المحاماة لدى المحاكم الوضعية
4 شوال 1430
د. سعد العتيبي

هذا جواب موسع لسؤال ورد إلى الموقع رأينا من المناسب نشره في هذه الزاوية ليستفيد منه الجميع

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
السلام عليكم

سؤال : شيخي الفاضل أنا شاب من (......) وخريج كلية الحقوق ولعلمكم فإن أغلب القوانين في بلدي وضعية لا صلة لها بما أمر الله ورسوله إلا في قوانين المواريث وبعض العقود .
فما حكم عملي لدى محامٍ كمساعد إداري أي يحضر ملفات القضايا وأحملها إلى المحاكم لتوثيقها ؟

الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد
فإنَّ هذا الموضوع من الموضوعات التي تنطلق من ثوابت عقدية ، وتحكمها أصول فقهية عملية ، وهي مما عمّت به البلوى في التعاملات الواقعية ، ومن ثم ظهر فيه الإشكال وكثر عنه السؤال .
وحيث إنَّ المسألة لها صور كثيرة ، والسائلون عنها من ذوي الثقافة القانونية والفقهية ، فلعلّ من المستحسن أن ينطلق الجواب على السؤال من ذكر الأصول والأحوال ، التي ينبغي النظر إليها في مثل هذه الحال وربط جزئيات المسألة بها .
فأولاً : من المتقرِّر في العقيدة الإسلامية : أنَّ الشرع الذي يجب تطبيقه في بلاد المسلمين وبين المسلمين في غير بلادهم ، هو شريعة الله تعالى ، التي خدمها بيانا وتوضيحا وتفريعا العلماءُ الربانيون من أهل الإسلام . وأنه لا يحلّ الحكم بقانون وضعي مخالف لشريعة الله تعالى ؛ فلا يشرِّع للخلق إلا من خلقهم ، وهذا ما يجب أن يكون ( ألا له الخلق والأمر ) . وهو أمر لا يستدعي الإطالة فيه لظهوره ولله الحمد والمنّة ، وما هذا السؤال إلا فرع عن العلم به وصحة الاعتقاد فيه .
ومن ثمّ فإنَّ ما ابتليت به عامّة الشعوب المسلمة في حاضر العالم الإسلامي اليوم وغيره ، من إلزامها بالتحاكم إلى قوانين مستوردة أو موضوعة على غير هدى من الله ؛ إنَّما هو إلزام للأمة بغير شرع ربِّها ؛ وإن بقيت موضوعات محدَّدة كقوانين الأحوال الشخصية التي أشرتَ إليها في سؤالك على ما قرّره فقهاء الإسلام أو بعضهم ، فإنَّها لم تسلم أيضاً من امتداد القانون الوضعي إليها ، بخلفياته الفكرية التغريبية المقيتة ، كإباحة اتخاذ الأخدان ، مع منع التعدد ، وجعل الطلاق في يد المرأة ، ومناصفتها للرجل في ماله في بعض بلاد المسلمين .
وثانياً : من المتقرِّر عند من يُسمّون بالحقوقيين ، أنَّ مجال المحاماة ليس مقصوراً على الوكالة في الخصومة ومساعدة الخصوم على تجهيز دفاعهم والترافع عنهم فحسب ؛ فمجالات المحاماة بإجمالٍ تشمل : المشورة القانونية ، والنصيحة للرعية ، والصلح بين النَّاس ، ودفع مظالم السلطات العامّة ، والإنهاءات ، وصياغة العقود ، والمشاركة في وضع مشروعات النظم واللوائح وسنّ القوانين ، والطعن في الأحكام الظالمة لتصحيحها دستوريا ، وغير ذلك من المجالات المعروفة لدى أهل الشأن ، مما لا يخفى على السائل وفقه الله .
