تقديم البدائل وتجديد الوسائل
7 ربيع الثاني 1428

إن الدعاة إلى الله تعالى بحاجة دائمة للوقوف على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل ومقارنة سيرهم في الدعوة بذلك المنهج لمعرفة مدى مطابقتهم له، وحتى يتحقق هذا فلا بد أولاً من إيضاح ذلك المنهج النبوي المعصوم ومعرفة معالمه وسبر تفاصيله.
ونحن هنا نقف وقفة موجزة مع لوط عليه السلام وهو يناصح قومه الكافرين الفاسقين لما جاءوا إليه يهرعون ويراودونه عن ضيفه.

إنه لموقف عصيب، وخطب جلل، فهو عليه السلام يخاطب حينئذ قوم سكارى كما وصفهم القرآن "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ" (الحجر:72)، ولكنه تعامل معهم وفق منهج دعوي حكيم حيث قدم لهم -وهم في ذلك الحال السكري- بديل طاهراً عفيفاً صالحاً لحل الأزمة التي تمكنت منهم فقال: "هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" (الحجر: من الآية71).

إذن لا يكفي الداعية أن يبين الحكم الشرعي للناس أو يقول أن هذا الفعل لا يجوز ثم يذهب ويتركهم حيارى والسؤال يتردد في دواخلهم إذاً فما هو البديل، إن الداعية الناجح هو الذي يقدم البدائل المعقولة وما أكثرها في الشرع، فقد حرم الله الربا ولكن أحل البيع، وحرم الزنا ولكن أحل الزواج، وحرم الخمر وأحل الكثير من المشروبات، وحرم بعض الأطعمة وأحل أكثرها، وهكذا ما حرمت الشريعة شيئاً إلا أحلت ما هو أنفع وأكمل منه.

بل في القرآن الكريم ما نسخ الله آية إلا أنزل خيراً منها أو مثلها، كما قال الله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة:106).

ثم وقفة أخرى مع منهج هذا النبي الكريم لوط عليه السلام، وذلك في تجديده للوسائل الدعوية، فلم يكن خطابه الدعوى ذو وتيرة واحدة بل كان يتغير حسب الحال، فلما جاء القوم إليه يهرعون لاطفهم في الكلام قائلاً : "يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ..."، ولكن لما أصروا واستكبروا استكبارًا قال لهم موبخاً: "أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ" (هود: من الآية78).

إن كثيراً من الناس يقولون يجب التزام اللين في الدعوة وعدم الغلظة على المدعو مستدلين بقول الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام يوم أرسلهما إلى فرعون: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طـه:43، 44) ويزعمون أن في هذه الآية دلالة على التزام جانب اللين مع كل مدعو وكيف كان حاله إذ إنه ليس أشر من فرعون ولا الداعي أفضل من موسى وهارون عليهما السلام.

وينسى هؤلاء أو يتناسون أن موسى عليه السلام الذي نزل عليه الأمر بلين القول لفرعون قال له عندما عرف أن هذا اللين ليس إلى الأبد، وأن هناك وقت ينبغي فيه للشدة أن تسلك طريقها إلى الخطاب الدعوي: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً" (الإسراء: من الآية102)، فهذه العبارات القوية الشديدة انطلقت من فم كليم الله تعالى كالسهام لتصل إلى أذن فرعون العاتية المستكبر، وموسى عليه السلام بلا شك أعلم الناس بأمر الله له وبمقصد الشارع الحكيم من ذلك الأمر وهو كذلك من أعبد الناس لربنا تعالى وأبعدهم عن مخالفة أمره.

ثم إن الله تعالى لم يعاتبه على ما قال لفرعون من غليظ القول لأنه تعالى يعلم أن اللين مطلوب من موسى عليه السلام في مرحلة يرجى فيها نفع اللين مع ذلك الطاغية، ولما تجاوز فرعون هذه المرحلة لزم موسى عليه السلام تجديد الخطاب الدعوي من اللين إلى الشدة.
فلا بد من إيجاد البدائل حتى ليرغب الناس في التمسك بالدين ويسهل عليهم الالتزام به لأنه يقدم الحلول لمشاكلهم، كما لا بد من تجديد الوسائل.

ومن المعلوم أن الوسائل لها أحكام المقاصد ولذا لا بد من تجديدها كلما كان ذلك أدعى لتحقيق المقصد الشرعي، ولكن لا بد من التأكد التام من صحة الوسيلة المستخدمة في الدعوة وعدم معارضتها لشرع الله.