الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ أو آلام، ومتع أو حرمان؛ ليست هي القيمة الكبرى، وليست تلك هي المقاييس التي تقرر حساب الربح والخسارة، وإنما مقياس ربح الحياة ما يقف الإنسان من مواقف ترفعه في الدنيا وتسعده في الآخرة، وعليه فلن تكون تلك المواقف سوى مواقف الإيمان الذي تتعدد شعبه وتتعدد مواقف أهله.
أما غيرهم فحياتهم ليست حياة محمودة ولهذا ذم الله أقواماً فقال: "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ" (البقرة: من الآية96)! ولئن كان الحرص على تلك الحياة ذميماً فإن صناعتها مثله، ولكن الشأن الذي يحمد صناعة الحياة الرابحة التي يحبها الله ويرضاها.
وكم في القرآن الكريم من صفحات مشرقات لصناع حياة رابحة من المؤمنين قص الله علينا أخبارهم لنتعلم منهم ونقتدي بهم، ولاشك أن على رأس هؤلاء الأنبياء والمرسلون المؤيدون بالوحي المسددون، غير أن في الأمم من أتباع الرسل ودعاة الخير و الذين نوه الله بذكرهم من ينبغي الوقوف معهم.
ومن أولئك أصحاب الأخدود، والقصة باقتضاب بطلها غلام صغير في سنه، كبير بمواقفه، آمن بربه فزاده هدى، فأراد لذلك ملك بلده الكافر إهلاكه، وحاول بأكثر من سبيل قتله، لكن الله الذي يدافع عن الذين آمنوا كان له نصيراً وحافظاً، وذات يوم قال: الغلام للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن فعلت ما آمرك به قتلتني.
قال الملك: وما ذاك؟
قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهما من كنانتي ثم تقول: باسم الله رب الغلام.
ففعل، فوقع السهم في صدغ الغلام فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فخد الملك الأخاديد في الأرض وأشعلها ناراً، ثم خير الناس بين الكفر بالله، والإلقاء في النار، فاختار المؤمنون أن يموتوا أحراراً من كل عبودية إلا عبوديتهم للواحد القهار، فألقاهم الملك في النار فقضوا شهداء.
الله أكبر الناس جميعا يموتون وتختلف الأسباب ولكن لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذه الرفعة، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى ذاك الأفق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده تشارك الناس في الموت وتنفرد دون كثير منهم بالمجد، في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس أيضاً إذا نحن أخذنا في الحسبان نظرة الأجيال بعد الأجيال.
إن هذا الموقف من الغلام اجتمع فيه دقت التخطيط، وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، فكان النجاح باهراً والفوز ظاهراً، " ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ" (البروج: من الآية11)، ولاشك أن تلك أمور ينبغي أن يحسنها صناع الحياة.
وعامل آخر مهم هو التضحية ولو بالنفس في سبيل الهدف السامي المنشود، فصناعة الحياة قد تكون بالموت، وهذا ما لا يكون إلاّ أن تخالط بشاشة الإيمان القلوب، لتنتج بعد أعمال ومواقف، ولتطرد الهموم همم متعلقة بالمعالي، وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب يصنع العجائب.
إن هذا الموقف من الغلام كلفه حياته ولكن ما هو المقابل؟
المقابل تبليغ رسالة ربه، وإحياء أمة كانت قد نسيت ما خلقت له، فأمات الشرك قلوب أهلها.
ولذا كان ما حققه الغلام انتصاراً، صنع به الحياة التي يحبها الله ويرضاها ولأجلها خلق العباد، وهذه الحياة وإن كانت قصيرة في الدنيا تظل هي الحياة الحقيقية الممتدة إلى الأبد بعد البعث.
وفي هذه الدنيا تذهب الأجسام، وتبقي الأرواح عند الله تعالى حية ترزق، وتلك لعمر الله هي الحياة التي ينبغي أن نصنعها وينبغي أن ندعو الناس إليها: "وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت: من الآية64).