الحمد وكفى وصلى الله وسلم على عباده الذين اصطفى وبعد فلا زالت العبر والدروس تستفاد من الموقف المذكور في قول الله –تعالى-: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"..
ما بين لحظات تحول الأبناء من موقف التفنيد إلى مقام الاعتذار، وقد كان إظهار التوبة وسؤال المغفرة في ذلك المقام من الأبناء من الحكمة، فهم بادروا لما بدت لهم الآيات فلم يتكبر أحدهم عن الرجوع إلى الحق الذي سطع برهانه، كما أن نفس أبيهم في ذلك المقام منشرحة وعينه قريرة فحري به أن يجيب، وهنا تنبيه للأبناء بأن يتحرى أحدهم عند طلبه من أبيه مُهماً الوقت المناسب، والحال المناسب، فكم من ابن طلب من أبيه أمراً فرده ثم لما ناسب طلبه حالاً أو زماناً أجابه، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة مع زوجها، فينبغي للحصيفة العاقلة أن تحسن اختيار الوقت والحال التي تطلب فيها من زوجها، بل حتى الزوج أو الأب إذا أراد أن يقع أمره موقعه أو يأخذ تنبيهه النصيب الأوفى من الامتثال والتقدير، فعليه أن يوجهه للابن أو الزوجة في الوقت المناسب والحال المناسبة.
وبعض أذكياء الأبناء إن أرادوا من أبيهم شيئاً وخافوا رده لهم، بعثوا أحد الأبناء أو إحدى البنات الآتي يظنون أن لها حظوة عند والدهم وقد تكون الصغيرة في أحيان كثيرة أو الصغير، في وقت صفاء انشرح فيه الأب، وكل ذلك من الحكمة، فاختيار الوقت، والمكان، والشخص المناسب، مؤثر في إجابة الطلب من الأب أو الأم أو الزوج الزوجة، بل حتى من المسئولين، فإذا كانت لك قضية وتريد أن تتقدم إلى المسؤول بطلب فيها فكن لبقاً؛ أحسن الأسلوب، وتخير الحال المناسب وكذا الوقت والمقام.
وهكذا صنع أبناء يعقوب طلبوا من أبيهم أن يطلب لهم العفو والستر ممن له حق عليهم، فاختاروا الشخص المناسب وهو الأب ولايبعد أن يكون مخاطبه أحد الأبناء الذين ربما توهموا له أثرة عنده، وعبر بالجمع لأنه المتحدث بلسانهم، الناطق الرسمي عنهم، ثم هم قد طلبوا منه في الوقت المناسب الذي انشرحت فيه نفسه، وانفرجت فيه أساريره، وبالأسلوب المناسب إذ أقروا واعترفوا بالخطأ، وكذلك يعقوب عليه السلام أخر طلب العفو والستر إلى الوقت المناسب فقال: "سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، وبالأسلوب المناسب الواعد المذكر برحمة الله ومغفرته.
ومن الفوائد في مقام الإخوة ذلك المقام بيان أن "العبرة في حال العبد بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين".