تأملات في مشهد من سورة يوسف (1)
9 رمضان 1427

يقول الله _تعالى_: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"(1).

إن هذا المشهد يطبع في النفس إحساساً خاصاً تعجز كلماتي عن التعبير عنه ولنحاول التقريب، فيا ترى ما سر تلك الريح؟ وأين فصلت العير؟ قالوا (فصلت) أي خرجت من حدود مصر ودخلت في حدود الشام، عندها قال يعقوب عليه السلام للحاضرين من أهله وأبناء بنيه: (إني لأجد ريح يوسف)، قال الرازي: "التحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لأن وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنها ليعقوب عليه السلام، حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي، فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له"، وهذا هو الظاهر فإن المعجزة إن كانت ليوسف عليه السلام لوجد ريح قميصه القاصي والداني، ولكن الإعجاز كان في شم يعقوب أو في وصول الريح له خاصة، ... ثم قال: "قال أهل المعاني: إن الله _تعالى_ أوصل إليه ريح يوسف _عليه السلام_ عند انقضاء مدة المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة(2)، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل". فإذا أقبلت على أمر يحزب فقل بلسان المؤمن الموقن: اللهم لا سهل إلاّ ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

ثم قال: "ومعنى: لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم، وقوله: "لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ" قال أبو بكر ابن الأنباري: أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه، وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب «الكشاف»: يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله: "لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ" أي: لولا أن تنسبوني إلى الخرف".

وتأملوا ذلك الموقف أب مكلوم محزون ينتظر أي خبر يفرحه، وأهلٌ وأحفاد وأبناء يلاحقونه بالتثريب واللوم لكثرة ما يذكر يوسف عليه السلام، ينتظرون أي كلمة يقولها حول يوسف ليشرعوا في النفي والعتاب، ولعل مرادهم تيئيسه من أمر طال رجاؤه له حتى أضر به، وما أصابوا، بل الذي ينبغي إذا رأيت محزوناً، إذا رأيت مصاباً، أن تواسيه، وإياك أن تضيف إلى مصيبته مصيبة وإلى حزنه حزناً، حاول أن تساعده، حاول أن تبث التفاؤل في نفسه، حاول أن ترفع من روحه المعنوية حتى تخفف من مصيبته، فإن لم تستطع فكف شرّك عنه.. إن لم تكن لديك القدرة على مساعدته في محنته حسياً أو معنوياً فاحبس أذاك عنه، عنه كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في وصيته لأبي ذر لما قال له: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك"(3)، وبعض الناس تتمنى لو يكفوا شرهم فتلك صدقة على أنفسهم وعلينا، ولكنهم يثرِّبون ويتكلمون وهم لا يعلمون، ويعقوب عليه السلام في الوقت الذي يتطلع فيه إلى أي خبر عن يوسف يتحسب ردة فعل هؤلاء الأبناء فيستدرك قائلاً: "لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ"، فهل أجدى التحسب شيئاً؟ ما أن انتهى من كلمته حتى قالوا متعجبين: "تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ" [يوسف:95]، قيل مرادهم بالضلال؛ حبك فهي كلمة الأبناء نفسها: "إن أبانا لفي ضلال مبين"، وقيل: شقاؤك، كما قيل في قوله: " إنا إذاً لفي ضلال وسعر"، وقيل المعنى في ذهابك عن الصواب في شأن يوسف، وقيل غير ذلك، وأياً ما كان مرادهم فإن العبارة فيها غلظة وخشونة ما كان لهم أن يوجهوها لأبيهم فضلاً عن نبي، وذلك من جملة بلاء يعقوب عليه السلام الذي قضاه الله له ليرفع به درجته، فإن ظلم وجهل القرابة وقعه في النفس شديد:


وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند

بل ربما صدق في هؤلاء قول الآخر:

أشد عداوة وأقل نفعاً
من الرجل البعيد الأقربونا!

فياللعجب يتحسب ويقول: "لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ"، فما أغنى شيئا عنهم ووقع التفنيد مؤكداً بالقسم، شأن الناس في إنكار ما لم يحيطوا بعلمه، "قالوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ" [يوسف:95] سبحان الله! من الذي يحق له العجب! أي ضلال قديم! إن قلتم حب يوسف فهل كان ضلالاً؟ أو قلتم شقاؤك فبذنب من؟ وإن أردتم ذهاب رأيه وخطؤه في اعتقاد عودة يوسف لموته، فذلك هو العجب العجاب، وهكذا يكذب أحدهم الكذبة فتبلغ الآفاق، حتى تنطلي عليه فيعتقدها، ويظنها حقاً وما سواها باطل وضلال! فيالله متى أكل الذئب يوسف؟ حتى يجزم بموته أو استحالة عودته! بل هبه مات وانقضى فأي ضلال في أن يجد الإنسان ريح ميْتٍ أو يطوف بخياله طائفه، فكيف إذا كان المخاطب بذلك الكلام رجل: يعلم من الله ما لا يعلمون! لقد قالوا كلمة شنيعة وأخطؤوا خطأ قبيحاً وجاءوا فعلاً يدور بين الكفر والقول النكر، ويبدو أن الجهل عذر قديم، بيد أن ذلك طرف يصور شيئاً من بلاء الأنبياء وما لاقوه من عنت وتكذيب.

وبعد مدة ليست بالبعيدة وصل البشير يشتد متقدماً العير، يلوح بالقميص، وجاء اليقين، "فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ" ولعل إفراد ذكره لتقدمه البقية، "أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ" [يوسف:96]، ويبدو أن أولئك الأهل والأحفاد كانوا قريبين، أو أن جلبة البشير جمعتهم، ولست أدري كيف كان موقف أولئك المفندين، ويعقوب عليه السلام يقول: "أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ"، ولعل مما يلحظ في هذا المقام أن يعقوب عليه السلام لم يتهم الأبناء، ولم يقل لهم هذه المرة بل سولت لكم أنفسكم أمراً، وهذا يشعر بأنهم مصدقون عنده في الجملة، وأن اتهامهم له في شأن أخيهم كان متوجهاً للفهم وحقيقة الأمر لا أصل النقل، ومع ذلك حتى لا يظن ظان أن سبب تصديقه هو ما درج عليه الناس من إسراعهم للخبر الذي يعضد ميلهم، ويوافق هواهم، لأن النفوس ترغب فيه، وتميل إلى وقوعه، "قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون"، فالأمر علم علمه له اللطيف الخبير، كان يترقب موعده عن يقين.

___________
(1) هذه المقالة مستلة من تفسير سورة يوسف لفضيلة الشيخ (آيات للسائلين).
(2) بنو تقدير المدة على بعض الأخبار ولم تثبت بها حجة، والأولى أن يقال مدة مديدة.
(3) صحيح مسلم 1/89 (84).