القرار الشجاع
9 ربيع الأول 1428

عندما يشد تيار الباطل، وترتفع أمواجه، ويقذف بالزبد، يقل في الناس من يقف ضد تياره، فضلاً عن أن يمشي عكس ذلك التيار، فكثير من الناس همج رعاع، يتبعون كل ناعق، ووسط ذلك الزخم من دعاة الباطل، يوجد من له قناعة مغايرة، ومعرفة بالحق الذي يخالف ما عليه الأكثرية الضالة، ولكن غلبة الباطل، وكثرة أهله، تضعف شخصيته، وتهز عناصر القوة في نفسه، فيعجز عن اتخاذ القرار الشجاع، والموقف الصحيح، وإظهار ما يعتقد من صواب، خوفاً من تداعيات مخالفة المجتمع.

وقد يتفهم أحدنا هذا الموقف الجبان، من العالم بالحق، الخائف من إظهاره، خشية أن يقول الناس فيه أو يفعلوا به، في أمور هامشية لا تساوي كثيراً، أما القضايا المصيرية، والتي تكون عاقبة الإنسان فيها خسرًا إن تبنى منهج العامة المنحرف عن الجادة، فلا يمكن فهمه ولا تسويقه.

إن الكثرة لا تدل على الحق، فكم من باطل تواطأت عليه الجموع، وكم من حق تجيشت ضده أمم، و عاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة أوضح مثال، وصدق الله تعالى إذ يقول: "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ" (يوسف:103)، وقوله عز وجل: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ" (يوسف:106).

وما أشجع وأحكم لوط عليه السلام، لما ألقي خليل الرحمن في النار، ولم ينله أذى، وخرج منها يمشي بين الناس أوفر ما يكون صحة، وأبرأ ما يكون جسدًا، التفت حوله ليرى الناس وقد استسلموا لهذا البرهان الساطع، والدليل القاطع، والحجة البينة، ولكنه دهش لما سمع كلام الناس معلقين على هذه المعجزة الظاهرة، تعليقات ساذجة، لا تمت إلى العقل بصلة.

إنه لأمر عجيب هل من العادة أن يلقى إنسانٌ، إنسان دم ولحم وعظم في مثل تلك النار العظيمة، ثم يخرج منها سالماً لم يصب بأذى؟ وهل يستقيم أن يقول الناس تعليقاً على الحدث أن النار قصرت عن القيام بواجبها هذه المرة! لا بأس فهي مرة واحدة فقط!

ولكن لوطاً عليه السلام اتخذ القرار الشجاع، وأعلن الإيمان لمّا رأى البرهان، بل ذهب أبعد من ذلك، أعلن الهجرة عن بلد بلغ الكفر بأهله ذلك المبلغ من الإعراض عن الآيات، وأعلن القطيعة مع مجتمع تفنن في اتخاذ القرارات ضد الحق الصراح ليظل على الشرك والكفر بالله العظيم، ولو كان ذلك القرار بخطورة البقاء على الكفر والشرك، فهاجر لوط بنفسه من مجتمع الكفر والعناد.

وهذه امرأة فرعون، مثالاً آخر لكمال العقل وتمام البصيرة، إذ لم تحل تلك المظاهر الخادعة، من لسلطان الموهم الذي كانت تجده في بيت زوجها، من أن تعرف الحق، وتتفطن إلى ضلال تلك الكثرة الخاسرة، فأبصرت امرأة فرعون الحق دونهم، وعرفت الهدى وضلوا عنه، واتخذت القرار الشجاع، صحيح أنها لم تهاجر كما هاجر لوط عليه السلام، ولعل ذلك لم يكن متاحًا لها في تلك الأجواء الملكية، ولكنها كانت تعيش هجرة شعورية، وعزلة حقيقية، عن ذلك المجتمع.

فانج بنفسك ولا تغرنك كثرة الهالكين، وعليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، فأبوبكر الصديق رضي الله عنه كان سيظل اسمه عبد الله بن أبي قحافة لو تعثرت قدماه على صخرة المستهزئين المكذبين صبيحة الإسراء والمعراج.

وحبيب النجار كان سيظل حظه من الدنيا نجارته لولا وقوفه إلى جانب الأنبياء الكرام على قلة أتباعهم، وكثرة أعدائهم، ولكن لما اتخذ القرار الشجاع ذكر في القران خبره، وفي كتب أهل العلم اسمه.

وإبراهيم عليه السلام أمة وحده، لم يغتر للباطل الذي انتفش مع أنه كان وحده في يوم من الأيام، ولم يمنعه سلطان النمرود من أخذ موقعه في سفينة الحق.
ما أشق بل لا يتأتى أن يكون الإنسان أمة وحده إن كانت النفس صغيرة، والهمة ضعيفة، والشخصية هزيلة، والبصيرة غائبة.

وبقدر ما يشكر من أوقد شمعة في وسط الظلام، يذم من أطفأها، وبقدر ما تذكر نماذج الخير في أجواء الباطل للاقتداء بها، تذكر نماذج الشر من الذين يريدون أن يبدلوا ما استقام للمجتمع من قيم خير ونبل بما عندهم من مناهج فاسدة وأخلاق ذميمة مستوردة.