضه عيناً كان أو منفعة يكون التخلص منه بالصدقة به )(46).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن امرأة كانت مغنية، واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه ؟
فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة(47) مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنباً لمن يتخذه خمراً أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها، فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله، وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر، فهنا لا يُقضى له به قبل القبض، ولو أعطاه إياه لم يحكم برده فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جُمِع لهم بين العوض والمعوض، ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين(48)، فإن تابت هذه البغيِّ وهذا الخمَّار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أُعْطِي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ولم يردوا عوض القرض كان أحسن، وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله؛ إن الله لا يقبل إلا الطيب، فهذا خبيث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مهر البغي خبيث))(49))(50)، وقال: ( نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم، ثم تابوا، هل يتصدقون بها أو يجب أن يردوها على من أعطاهموها؟ فيها قولان: أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة، ولا يباح الأخذ، بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين، كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر)(51).
وقال ابن القيم: ( فإن قيل: فما تقولون فيمن سُلِّم إليهم المنفعة المحرمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنى واللواط؟ قيل إن كان لم يقبض منهم العوض لم يقض له به باتفاق الأمة، وإن كان قد قبض لم يطب له أكله، ولم يملكه بذلك،والجمهور يقولون يرده عليهم؛لأنه قبضه قبضاً فاسداً، وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما: أنه يرده عليهم، والثانية: لا يأكله ولا يرده بل يتصدق به، قال شيخنا: وأصح الروايتين أنه لا يرده عليهم ولا يباح للأخذ، ويصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمال الخمر)(52)، وقال في موضع آخر: ( فصل المسألة الثانية إذا عاوض غيره معاوضة محرمة، وقبض العوض كالزانية والمغني وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم، ثم تاب والعوض بيده، فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله، ولم يقبضه بإذن الشارع، ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح، وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أصوب القولين)(53).
وقال (إن الذي عاوض على خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة أو غير ذلك أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم، فلا يرد العوض إليه ؛ لأنه لا يسوغ عقلاً أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيراً لأصحاب المعاصي، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهراً، فقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأت به الشريعة)(54) .والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
( ) المؤمنون آية 15
(2) البقرة آية 271
(3) قال المنذري (السحت بضم السين وإسكان الحاء وبضمهما أيضا هو الحرام وقيل هو الخبيث من المكاسب)
الترغيب والترهيب (2/349).
(4) (انظر الكلام حول هذا الحديث: تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي(398) وتلخيص الحبير (4/149)
(5) قَبْض الأسهم: وضعها في المحفظة؛ لأن القبض مرجعه إلى العرف-كما مقرر- و لا يعتبر قابضاً للأسهم عرفاً إلا بوضعها في المحفظة،والله أعلم.
(6) المدونة الكبرى (4/145)، والتمهيد لابن عبد البر (5/29)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/230)، والاستذكار (21/139).
(7) الأم (2/53) و(3/247) و(6/184)، والمهذب للشيرازي(1/275)، والحاوي الكبير(5/316)، والمجموع(9/377)، وروضة الطالبين (3/72)، والأنوار لأعمال الأبرار (1/333).
(8) المغني (6/327)، والإنصاف(4/473)، وشرح منتهى الإرادات (3/237)، وكشاف القناع (3/245)، والفروع (6/287) ومعه تصحيح الفروع وحاشية ابن قندوس، والمستوعب للسامري (2/61)، وفتح الملك العزيز بشرح الوجيز للبغدادي الحنبلي (3/561)، والمحرر في الفقه(1/323). وتقرير القواعد لابن رجب (2/189).
(9) ومنهم زفر والسرخسي، انظر: الجامع الصغير (1/332)، وأصول السرخسي ص (83 ).
(0 ) الفوات عند المالكية يعني أحد خمسة أشياء : الأول: تغير الذات وتلفها كالموت والعتق وهدم الدار وغرس الأرض وأكل الطعام ونماء المبيع ونقصانه . والثاني: حوالة الأسواق. والثالث: البيع. والرابع: حدوث عيب. والخامس: تعلق حق الغير كرهن السلعة . انظر القوانين الفقهية لابن جزيء ص(265) والشرح الصغير للدردير
(1 ) المدونة الكبرى (4/148)، ومواهب الجليل (4/381).
(2 ) سورة البقرة، آية(279).
(3 ) الاستذكار (21/139).
(4 ) التمهيد (5/129)، والاستذكار ( 19/146) وهذا النقل لاتفاق الفقهاء في هذه المسألة فيه نظر، فإن جمهور الحنفية يرون أن المقبوض بعقد ربوي يملك وإن كان واجب الفسخ، وخالفهم شمس الدين السرخسي في هذه المسألة، فوافق الجمهور كما في المتن.
(5 ) أصول السرخسي ص (83 ). وانظر: البحر الرائق (6/136)، وحاشية ابن عابدين (5/169).
(6 ) انظر: في بيان مذهب الحنفية الكتب التالية : الجامع الصغير (1/331-332)، بدائع الصنائع (5/299)، وما بعدها و(5/263)، والمبسوط (29/142)، وشرح فتح القدير ومعه شرح العناية (6/400) ومابعدها، والبناية في شرح الهداية (6/377)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/99)وما بعدها و( 6/136)، والاختيار لتعليل المختار (2/22)، وحاشية ابن عابدين (7/233) وما بعدها و(5/169)، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (2/65)، والأشباه والنظائر ص (209)، ورؤوس المسائل الخلافية ص( 288)، وكشف الأسرار للبخاري (1/269)
(7 ) سوف أفرد هذه المسألة في بحث مستقل في المستقبل-إن شاء الله- وهي (حكم التخلص من الأوراق المالية بالبيع)
(8 ) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الوكالة- باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود) 2188(2/613)، ومسلم في صحيحه (كتاب المساقاة -باب بيع الطعام مثلاً بمثل) 1594(3/1215).
