المستدركون على العلماء
4 رمضان 1427

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .. أما بعد:
فقد ظهرت في الآونة الأخيرة كتابات هنا وهناك في بعض الصحف تخوض في المسائل الشرعية بغير علم وتخطئ وتستدرك على العلماء ممن اشتهروا بالعلم والفضل تارة بدعوى المناقشة والاستيضاح وتارة بدعوى الرد على العالم وتارة بدعوى بيان الواقع للعالم وتارة باسم الإصلاح والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني كما يزعمون وهذه الكتابات لا تخلو من المغالطات وسوء الفهم للنصوص الشرعية وعدم التأدب في الخطاب مع العالم الرباني وأصحابها لم يعرفوا بعلم ولا بدعوة وكتاباتهم تثير البلبلة والفوضى والفتنة بين الناس وتجعل من الناس لاسيما العوام والجهلة وضعاف الإيمان من ينخدع ويغتر بمثل هذه الكتابات وينصرف عن سؤال أهل العلم ويتعلق بالأقوال والآراء الشاذة التي لا دليل عليها وفي هذا مفسدة عظيمة لا تخفى وكما هو معلوم فإن كل صاحب هوى قد يجد من شأن الأقوال والآراء ما يوافق هواه فالواجب الأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء ومنعهم من الخوض في المسائل الشرعية بدون علم حماية لعقائد الناس ودينهم من الشبهات وهكذا الذين يصدرون الفتاوى التي تدعوا إلى الإفساد في الأرض وسفك الدماء المعصومة والخروج على ولاة الأمر يجب التصدي لها والأخذ على أيدي أصحابها حتى لا يغتر بهم الجهلة ويربح من وراءهم الأعداء .
وهؤلاء الذين يجادلون العلماء ويستدركون عليهم عبر أعمدة الصحف إن كانوا أرادوا المناقشة صدقاً والاستيضاح حقاً فليس طريق ذلك إثارة الشبه على أعمدة الصحف بل الطريق إلى ذلك هو الاتصال بالعلماء مكاتبة أو مشافهة للسؤال والاستيضاح امتثالاً لقوله _تعالى_ : "فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وإن كانوا أرادوا الرد على العلماء فقد ذكر أهل العلم أن الذي يرد على العلماء على حالين :
1) من عرف بالعلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم وأراد برده على العلماء النصيحة لله ولرسوله وبيان الخطأ وتأدب في الخطاب وأحسن الرد والجواب فلا حرج عليه وهو مثاب على قصده ويجب أن يعامل بالإكرام والاحترام .
2) من لم يعرف بالعلم وظهر منه التنقص والذم للعلماء وإظهار معايبهم وقصورهم في العلم وتزهيد الناس في علمهم فهذا قد ارتكب أمراً محرماً سواءً كان هذا الرد في وجه من ردّ عليه أو في غيبته ، وسواءٌ كان في حياته أو بعد موته ويجب أن يعاقب ويعزر حتى يرتدع هو وأشباهه عن هذه المحرمات .
وإن كان أراد هؤلاء الإصلاح وتجديد الخطاب الديني – كما يزعمون فالخطاب هو خطاب رب العالمين _عز وجل_ القائل " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" فهذه الأحكام التي جاء بها هذا الخطاب جعلها الله صالحة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة وأعظم الفساد هو تغيير أحكام الله التي شرعها بدعوى الإصلاح قال _تعالى_: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " ، وأما الاجتهاد في الشريعة فليس لكل أحد بل هو لأهل العلم الراسخين فيه.
