الحكمة في زمان الصيام
12 رمضان 1427

صوم رمضان مثال من أمثلة الشريعة التي تتجلى فيها روعة الحكمة وحسنها، وتنكشف لمن تفكر فيها، وصحت آلته وسلم منهجه، أسرار وكنوز من العلم, الحديث عنها في مقال لا يعدو رشفة من النهر، أو غرفة من البحر.
والجانب الزمني في فريضة الصوم من الجوانب الجديرة بالتأمل والتفكر في مناسباتها وما وراءها من الحكم، لما يترتب عليها من زيادة في الإيمان والتقديس لهذا الركن الكبير, وإقبال النفس على الاستفادة منه. ولقد بيّن الله _تعالى_ لنا الحكمة من اختيار شهر رمضان ليكون وقتاً لأداء الصوم المفروض على أمة الإسلام، هذا السبب هو أن هذا الشهر هو الشهر الذي بدأ فيه نزول القرآن الكريم على الرسول _عليه الصلاة والسلام_, حيث قال _سبحانه وتعالى_: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..." [البقرة : 185].

ويدفعنا التأمل هنا إلى السؤال عن السبب الذي من أجله لم تخصص مناسبة بدء نزول القرآن الكريم بعبادة أخرى من العبادات بدلاً بالصوم؟ وهنا يجدر بنا الرجوع قليلاً إلى ذلك الحدث العظيم في حياة البشر، وهو بدء نزول القرآن الكريم، فلأجل هذا الحدث العظيم بدأ إعداد النبي الذي سيتلقى القرآن الكريم، وكان من هذا الإعداد القدري أمور قريبة الشبه بعبادة الصوم والاعتكاف، حيث حُبب لرسول الله تعالى الخلوة، وصار يخرج إلى غار حراء الليالي ذوات العدد كل عام، ليتفكر في خلق السماوات والأرض ويتعبد، حتى جاءه الوحي في شهر رمضان.

وتتجلى هنا روعة المناسبة بين القرآن والصوم، فالرسول _صلى الله عليه وسلم_ حين أنزل الله عليه القرآن هيأه بالخلوة والبعد عن الشهوات، ليستعد لتلقي كلامه _سبحانه وتعالى_، فكانت المناسبة الزمنية وهي نزول القرآن مرتبطة أشد الارتباط بالعبادة التي شُرعت فيها، فالصوم يجلو الفكر، ويصفي القلب، ويقرب من الرب، ويعين على تدبر القرآن الكريم وفهمه، والاستفادة من آياته مواعظه.

قال ابن عاشور: "اختير شهر رمضان من بين الأشهر؛ لأنه قد شرف بنزول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها, ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقعاً فيه، والأغلب على ظني أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاماً من الله _تعالى_ وتلقيناً لبقية من الملة الحنفية, فلما أُنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر" انظر التحرير والتنوير, سورة البقرة.

وقال: (جعل الله للمواقيت المحدودة اعتباراً يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد... للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى: (وذكّرهم بأيام الله)، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلاً مستمراً تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدي في الحج، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه" انظر التحرير والتنوير، سورة البقرة.

قال الفخر الرازي: (أما قوله: {أنزل فيه القرآن} اعلم أنه _تعالى_ لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بيّن العلة لهذا التخصيص، وذلك هو أن الله _سبحانه_ خصه بأعظم آيات الربوبية، وهو أنه أنزل فيه القرآن، فلا يبعد أيضاً تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية, وهو الصوم، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبداً, يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب, إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية, والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية, ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم... فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة, فلما كان هذا الشهر مختصاً بنزول القرآن، وجب أن يكون مختصاً بالصوم، وفي هذا الموضع أسرار كثيرة, والقدر الذي أشرنا إليه كاف ههنا) تفسير الرازي.
وقال البيضاوي: في تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) : "وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم" تفسير البيضاوي.

