ديدن المتكبرين المبطلين في الانتصار لباطلهم هو الكبت ومجابهة المنطق والحجة بالقوة والتشغيب الفارغ والاستهزاء، إن كانت لهم يد، وإلاّ اكتفوا بالإعراض، و (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً).
وتأمل حال قوم لوط مع نبيهم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، فهذا تهديد بالقوة، وأما تشغيبهم العجيب ففي قولهم: (قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فهم قد عمدوا إلى القفز عن موضوع الحوار الذي لم يجدوا حجة في جوابه، ولم يتأت لهم منطق في خلافه، إلى قضية أخرى لم يدع النبي عليه السلام أنها إليه، وإن كان قد توعدهم على ما يظهر بالسنن والمثلات التي تقضت في الأمم، وكلها قاضية بإهلاك المجرمين، فلهذا قالوا: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فكأني بهم قد وقفوا موقف من أعيته الحجة وعرف قبيح صنعه، ولكن لعتوه وظلمه وعدوانه وسرفه طفق يقول: أنت تنهانا عما تنهانا عنه لئلا يحل بنا العذاب فيما تزعم! ألا إن كنت صادقاً فأتنا بالعذاب.
وهو يعلم أن العذاب ليس إليه، ويعلم أن الرسول لم يتوعده بإنزال العذاب من تلقاء نفسه أو متى شاء، بل قال لهم بصريح العبارة: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، ويعلم أن ما ينهاههم عنه قبيح مسترذل ولكنه لايريد مفارقته ويريد أن يشوش على الناس حتى لا ينفك أحد عنه. وهذه النمط من التشغيب والقفز عن أصول الموضوعات ظاهرة متكررة تولتها أعداء الرسل جيلاً بعد جيل:
o فهؤلاء ثمود قوم صالح تجاهلوا حجج نبيهم (فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ).
o ومن قبلهم قوم نوح: (قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
o (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وفي الأعراف: (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ).
o ونبي الله شعيباً بعد موعظة طويلة ألقاها وتذكير لقومه بتقوى الله، (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ *فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
o وأما كفار مكة فكذبوا وأبوا، (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ)، (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وقد بين الله تعالى في سورة الحجر بعد أن ذكر قولهم: (لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أن ذلك الضرب من التشغيب سبيلٌ للمجرمين قديمة سابلة يسلكها المجرمون من بعدهم ومن كان فيهم شبه منهم: فقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ)، فهم لا ينتفعون بالآيات مهما عظمت سواءً كانت آيات بيانية قرآنا أو توراة أو إنجيلاً أو زبوراً أو صحفاً أو حججاً نبوية دامغة أو آيات مرئية معجزة، يتجاوزون كل تلك الآيات بمثل هذا التشغيب العنيد.
وهكذا من فيه شبه من أعداء الرسل يشغب لأجل التغاضي عن المنكرات الظاهرة بنحو كلامهم هذا، فإذا ألقيت على أحدهم محاضرة طويلة في أضرار تشجيع الانفلات الفكري والاضطراب العقدي بفتح الباب لكتب الكفر والعهر، قال ما حاصله كلمة الظالمين من أهل الأمم الغابرة: لا تبالغوا هكذا كل الدنيا أفنحن المصطفون دون الناس؟
والعجيب أن هذه الحجة التي يتشدق بها بعض المثقفين تشابه ما يقوله بعض عوام المقصرين ممن ابتلي بالتدخين مثلاً، فإذا حدث عن التدخين وأضراره وما يسببه من أمراض وسرطانات وذكرت له أقوال الأطباء وقرارات وزارات الصحة، قال لك: لنا كذا عام وما جانا شيء! بعبارة أخرى: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين! وإذا تحدث المصلحون عن ظاهرة خطيرة لها آثارها البدهية والعادية السيئة الناجمة عنها وجلسوا يعددون في مساوئها، قال المفسدون: دول العالم كلها تفعله والحياة ماشية! لا تهولوا الموضوع، لا تكبروها... وهم يعلمون أن الباطل ينبغي أن يبطل، والمنكر يجب أن يزال، وأن المثلات التي حلت بالأمم السالفة إن تأخرت عنا، فلا يعني ذلك بأنا معصومون منها، وإن عصمنا منها في الدنيا فلا يلزم من ذلك رفع القلم عنا والصفح عن حسابنا يوم القيامة إن هم لم يرعووا أو إن نحن سكتنا.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ).