من صور البطولة في بلاد الرافدين 1

نادرة هي الأقلام التي تتناول جانب التضحية والفداء في حياة أبناء العراق الغيارى منذ أن وقع الاحتلال الأمريكي الأطلسي للعراق، ونحن اليوم في زمن لم نعد نقرأ ونرى ونسمع فيه عن مثل هذه البطولات، إلا في بطون كتب التأريخ.

فمنذ أن وطئ المحتل بأقدامه ثرى العراق انتفضت ذرات الرمال في الأنبار والنخيل في البصرة، وأشجار البرتقال في ديالى واهتزت جبال الغيرة والحمية على الدين والوطن لتتمخض عن ولادة مباركة لمقاومة لم يعرف التاريخ لها مثيلا بسرعة الترتيب والتكوين.
الاحتلال الغاشم من دول التحالف الغربي وأعوانهم الذين صور لهم بوش أنهم وبدخولهم العراق ستحتضنهم أيدي العراقيين ترحيباً وسعادة بمقدمتهم.

وما هي إلا أيام فقط حتى التهبت ارض العراق تحت أقدام الغزاة وكانت صور الفداء والتضحية ترسم بدماء الصادقين وتضحياتهم، وسُجلت وتُسجل أروع صور الفداء والتضحية في سبيل الدين والمبدأ في بلاد تكالب عليها القاضي والداني، وفي حرب كونية ظالمة وكل ذلك على مرأى ومسمع من الجميع، وضرب العراق، وقتل الأطفال والنساء، واستخدمت كل الأسلحة المحظورة وغير المحظورة، في زمن الحضارة الغربية، وحصل ما حصل، وآلت الأمور إلى ما آلت إليه.

وأنا هنا سأحاول في حلقات متتالية أن أرسم بعض صور البطولات لأناس عرفتهم عن قرب أو سمعت قصتهم من ثقات وقفوا في وجه الاحتلال وباعوا أرواحهم في سبيل الله وتركوا وراءهم الحياة الفانية لينعموا بجنة عرضها السماوات والأرض.

هذه الصور البطولية بدأت منذ الغزو الأمريكي الغربي التحالفي على العراق، وبدأت على الحدود العراقية حيث قاوم أهالي البصرة قوات الاحتلال لأكثر من أسبوعين، وتحول حينها ميناء أم قصر إلى قلعة للصمود والتحدي اضطر على أثرها المحتل للالتفاف وترك البصرة عصية عليه وعلى عملائه، لكنني سأقصر كلامي على بعض المناطق التي اعرفها وهي بغداد وديالى وأجزاء من الأنبار وصلاح الدين.

محطتنا الأولى ستكون في محافظة ديالى (45) كم شمال شرق العاصمة العراقية بغداد،هذه المدينة الهادئة الطيبة الريح، والتي يشطرها نهر ديالى إلى قسمين كما هو حال دجلة في بغداد، حينما بدأ العدوان، وسمعنا أن الاحتلال وصل إلى بغداد، وحينما سمعنا أن مدرعات الاحتلال تتجه إلى مدينة البرتقال - وتسمى هكذا لكثرة زراعة البرتقال في بعقوبة -، وقف الناس وكأن نازلة نزلت بهم جعلتهم لا يعرفون ماذا يقولون وإذا بكل شيء ينهار ودخل الأمريكان خلال ساعات وفرغت الشوارع إلا من مدرعات ودبابات الاحتلال، والأمريكان من فرحتهم بدخولهم المحافظة بلا مقاومة، سمو محافظة ديالى البطة البيضاء.

نعم البطة البيضاء، وما هي إلا أيام حتى تحولت تلك البطة البيضاء إلى أسد ضرغام، هز الأرض تحت أقدام المحتلين، وجعلهم يلوذون بمعسكراتهم التي هي الأخرى لم تعد مكاناً آمنا لهم، لتضيق الأرض عليهم بما رحبت.

قصتنا اليوم مع الشاب الشهيد _بإذن الله_ بسام هكذا اعرف اسمه فقط، وأنا لا أعرف هل أتحدث عن الشاب بسام أم عن بطولة عائلته وصبرها المنقطع النظير إلا في عهد الصحابة والتابعين.
بسام شاب في العقد الثاني، وحيد أهله من الذكور، شاب يتفجر حيوية ورجولة كان محبوبا من قبل الجميع، كان طالبا مجتهدا، ترتيبه الأول بين أقرانه في كلية العلوم الإسلامية، وليس له هم إلا الدراسة وممارسة الهوايات الأخرى كالقراءة والركض وكرة القدم.

وهو مثل بقية العراقيين تفاجأ بالاحتلال وبالانهيار السريع الذي حصل في البلاد، وحينما رأى جنود الاحتلال يطوفون في مدينته - التي طالما لعب في أزقتها مع أصدقائه - وهم يحملون بنادق تنشر الموت بين الأبرياء من الناس وتدمر كل شي مرت عليه، ولم نلحظ في قلوبهم رحمة لنا منذ اليوم الأول، انتفض بسام واقفا وقال:ـ والله لا عيش إلا عيش الآخرة، وكل حياة دون الإسلام والعرض فهي باطلة.

فجمع أصدقاءه من حوله ورتبوا أنفسهم ووقفوا مع بعضهم البعض، وبدؤوا يدربون أنفسهم على استخدام السلاح وكل ما يوقع نكاية بالعدو، وما هي إلا أيام حتى بدأ بسام وأصدقاؤه يصطادون جرذان الاحتلال بين أشجار النخيل والرمان والبرتقال واستمروا على هذا الحال، وهم في كل هذه الفترات لم يخبروا أهلهم بأي شيء كانوا يقومون به.

واستمر الأمر بمتعة تذكرهم بالجيل الأول من الصحابة والتابعية وجعلتهم ينسون الدنيا الفانية وملذاتها المنتهية، حتى كان ذلك المساء من ليلة من ليالي أيلول في العراق 2004، وبينما كان بسام وأصدقاؤه في سيارة تقلهم، وكانوا يتجهون إلى بستان من البساتين لأخذ العدة لترتيب عمل جديد ضد المحتل ، استوقفتهم دورية للعدو الأمريكي، ولم تفتش سيارتهم، أخذوا هوياتهم الشخصية، دققوا فيها، ثم تركوهم ينطلقون بسيارتهم وما هي إلا (100)م فقط انفجرت السيارة، انفجاراً لم يبقي من السيارة ولاممن فيها أي شيء، وكانوا ثلاثة من الشباب، بسام واثنين آخرين، هرع الناس إلى مكان الحادث لكنهم لم يجدوا إلا قطع من لحم متناثرة هنا وهناك.

وكانت أكوام من اللحم جمعت في أكياس نقلت إلى المستشفى العام، وصل الخبر إلى أهله، وخرجوا إلى مستشفى المدينة وهم يحملون الدفوف لاستقبال عريس الحور وتوديعه إلى الجنة، منظر لا يمكن أن يوصف بأروع وأبدع أقلام الأرض.

هناك في المستشفى جاءت أم بسام على مجموعة من اللحم متناثرة وشمتها وقالت هذه أجزاء من جسد ولدي، والله إني لأجد ريحه فيها، وانهارت بالبكاء بدون صراخ وعويل، واحتسبت ولدها عند الله شهيداً.
كل من في المدينة شارك في حمل جنازة بسام وأصدقائه، حملوهم على أكتافهم وزغاريد نسوة الحي تودع بسام وأصدقاءه إلى مقبرة المدينة.
والده لم يقبل التعازي، بل قال: أقبل التهاني فمن يحبني ويحب بسام فليقدم لي التهاني والتبريكات، وكذلك فعلت والدته.

وفي مجلس العزاء الذي اعتاد فيه العراقيون على تقديم القهوة المرة (السادة) وبعدها الشاي.
حينما ذهبنا إلى المجلس لتقديم التعازي لأهل الشهيد، وحينما دخلنا أنا وصديقي لم نلاحظ ولم نشاهد أي منظر ومشهد من مشاهد الحزن بين الحاضرين وكأننا في مكان لا مأتم فيه.
وبعد جلوسنا قدم لنا شاب، الجكليت (وهي قطع من الحلوى مغلفة) تقدم في الأعراس والمناسبات الجميلة في العراق، أمسكت بهذه القطعة من الحلوى ولم أتمالك نفسي وبدأت الدموع تذرف من عيني قلت: أين أنا؟
هل هؤلاء من أهل الأرض أم من أهل السماء؟

وبينما أنا أكفكف دموعي وإذا برجل آخر يجلب لنا الشربات (عصير)، وأيضاً هذا لا يقدم إلا بالمناسبات المفرحة.
حينها قلت لصاحبي: دعنا نخرج فأنا لا أستطيع أن أتحمل أكثر، وخرجنا وقلنا لوالده: عظم الله أجركم وغفر لميتكم وحشره الله مع سيد المرسلين، فقال: باركوا لي، فبسام لم يمت بسام سبقنا إلى الحبيب المصطفى، ونحن به _إن شاء الله_ لاحقون.
حينها دمدمت مع نفسي، هل تحلم أمريكا وأعوانها أن تنتصر على أمة فيها أناس يفرحون بالشهادة كما يفرحون هم بالحياة، وكثير ما هم!!!
ولنا موعد مع بطل آخر من أرض العراق الصابر المجاهد.