ويبقى أن نتساءل عن الحكمة من عدم فرض صوم رمضان في مكة وفرضه في المدينة بعد الهجرة! ومع أنه لا يمكن الجزم بشيء هنا، فإن هذا لا يمنع الاجتهاد في معرفة الحكمة والبحث عنها، ولعل السبب وراء ذلك أن مكة كانت بالنسبة إلى المسلمين وقتها محل فتنة وبلاء شديد، فلما أمن المسلمون في المدينة، وتبدل الابتلاء من عدو يقعون تحت سطوته وفتنته إلى ابتلاء في الشهوات؛ كان هذا الوقت مناسباً لبدء فريضة الصوم؛ ليكون وقاية لهم من الوقوع تحت سطوتها، ولا سيما وهم مقبلون على فريضة كبيرة تحتاج إلى إعداد خاص وهي فريضة الجهاد في سبيل الله، والتي يمثل الصبر فيها عاملاً مهماً من عوامل الثبات، قال الحراني: "وحكمة فرضه [يعني صوم رمضان] فيها [في المدينة]؛ أنهم لما أمنوا من عداوة الأمثال والأغيار عادت الفتنة خاصة في الأنفس بالتبسيط في الشهوات, وذلك لا يليق بمؤمن يؤثر الدين على الدنيا" فيض القدير.

وحين نمعن النظر في جانب آخر للحكمة الزمنية لشهر الصوم نجد أن الصوم ارتبط بالتوقيت القمري، وفي ذلك حكم تدل على رحمة الله _تعالى_ بعباده، ورفقه بهم، وأنه سبحانه لا يشرع لهم إلا ما فيه الخير والصلاح، فرَبْط الصوم بالشهر القمري يجعله متجدداً في جوه ووقته فلا يكون دوماً في فصل واحد من فصول العام، ولكن يدور في جميع الفصول على مدى 33.58696 سنة هجرية أو 32.58696 سنة ميلادية، وهذا يتيح التنوع في العبادة، فلا يرتبط أداؤها بجو واحد لا يتغير أبداً، أو ظروف واحدة لا تتبدل، بل يتنوع جو الشهر من عام لآخر، حتى ينتقل شهر رمضان بعد مرور سنوات إلى فصل شمسي جديد. كما يتنوع النهار في شهر رمضان طولاً وقصراً بهذا التنقل بين الفصول الأربعة، ويتنوع الطعام بحسب مواسم السنة الشمسية التي يمر بها شهر رمضان.

والتنوع, سواء في جنس العبادات أو في وقتها, أو في بعض أحوال العبادة الواحدة أو سننها, من الصفات الواضحة في العبادات المشروعة، قال الشيخ ابن عثيمين: "إذا تدبرنا العبادات وجدنا أن العبادات متنوعة؛ منها ما هو مالي محض؛ ومنها ما هو بدني محض؛ ومنها ما هو مركب منهما: بدني، ومالي؛ ومنها ما هو كفّ ليتم اختبار المكلف؛ لأن من الناس من يهون عليه العمل البدني دون بذل المال؛ ومنهم من يكون بالعكس؛ ومن الناس من يهون عليه بذل المحبوب؛ ويشق عليه الكف عن المحبوب, ومنهم من يكون بالعكس؛ فمن ثَم نوَّع الله سبحانه وتعالى بحكمته العبادات" تفسير ابن عثيمين، سورة البقرة.

