لما جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام مبشرة بإسحاق وهو البشرى في هذه الآية [آية العنكبوت]: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى)، كما قال في الآية الأخرى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ )، (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ)، فلما جاءته بالبشرى أخبرته الملائكة بعدها بأمر إهلاك القرية الظالمة، فأراد الحليم عليه السلام أن يوسع مهلة الدعوة لعل القوم يرجعون ويرعوون، وهذا ينم عن حرص الأنبياء على الدعوة، واجتهادهم في هداية الأقوام، ويبين شيئاً من التكوين النفسي السامي المحب لنفع وخير الآخرين، وإن لم تكن لهم بهم كبير صلة.
وهنا إبراهيم عليه السلام قد علم ما جاءت لأجله الرسل، وهو يعلم أنهم عبيد مكرمون لايسبقون ربهم بالقول وهم بأمره يعملون، فهو على يقين من أن الله تعالى قد أرسلهم فلم يكن جدله اعتراضاً على أمر الله وقضائه ولكنه طمع في مدافعة القضاء، وأراد انتهاز فرصة قد يغتم بها الأجر العظيم، فالله عز وجل قد يأمر ملائكته بأمر ما لحكمة يعلمها ثم يتأخر إنفاذ ذلك الأمر أو يلغى بقضاء الله وقدره وفقاً لما يسببه من أسباب لحكم عظيمة.
كما أمر ملك الموت أن يقبض موسى فلما جاءه لطمه وفقأ عينه فرجع إلى ربه سبحانه وتعالى.
وكما أمر العذاب أن يظل قوم يونس فلما آمنوا نجاهم قال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98]، فبين أنه قد كشف العذاب عنهم.
وكذلك الشأن في إرسال الملائكة لإهلاك قوم لوط فلم ير إبراهيم عليه السلام أن ذلك يمنع شرعاً من محاولة تأخير العذاب أو دفعه عنهم طمعاً في إيمانهم وحرصاً على هدايتهم وأن يكون له تسبب في ذلك، كما فعل موسى بعد في فرض الصلوات على محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
وقد حاول إبراهيم عليه السلام الخلوص إلى مقصده بمدخل لبق ينم عن رجاحة عقل وكمال فطنة فقال عليه السلام: (إن فيها لوطاً) والمعنى: كيف تهلكونهم وفي القرية نبي الله المرسل؟
وظاهر هذا الكلام حدب على لوط عليه السلام لا رغبة في إيمان قومه، فهو لم يقل لهم تأخروا لعل الله يرحم أولئك القوم فيؤمنون فيأخر عنهم العذاب، ولكنه قال: (إن فيها لوطا) وهو يريد تأخير العذاب عن قوم لوط ولوط عليه السلام بطريق الأولى، بدليل قول الله تعالى في سورة هود: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)[هود: 74-76].
فقال: (يجادلنا في قوم لوط)، (إنه آتيهم عذاب غير مردود)، فكان جدله في هؤلاء ولكنه مهد للحديث تمهيداً لبقاً حصيفاً ينم عن عقل كامل وذكاء وافر.
ولكن كان القضاء قد سبق ببوارهم، وثبت في اللوح المحفوظ عند الله أنهم مهلكون، أجرى بذلك القلم وجفت به الصحف، فجاء الجواب: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).
وأما الإشكال المطروح فهو اعتراض صحيح منه عليه السلام، فقد أدرك بثاقب نظره أنها حجة كما أدرك ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن فقال: "لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا"(1).
ولما كان الاعتراض في أصله صحيحاً بينت الملائكة أن المعترض بهم مخصوصون من عموم ما أخبروا به، فهم خارجون من عموم أهل القرية في قولهم: (إنا مهلكوا أهل هذه القرية). [العنكبوت: 31]: (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)[العنكبوت: 32].
وبعدها قد اكتملت الصورة في ذهن إبراهيم عليه السلام وعلم الأمر على التمام، فلم ينقل عنه جدل أو اعتراض، وهذا ينبئ عن نبل مقصده لما ابتدأ جدله، وعن دورانه في فلك الحق واتباعه له.
وهذا الحرص على هداية الناس للخير أمر ملحوظ في الأنبياء جميعهم، فكم جابههم الكافرون بالعناد والتطاول فيتقبلون ذلك منهم بصدور رحبة وقلوب واسعة ونفوس كبيرة حرصاً منهم على هداية الناس وليس عجزاً منهم عن ردٍ بالمثل، فهذا هود عليه السلام نبي كريم قال له قومه (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من ربّ العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين)[الأعراف: 66-68] ومثل ذلك ما قالوا في نبينا صلى الله عليه وسلم: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)[الحجر: 6] وما قالوا في حق نبي آخر: (إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين)[المؤمنون: 25] وغيرها من الآيات الكريمة التي توضح ما لاقى المرسلون من أممهم ومع هذا تجد رد الرسل كثيراً ما تصحبه عبارة "ياقوم" وما ذاك منهم إلا لتلين قلوب أقوامهم المتحجرة، وتميل إلى الحق عقولهم المتبلدة.
وقد قال الله تعالى عن رسوله الكريم مبيناً حرصه على هداية قومه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، وقال الله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف: 6]، وقال الله تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر: من الآية8)، وقال الله تعالى له: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام: من الآية35) [الأنعام: 35]. وقال له أيضاً: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 3].
مع أن أنبياء الله يعلمون أن ليس عليهم إلاّ البلاغ: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [يس: 17]، وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67]، وقال الله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، ولكن أبى الله إلاّ أن يكون رسله رحمة للعالمين، يحرصون على هداية الناس ولأجلها يعملون، فلنحرص على هداية الناس إذاً كما حرص الأنبياء رضوان الله عليهم، وليكن خطاباً الدعوي خطاب الراغب في قبول الناس لا الزاهد الذي يستوي عنده إقبالهم وإدبارهم، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
________________
(1) ذكره القرطبي 5/427،وابن كثير 2/306، وأسند ابن جرير في تفسيره 9/273، وهو من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والخلاف في صحيفته مشهور، فعلي لم يلق ابن عباس وقد نص عليه غير واحد، ولكن روايته من صحيفة واسطته فيها ثقات معرفون، وقد أثنى عليها الإمام أحمد، ولعل الصواب قبول ما أورده ما لم يخالف فيه أو يستنكر.