ومع أنَّ الأصل في القوانين الوضعية منع وضعها ومنع إلزام الناّس بالتحاكم إليها على ما تم تقريره في الفقرة السابقة ، إلا أنَّ القوانين الوضعية العقلية ، لا تخلو من موافقة للشرع أو عدم مخالفة له ؛ وهذا يشمل ما كان مصدره الشرع من حيث الأصل ، كقوانين الأحوال الشخصية ، أو كان الشرع مصدراً له عند عدم النص ، أو لم ينظر عند تقنينه أو الحكم به إلى الشرع ، لكنه ليس مخالفاً لحكم الشرع ، أو كان موافقاً لرأي فقهي سائغ ، جرى عليه العمل في بلد من بلاد المسلمين ، أو كان مما يندرج تحت قاعدة شرعية توافق معها القانون فيه ، كعدد من صور العقود التي تعتمد قاعدة القانونيين : ( العقد شريعة المتعاقدين ) إذا كانت قد وقعت على صورة صحيحة شرعاً ، وهكذا بقية فروع القانون لا تخلو من حق ، وإن اختلف ذلك من حيث القلة كما في القوانين الجنائية والجزائية أو كثرة كما في القوانين المدنية و الإدارية .
وثالثاً : أنَّ كلَّ ما وافق شرع الله جلّ وعلا فهو منه ، وكذلك كلّ ما لم يخالف شرع الله تعالى فهو منه ؛ فالمشروع بالنصِّ أو موافقة التقعيد الإسلامي الصحيح ، لا يجوز نفي مشروعيته ، ولو كان في صيغة قانون وضعي أو حكم وضعي ، وهذا من خصائص الشريعة الإسلامية المنبثقة عن شمولها وسموها ومرونتها وصلاحها لكل عصر ومصر وحال ؛ فالقوانين الوضعيـة ، منها ما يكون مندرجاً تحت ما يعرف بالسياسة العقلية ؛ وهي سياسة لا تخلو من حق ، سواء كانت في صيغة تقنينٍ محرّرٍ لا يخالف قانون العدل الإسلامي المتمثِّل في الشريعة الإسلامية ، أو كانت في شكلٍ منظّمٍ لا تأباه أصول الشريعة وقواعدها ؛ وما كان كذلك ، فإنَّه مندرج في الشريعة ، وإنْ حرّره أو تفوَّه به من ليس من أهلها ؛ فالسياسة العادلة من الشريعة ، وإن صدرت من غير المسلمين ؛ فهي من جهة المشروعية معتبرة ؛ ومن ثم تكون مجالاً قابلاً للإفادة منه فيما يحقق العدل الإسلامي .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " السياسة نوعان : سياسة ظالمة ، فالشريعة تحرمها ؛ وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ؛ فهي من الشريعة ، عَلِمَها من عَلِمَها وجَهِلَها من جَهِلَها " ( الطرق الحكمية : 5 ) . و قال : " لا نقول : إن السياسة العادلة ليست مخالفة للشريعة الكاملة ، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها ، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي ، وإلا فإذا كانت عدلاً فهي من الشرع " ( إعلام الموقعين : 4/373 ) .
وعليه ؛ فإنَّ ما وافق الشريعة من القوانين الوضعية وكذلك ما لم يخالف شريعة الله تعالى من نصوص أو قواعد فهو منها عند التحقيق ، لا ينبغي الوقوف منه ذات الموقف مما خالف شريعة الله عز وجل ، وإن لم يكن مأخذه عند واضعه مأخذاً شرعياً ؛ وعليه فإنَّ للمحامي ومن يعاونه : أن ينوب في الخصومة ويعمل في غيرها من أعمال المحاماة التي لا مخالفة فيها للشرع ، وإن كان موضوع الخصومة مقنناً بمعزل عن مراعاة موافقته للشريعة أو عدم مخالفته لها - ما دام أن المضمون لا يخالف الشرع .
ورابعاً : أنَّ التنازع بين النَّاس أمر واقع لا محالة ، ولم يخل منه عصر أو مصر ، ولو تَرك أهل الحقوق حقوقهم للظلمة أو الجهلة ؛ عجزاً عن استيفائها أو استردادها ، لوقع الناس في هرج ومرج . ومن ثم فلا بد من فصلٍ في التنازع ؛ فيلجأ الناس ضرورة للتحاكم إلى القوانين الوضعية ، إذا لم يكن لهم خيار لهم سواها . فكان النّاس ما بين طالب يدّعي إليها أو مطلوب يُدّعى عليه أمامها .
ولا شكّ أنَّ وجود حكم ما ، يحفظ قدراً من العدالة ويرد لهم حقوقهم أو بعضها ، أقلُّ ضرراً على النّاس من بقائهم فوضى دون حكم .
ومن ثمّ فلا حرج على المحامي المسلم المستقيم ، أن يستلم قضية خصومة لا يعرف مدى مشروعيتها بداية ، ولا حرج على غيره في إعانته على ذلك ، بشرط أن يتوقف عملهما فيها على نتيجة دراستها ، فإذا تبيّنت حقيقتها ؛ فإن كانت مشروعة لزمه المضي في القضية إن كانت بعوضٍ ، وإن كانت غير مشروعة توقف عند نتيجة دراستها ، وحرم عليه وعلى معاونيه المضي فيها مع علمهم أنَّها مبطلة ، ويحق له أن يتقاضى عوضاً عن دراسة القضية فقط إذا اقتضاه العرف أو اشترطه .
وخامساً : أنَّ من عمل في وظيفة فيها ظلم من أجل رفع الظلم أو تخفيفه عن النّاس ، فلا حرج عليه ، ولو اقتضى منه ذلك إبقاء شيء من الظلم الأخف ، ما دام قصده دفع الظلم الأشد ولا طريق إلى تخفيفه إلا بذلك ؛ لأنَّه حينئذٍ يكون معيناً للمظلوم على رفع الظلم أو تخفيفه عنه ، وليس معيناً للظالم على ظلمه .
وهذه من أعظم قواعد السياسة الشرعية التي حرّرها المحققون من علماء الإسلام ، ومنهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله إذ يقرِّر أنَّ : " المعين على الإثم والعدوان ، من أعان الظالم على ظلمه . أمّا من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلمة ، فهو وكيل المظلوم ، لا وكيل الظالم " ( التعليق على السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية [ المتن ] : 149 ) . وهي قاعدة شرعية من دقائق الاستنباط من قواعد المقاصد ، وهي مقتضى العقل الصحيح ، ولذلك يرتضي المظلومُ وقوع هذا التصرف ويشكر فاعله متنازلا عن مطالبته بشيء مما نقصه ، لكونه قد أحسن إليه بإعانته في استرداد بعض حقه .
ومن رحمة الله بخلقه أنَّ لصاحب الحق أن يأخذ حقَّه ، ولو بالظفر به ، كما أنَّ له أن يأخذ بعض حقه إن لم يستطع أخذه كلّه ، وهذا الحق قد يكون أمراً يطلبه من غيره ، أو آخر يدفعه عن نفسه .
وسادساً : أنَّ حكم المحاماة والإعانة عليها يتعلق بأمرين رأيسين : أولهما : مشروعية موضوع المحاماة أو عدمها . وثانيهما : مشروعية الحكم المنتظر فيه أو عدمها . وهذان الأمران يتطلبان فقهاً شرعياً بالواقعة . فإذا وجد ذلك فلا حرج في امتهان المحاماة أو الإعانة عليها فيما لا محظور فيه .
فإذا كان موضوع المحاماة أو الخصومة مشروعاً ، كطلب استيفاء حقٍ مالي مشروع أو دفع دعوى باطلة ، فلا حرج في امتهان المحاماة فيها ، وقد يؤجر على ذلك إذا كان صاحب الحق ضعيفا لا يقدر على الدفاع عن نفسه أو تحصيل حق ، ومما يدل لذلك قول الله عز وجل : ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل ) ، و مفهوم قول الله عز وجل : ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) ، إذ يفيد أن الخصومة لغير الخائنين ليست محلاً للنهي ، وما ليس محلّ نهي فهو جائز ، كما أنَّ الأصل في الشريعة الإسلامية : جواز التعاون على ما كان برَّاً ، ، كما في قول الله سبحانه : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) وردّ الحقوق إلى أصحابها ، ودفع الظلم عن المظلومين مجال من مجالات البرّ والتقوى لمن أخلص وعلم فعمل .
وإن كان موضوع المحاماة والخصومة غير مشروع ، كالمطالبة بفوائد ربوية ، أو توثيق عقارٍ مغتصبٍ ، وصياغة عقد استيراد بضائع محرّمة شرعاً ، أو كانت البيِّنات والحجج باطلة ، أو الوثائق المستند إليها مزورة ، لم يجز له المضي فيها ؛ لجملة من الأدلة ، منها قول الله عز وجل : ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) ، والأصل في الشريعة الإسلامية : منع التعاون على ما كان إثماً ، كما في قول الله عز وجل : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

وسابعاً : أنَّ مشروعية إقامة العدل في الجملة ، لا تتوقف على وجود حكم إسلامي المضمون والإجراء ، ولا العيش في ظله بالضرورة ؛ فإنَّ العدالة حق مستَحَق ؛ فالترافع أمام المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية لأخذ الحق ودفع الظلم في المجتمعات الإسلامية وغيرها ، أمر لا حرج فيه على المظلوم ولا على المحامي الذي ينوب عنه في دفع الظلم ؛ لأنَّه لا سبيل له إلى تحصيل حقِّه إلا بذلك ، وإنما الإثم والوزر على من قرّر الحكم بالقوانين الوضعية ، وألزم الناس بالحكم بها والتحاكم إليها ، وعلى من استند إلى تلك القوانين في إقرار ظلم أو دفعٍ عن مبطِل .
كما أنَّ مجالات المحاماة مجالات واسعة ، ومنافذ إصلاح سلميّ شرعي متقدِّمة ، ومنها ما قد يرقى إلى درجة الوجوب على من تعيّن عليه التغيير برؤية المنكر وقدرته على تغييره بالوسائل المتاحة . وكون المحاماة وسيلة تغيير سلمي فاعلة ، أمر تفطن له أعداؤنا من اليهود ، وأكّدوا أهميته ونصّوا على ذلك فيما يعرف ببروتوكولات حكماء صهيون !
والواقع يؤكِّده ، فالمحامي حين يصوغ عقداً من العقود صياغة شرعية ، مفيداً من قاعدة القانون في العقود ( العقد شريعة المتعاقدين ) فإنَّه يساهم في تصحيح عقود النَّاس وتوجيههم للصيغ المشروعة ، وتحذيرهم من غيرها ، فلا يعقد إلا عقدا مشروعا ، ولا يصوغ إلا صياغة شرعية ، وإذا ما وقعت خصومة فيه كان مدافعا عن عقد مشروع .
وكذلك ما نلمسه من أثر قوي للمحامين الأمناء في المساهمة في إلغاء أو تعديل بعض القوانين الجائرة ، وفي نصرة المظلومين من المستضعفين ، وفي تحقيق مطالب شعبية إسلامية بطرق سلمية باقية نافعة .
ومن ثمّ فقد يكون في ترك هذه المهنة من أهل العلم بها والخير والصلاح ، ترك لمجال تعيّن عليهم الإصلاح فيه و به ، فرادى كانوا أو جماعات من خلال نقابات المحامين مثلا ، ولا سيما أنَّ رفع المظالم عن النّاس يتطلب وجود محامين أمناء على علم بالشرع ودراية بالواقع .
وخلاصة القول : أنَّ حكم عملك لدى محامٍ كمساعد إداري ، يحضِّر ملفات القضايا ويحملها إلى المحاكم لتوثيقها ، يرتبط بحكم ما تحضِّره وتوثّقه ؛ فإن كان مشروعاً في الشريعة الإسلامية فعملك مشروع ، وإن كان ما تحضِّره وتوثّقه مما ليس مشروعاً في الشريعة الإسلامية ، وسعيك فيه يقرِّر مشروعيته ، فإنَّه لا يجوز لك العمل فيه ، وإن كان صحيحاً من الناحية القانونية .
وليكن معيار عملك قول الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) .
ولعلّ مما يعينك على ذلك العمل مع محامٍ أمين صالح ، ذي علم بالشريعة ومراعاة لأحكامها إن وجد ، أو مع ذي فقه بالقوة ، أي قادرٍ على بحث ما يشكل عليه شرعيته من المسائل ، أو أن تتعاقد مع من تعمل معه على أنواع معينة من الأعمال والقضايا التي لا يتعارض العمل فيها مع الشريعة الإسلامية .
وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه .
هذا ما تيسر بيانه ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله .