ليست أمريكا عدونا الوحيد

مازالت بعض العقول تأبى إلا الجمود بقصد أو بدون قصد، وتعيش وهم العدو الأوحد الذي لا يمكن أن يوجد غيره، ولا يتغير أو يتبدل...
وما زال البعض يسيطر عليه وهم المؤامرة، وأن أمريكا هي رب الكون، وسقف العالم، وأنها المستهدف الوحيد للأمة العربية (عند بعض القوميين)، وللحركة الإسلامية (عند بعض الإسلاميين)، ولذلك نجدهم يهونون من شأن الأعداء الآخرين الذين يفتون في عضد الأمة، ويسعون إلى إضعافها وتدميرها، واحتلال أجزاء من أراضيها.
لا أستطيع أن أقول إلا أنه ضعف في التفكير، وخلل في المناهج التربوية التي نشأ عليها هؤلاء المحدودي التفكير والتناول للقضايا..

لما كانت أيام الاتحاد السوفيتي، كانت عامة الحكومات العربية –ذات الهوى اليساري- تتكلم عن الإمبريالية، والطبقية، والبرجوازية، وأن أمريكا هي مصدرها (من الصدور) ومصدرها (من التصدير)، وأنها عدوة الأمة العربية، وكانت تلك الأنظمة ترتمي في أحضان السوفييت من أجل مواجهة عدو الأمة العربية: أمريكا وربيبتها إسرائيل، ونست تلك الأنظمة أن الخطر العقدي المتمثل في شيوعية الاتحاد السوفيتي مماثل للخطر الإمبريالي المتمثل في غطرسة الولايات المتحدة، وأن أمريكا إن كانت تدعم إسرائيل الدولة اللقيطة الجاثمة على أرض فلسطين، فإن الاتحاد السوفيتي يحتل بضعة عشر جمهورية إسلامية بقوة الحديد والنار، وبالبطش والإرهاب، والقتل والتهجير...
وتلك الأنظمة العميلة نفسها تعامت حين دخل جيش الاتحاد السوفيتي لجمهورية أفغانستان المسلمة، بل تجرأ بعض عتاولة اليساريين العرب وغير العرب من المسلمين لإرسال جنود للقتال مع الحكومة الأفغانية الشيوعية العميلة للاتحاد السوفيتي، مثل جمهورية اليمن الديمقراطية (اليمن الجنوبي)، وذلك كله تحت تأثير العدو الواحد، والهيمنة الواحدة، والمصير المشترك!!!!
وفي المقابل أيضا، فقد كانت هناك أنظمة لا ترى إلا العدو السوفيتي، وتتعامى عن الأمريكيين وخطرهم العظيم على الأمة المسلمة...
واليوم يعيد التاريخ نفسه بصيغة أخرى، وبشكل جديد، فالأمة اليوم بين خطرين عظيمين متماثلين، وهما الهيمنة الأمريكية، والغطرسة الفارسية...

وما يزال بعض الناس نائم في عداواته القديمة، يجتر أيام الحرب الباردة، ووقع في فخ التهوين من بعض الأخطار، وأريد هنا لفت النظر إلى تعامل خاطئ لهذا الواقع من شريحتين في الأمة هما: اليساريون، وطائفة من الإسلاميين...
أما اليساريين فإن بعضهم قد تحول بعد السيطرة الأمريكية على مجريات الأمور في العالم كله، وهيمنتها على الوضع الدولي، إلى امبرياليين جدد، وحلفاء مخلصين، وملكيين أكثر من الملك، وأصبحت مركز الطبقية والرأسمالية البغيضة بالأمس، كعبة المال والثقافة والحداثة اليوم، فأين العدو إذا لدى هؤلاء اليساريين...
إنه الإسلام الأيديولوجي –كما يحبون تسميته- والقوى الرجعية والتي لها عندهم معنيان، معنى قديم يوافق متطلبات الحرب الباردة، وهو الدول الدائرة في فلك الأمريكان، ومعنى حديث يوافق متطلبات القطب الأوحد، وهي جميع الأنظمة التي يعارضونها للوصول إلى السلطة...
وهؤلاء اليساريون لا يجدون عدوا في الدولة الفارسية، ورغبتها في الهيمنة والسيطرة، بل وتعجب من تحالفهم الدائم مع الأحزاب الشيعية، مثل ما حصل في الانتخابات الأخيرة في البحرين، ومثل تحالف اليساريين في بلادنا مع الأحزاب الرجعية الشيعية من أول أيام الوحدة اليمنية، بل وقبلها...

أما الإسلاميون فأنا أقصد جزءا منهم، وهم مجموعة من المفكرين والكتاب الذين يهونون من الخطر الشيعي الإيراني، ويعتبرونه لاعبا غير رئيسي في المجريات في منطقتنا العربية، وأن الأحداث التي تجري في العراق ولبنان واليمن والبحرين والسعودية وسوريا والكويت، لا شأن لإيران بها، وإنما هي مكر أمريكي لضرب السنة والشيعة، وغيرها من الشعارات الفضفاضة، والكلمات الواهمة، الناشئة عن جهل عميق بتاريخ الشيعة، ونشأتهم، وعقائدهم ونظرتهم الدينية إلى من يخالفهم مثل السنة وغيرهم وأنهم كفار يجب استئصالهم، فتجد هؤلاء يركزون دائما على الخطر الأمريكي وتجاوز ما يصفونه بالفتنة الداخلية، وضرورة تجاوزها...
ولو أنهم أجهدوا أنفسهم قليلا ليقرؤوا التاريخ، وليتأملوا في عقائد القوم، ومبادئ ثورتهم الإيرانية الأخيرة على يد الخميني، وما يقوله ويكتبه في كتبه المطبوعة المتداولة، والتي فيها حقد أسود دفين على أهل السنة، وعلى صحابة النبي _صلى الله عليه وسلم_، وعلى زوجاته الطاهرات المبرآت أمهات المؤمنين، ودعوى نقص القرآن الكريم، ورفض السنة النبوية، وبعد هذا كله أطماع الإيرانيين في التوسع، واعتبار ما يدينون به هو الإسلام فقط وكل ما غيره كفر وشرك، ويجب تطهير الأرض منه ولو بالقوة..
وثقافتهم التي بنيت على أن مهديهم المنتظر –إن خرج- فإنما سيقتل العرب، وينتقم منهم، ولن يتعرض ليهود أو نصارى أو مجوس أو غيرهم...
هذه الثقافة التي يغفل عنها أولئك الإسلاميون ويهونون من شأن هؤلاء القوم، بحجة العدو الأوحد، والخطر الذي لا ثاني له، وهو مفهوم خاطئ قاصر، بل العدو الفارسي أشد خطرا في بعض البلاد من الخطر الأمريكي..
لننظر إلى العراق مثلا، بلغ عدد قتلى العراقيين ثمانمائة ألف، خمسمائة ألف منهم على أيدي الميليشيات المدعومة من دولة الحقد الفارسي، ونصف العدد على يد قوات العدو الأمريكي...

كما أن الأحداث التي تجري في اليمن في محافظة صعدة وغيرها، التدخل الفارسي فيها أكثر خطرا وأوجب مواجهة من التدخل الأمريكي، ولكن كيف يفهم أصحاب الخطر الأوحد...
وفي الأخير هناك ملاحظة جديرة بالنظر والتأمل: وهي أن عامة أولئك الإسلاميين الذين يهونون الخطر الفارسي، لحساب الهيمنة الأمريكية والخطر الذي تمثله، عامتهم صرنا نرى لهم علاقات ودية كثيرة مؤخرا مع السفارات الأمريكية، والمسؤولين الأمريكيين والأوروبيين وغيرهم، فمن هو يا ترى عدوهم المرتقب؟؟؟