ومن جهة أخرى؛ يمكن أن يقال إن العبادات في الإسلام بُني أداؤها على حساب السنة القمرية، لأن هذا التشريع منزل للناس في كل أنحاء الأرض, سواء سكان المناطق الحارة أو سكان المناطق الباردة، فلو ربط الحج مثلاً بالسنة الشمسية وشرع في فصل الصيف لشق ذلك على كثير من الناس، وخصوصاً بعض من يعيشون في المناطق الباردة، لأن فصل الصيف سيكون هو دوماً وقت أداء الحج، ولو رُبط ركن الصوم بشهر من شهور السنة الشمسية في فصل الشتاء، فإن فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي يكون عند سكان نصف الكرة الجنوبي هو فصل الصيف، فيكون بذلك رمضان عندهم أبداً في فصل الصيف، وعند سكان الشمال دوماً في فصل الشتاء، وهذا ما لا يتفق مع المساواة في التكليف والرحمة التي جاءت بها الشريعة للعالمين، ولهذا ربطت العبادات كصوم رمضان بالسنة القمرية التي تمر على جميع الفصول الشمسية ليكون الناس في تأديتهم للعبادات واقعين تحت ظروف طقسية متنوعة في نفسها, ومتشابهة إلى حد كبير فيما بينهم.

ولا تتوقف مظاهر الرحمة عند هذا الحد فقط، بل رحمة الله تعالى وتيسيره تشمل قضاء ما أفطره بعض الناس في شهر رمضان بسبب المرض أو السفر وغيره، وذلك أن قضاء رمضان يجزئ فيه الصوم في أي فصل من فصول العام، قال الشيخ ابن عثيمين: "ومن فوائد الآية: أنه لو صام عن أيام الصيف أيام الشتاء فإنه يجزئ؛ لقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر)؛ وجهه: أن {أيام} نكرة"، وقد جاء في الحديث: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" رواه أحمد وغيره، انظر صحيح الجامع رقم 3868. قال المناوي: "ومعناه الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن تمسه مشقة الجوع". فيض القدير.

ومن مظاهر الحكمة الزمنية في تشريع صوم رمضان أنه يرتبط بالنهار ولا يرتبط بالليل، فهو يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس، لأن النهار هو الأساس في نشاط الإنسان وحركته في الحياة، والعبادة اختبار، ولا يكون الاختبار إلا في الوقت الذي يغلب فيه النشاط وانتباه العقل وحضور القلب، ولا ينفي هذا جواز النوم في نهار رمضان لمن شاء حتى إن استغرق نومه النهار كله، لكن الحديث هنا عن جانب الحكمة في التشريع والبحث عن سر الجمال فيه.

ومن جانب آخر؛ نجد أن كثيراً من فوائد الصوم الاجتماعية مثل التدرب على الصبر، وحفظ اللسان، وغض البصر، والتقوى عموماً، والشعور بالانكسار والفقر إلى الله _عز وجل_, وشعور الأغنياء بحاجة الفقراء، وحسن الخلق في معاملة الناس، كل هذه الفوائد وغيرها لا يمكن أن تحصل في الليل الذي يتوقف فيه الإنسان عن كثير من نشاطه الاجتماعي، فالصوم مع أنه عبادة بين العبد وربه، والغاية العظمى منها هي التقوى، إلا أن كثيراً من الفوائد والمصالح تأتي تبعاً لهذه الغاية، فالصوم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتربية المجتمع، والارتقاء به، ليكون مجتمعاً قوياً تحكم علاقاته التقوى والرفق والصبر، وهذه التربية لا يتاح التدرب عليها إلا في أثناء حركة المجتمع، قال ابن عاشور: "حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فرداً فرداً؛ إذ منها يتكون المجتمع" التحرير والتنوير, سورة البقرة.

فالصوم فيه تدريب على غض البصر، ولن يتاح هذا التدريب إلا في وقت النهار في أثناء حركة المجتمع ونشاطه، حين يواجه المسلم بعض الفتن، والتدرب على الصبر لا يُتاح في بعض جوانبه إلا بمعاملة الناس، ولا يكون ذلك في الغالب إلا في وقت النهار، وهنا تأتي التوجيهات النبوية لضبط العلاقات في المجتمع الصائم، وتعرف المسلم كيف يحقق التقوى، ويحافظ عليها، وتحذره من التفريط فيها أثناء تفاعله مع المجتمع وهو صائم، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري، وقال _عليه الصلاة والسلام_: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم) رواه البخاري.