(9 ) رواه مسلم في صحيحه (كتاب المساقاة -باب بيع الطعام مثلاً بمثل) (3/1215).
(20) شرح النووي على صحيح مسلم (11/22).
( 2) فتح الباري (4/401).
(22) الاستذكار (21/139) و( 19/146)، والتمهيد (5/129)، وانظر المدونة الكبرى (4/148) ومواهب الجليل (4/381) وشرح ميارة (2/8). هذا حكمه عند المالكية إذا كان ربوياً أما إذاكان العقد الفاسد غير ريوي فالأمر عندهم معلق على الفوات إن فات ثبت فيه الملك وإلا فلا.
(23) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/366).
(24) مواهب الجليل (4/373-374) بتصرف يسير، وانظر شرح ميارة (2/8) .
(25) بدائع الصنائع (5/302)، والفتاوى الهندية (3/148)، ومجمع الضمانات ص( 216(، وحاشية ابن عابدين(7/302-303).
(26) بدائع الصنائع (5/302).
(27) موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (3/187).
(28) المرجع السابق.
(29) المنثور(1/234)، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص(120)، وموسوعة القواعد الفقهية للبورنو (3/158).
(30) الاختيار لتعليل المختار لابن مورد (3/61)، وحاشية ابن عابدين (3/223).
(31) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/366)، وفتاوى ابن رشد (1/632)، والمعيار المعرب للونشريسي (9/551).
(32) مجموع الفتاوى(28/592) و (29/264)و(29/321)، والفتاوى الكبرى (5/421)و( 4/210-213)، والفروع لابن مفلح (4/513) و( 2/667)، والإنصاف (6/212-213)، وقواعد ابن رجب ص(225)، وجامع العلوم والحكم (1/104).
(33) المجموع شرح المهذب النووي (9/428)، وانظر: المنثور في القواعد للزركشي (2/231)، وفتاوى ابن حجر (4/357).
(34) مجموع الفتاوى (28/284) و(28/568) و(29/241).
(35) مجموع الفتاوى (28/568-569) و(30/413) و(29/263).
(36) المراجع السابقة.
(37) المرجع السابق، ولقد وَهَلَ بعض الباحثين حينما ظن من قول شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المواضع "يصرف في مصالح المسلمين" أنه خاص بالمرافق العامة فقط، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى جواز صرفها للفقراء والمساكين، والكلام المنقول في المتن يرد هذا الظن، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية هنا ظاهر في جواز صرف المال الحرام إلى الفقراء والمساكين، وكلامه أيضاً يفسر بعضه بعضاً، ثم إن الفقراء يدخلون في مصالح المسلمين.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في موضع آخر أن من أراد التخلص من الحرام والتوبة، وتعذر رده إلى أصحابه فلينفقه في سبيل الله -أي في الجهاد- عن أصحابه، مجموع الفتاوى (28/421) والذي يظهر -والله أعلم- أن قوله هذا لم يقصد به حصره على هذه الجهة، وإنما أراد ذكر إحدى أهم مصالح المسلمين التي ينفق فيها المال الحرام-وهي الجهاد في سبيل الله- فيكون داخلاً في رأيه الأول، وليس رأياً آخر له كما ظن بعض الباحثين بدليل كلامه الآتي.
(38) مجموع الفتاوى (30/328).
(39) مجموع الفتاوى (29/263) و(29/321).
(40) الجامع لأحكام القرآن (3/366).
(41) المجموع شرح المهذب (9/428).
(42) مقدمات ابن رشد (2/618).
(43) مسائل الإمام أحمد وابن راهويه للكوسج (2/66)، والكافي لابن قدامة (2/756)، ومجموع الفتاوى (30/209)، واقتضاء الصراط المستقيم (1/247)، وزاد المعاد (5/782)، والإنصاف (11/212)، وكشاف القناع (6/317).
(44) مجموع الفتاوى (28/666)و (29/291-292) و(29/308-309) و(30/209)، واقتضاء الصراط المستقيم ص(265).
(45) زاد المعاد في هدي خير العباد (5/778)، وأحكام أهل الذمة (1/574)، ومدارج السالكين (1/390).
(46) زاد المعاد في هدي خير العباد (5/779).
(47) هكذا في مجموع الفتاوى، ولعل الصواب: (إن كان عيناً أو منفعةً مباحة).
(48) يلاحظ هنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يُفْتِ بملكية هذا المال الخبيث مع كونها جاهلة وقد تابت وحافظت على حدود الله، وذكر في موضع آخر(22/8) أن من تاب على أموال محرمة قبضها في حال الفسق أنه يملكها؛ لأن التوبة تهدم ما كان قبلها وأنه ليس بأولى من الكافر، والفرق بين القولين - والله أعلم - أن وجوب التخلص إنما هو في العين والمنفعة المحرمة في أصلها كمهر البغي ... أوكان المال موجوداً وأمكن التخلص منه، وقوله الآخر محمول على ماكان محرماً في وصفه دون أصله أو حرم لكسبه أو كان المال المحرم قبض في حال الفسق منذ زمن بعيد ولم يمكن تمييزه، أو يكون هذا رأي آخر له في المسألةوالله أعلم.
(49) رواه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ (كتاب المساقاة -باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي) (3/1199).
(50) مجموع الفتاوى (29/308).
(51) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/247).
(52) أحكام أهل الذمة(1/575).
(53) مدارج السالكين (1/390).
(54) زاد المعاد (5/779) بتصرف يسير، وانظر مدارج السالكين (1/390).