والمتأمل لكتابات هؤلاء يلحظ ما يلي :
1) أنهم ليسوا من أهل العلم الشرعي المعروفين به فلهذا زلت أقدامهم وضلت أفهامهم فهم يجمعون الأدلة من غير تمحيص من الكتب أو من مواقع مشهورة في الإنترنت مع جهلهم بدلالات النصوص ، ووجوه الاستدلال ، ومنهج الاستدلال ، وأسباب النزول ، ومقاصد الشريعة وعدم تمييزهم لصحيح الحديث وضعيفة ، وناسخة ومنسوخة، ومحفوظة وشاذة ، ومطلقه ومقيده ، ومرفوعة وموقوفة ، بل قد يستدلون بالدليل في غير ما يدل عليه وقد يأخذون بالدليل ويتجاهلون ما يعارضه أو يخصصه أو يبينه أو يقيده إما جهلاً به أو أنها تعارض ما عندهم فتركوهاً عجزاً عن الجمع بين الأدلة وقد يأخذون من الأدلة المتشابه ويتركون المحكم الواضح من النصوص وكما هو معلوم فإن النصوص الشرعية لا تعارض بينها فهي يفسر بعضها بعضاً ويصدق بعضها بعضاً فهؤلاء يدعون العلم وهم دون ذلك بل هم مقلدون ومذهبهم مذهب العالم الرباني الذي يستفتونه ولا يسوغ لهم الاجتهاد في الأحكام الشرعية بدون علم ولا بصيرة ولا الاختيار بين أقوال أهل العلم بالتشهي والهوى .
2) أنهم يجعلون مجرد الخلاف في مسألة دليلاً على الأخذ بأي رأي وهذا مسلك خاطئ فليس كل خلاف له حظ من النظر فالمعول عليه هو الدليل من الكتاب والسنة والمستدل ليس كل أحد بل هو العالم الرباني أو طالب العلم العالم بالأحكام وطرق استنباطها من الأدلة أما المقلد كهؤلاء فمذهبه مذهب العالم الذي يستفتيه –كما تقدم- وإذا كانت المسألة من الأمور العامة التي تتعلق بالأمة كأمور الحرب والسلم والجهاد والمعاهدات ونحو ذلك فقد جعل ولي الأمر للناس هيئة مختصة الإفتاء فالفتوى منها ترفع الخلاف لمصلحة توحيد الأمة وعدم تفرقها ولا يسوغ بعد ذلك الخروج عن رأيها بحجة أن المسألة خلافية لأن ذلك من شأنه أن يدخل الأمة في الفوضى والاختلاف .
3) أنهم يستدلون بالعقل في أمور قد حسمها الشرع والعقل وسيلة لفهم النصوص الشرعية وليس دليلاً مستقلاً فالاستدلال بالنصوص الشرعية لا بالعقل والرأي المجرد ولا يجوز تقديم العقل على النص الشرعي وأول من عارض الوحي بالعقل هو إبليس فكان ذلك سبباً في طرده من رحمة الله فإن الله _تعالى_ لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بحجة عقلية فقال : " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " .
4) أنهم يدخلون خوضهم في النصوص الشرعية بدون علم تحت باب حرية الرأي وتقدم أن النصوص الشرعية هي التي تتبع لا الآراء والتخرصات المجردة وأما الاجتهاد في الشريعة فله أهله ثم إن حرية الرأي في الإسلام ليست مطلقة بل هي مقيدة بضوابط تحفظ مصالح الفرد والمجتمع ليس هذا موضع تفصيلها .
5) أنهم يتخذون الجدل والمناظرة في الصحف وغيرها لترويج ما عندهم من أفكار وشبه وأهل الحق لا يلجؤون للخصومات والمراء بل يبينون الحق بدليله وإذا وصل الخلاف إلى حد المراء والتخاصم كفوا ألسنتهم وأقلامهم .
وأخيراً فيجب أن يعرف لأهل العلم فضلهم ، وأن إجلالهم هو من إجلال الله تعالى ، والذب عنهم هو ذبٌ عن شريعته عز وجل لأنهم ورثة الأنبياء ، بهم يعرف الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، يذكرون الغافل ، ويعلمون الجاهل ، طاعتهم واجبة ومعصيتهم محرمة ، بهم تحيا قلوب أهل الحق ، وتموت قلوب أهل الزيغ ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها الناس إذا ظهرت أبصروا ، وإذا انطمست تحيروا ، حياتهم غنيمة ، وموتهم مصيبة ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم .
نسأل الله تعالى أن يحفظ علمائنا وولاة أمرنا ويوفقهم لما فيه خير البلاد والعباد ويكفينا شر الأشرار وكيد الفجّار إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم