الاستعلاء على الحق لسبق الضعفاء (2-2)
2 رمضان 1427

لقد تكبرت الأمم السالفة على الحق لما سبق إليه أولئك الضعفاء، بل استدلوا على بطلان الحق بقولهم: "وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا"، ثم وصفوا رأيهم بالأفون فقالوا: "بادي الرأي"، يعني: الناس السذج، الأسافل المستضعفون.
ونفس هذا المنطق فعله أهل الجاهلية لما دعوا للإيمان والإسلام؛ قالوا للنبي _صلى الله عليه وسلم_ لا يمكن أن نجلس مع خباب ومع بلال ومع سهيل.. وغيرهم من ضعفاء المسلمين، وفقراء المسلمين.
وأحيانا يقولون للنبي- صلى الله عليه وسلم -: "اجعل لنا مجلسا غير مجلس هؤلاء"، أو "اطرد هؤلاء من مجلسك؛ ونحن نتبعك".
فأنزل الله -سبحانه وتعالى- قوله: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"(1).
وهنا لفتة: قوله: "يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"(2) يعني: هؤلاء يدَّعون -وهذه دعوة نجدها إلى الآن- يدَّعون أن هؤلاء الضعفاء ما تبعوا هذا الدين إلا لأن لهم مصالح: إما لأنهم يعانون أزمات نفسية وفكرية؛ ولهذا يستجيبون لمثل هذه الدعوات، أو أنهم يشعرون بالظلم والاضطهاد، فما اتبعوا هذا الدين إلا لأجل أن يرفع عنهم الظلم.
وفرق بين أن نقول: "إن هؤلاء شعروا بمرارة الظلم، فلما جاء هذا الدين الذي يرفع الظلم؛ أحسوا بأن هذا الدين حق من عند الله -سبحانه وتعالى"، وبين ما يقوله أهل الجاهلية من أن هؤلاء ما اتبعوا هذا الدين إلا ليرفعوا الظلم عن أنفسهم، أو لأجل أن يصيبوا من المال.. أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية.
وهذه الشنشنة نسمعها من أتباع أهل الجاهلية في العصر الحاضر؛ وقد تولى الله تعالى الإجابة على أولئك بقوله _سبحانه_: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"(3) فهي شهادة بالإخلاص لله -سبحانه وتعالى- من أصدق الشاهدين سبحانه، أما الذين يريدون وجوه الأكابر فهم الذين يهادنونهم ويوافقونهم في كل حق وباطل.
ولهذا نهى الله -سبحانه وتعالى- نبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم - قائلاً: "وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ"(4).
ثم بين الله -سبحانه وتعالى- مقياسهم: "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ"(5) فرفع الله الناس درجات في هذه الدنيا وجعلهم خلائف؛ ليبلو بعضهم ببعض، وليكون في ذلك ابتلاء وامتحان لهم، لا ليكون ذلك دليلاً على كمال الفعل ورجحانه.
وأما مقياس الشرع فقد رفع من يستحق أن يرفع باتباعه الوحيين وخفض من هو حقيق بأن يخفض، ولهذا ساد أولئك الضعفاء الذين تابعوا النبي- صلى الله عليه وسلم - والذين سبقوا للإسلام، وسبقوا غيرهم، فحين جاء أبو سفيان وصفوان وغيرهما، واستأذنوا على عمر بن الخطابرضي الله عنه لم يأذن لهم، وأذن لصهيب وبلال وغيرهما من ضعفاء المسلمين الذين كان أهل الجاهلية لا يقيمون لهم وزناً مطلقاً، فحين قالوا ما قالوا قال لهم أبو سفيان: "دعوا إلى الإسلام فأجابوا، ودعيتم فامتنعتم".
وأخيراً ينبغي أن ننظر للحق بعين الحقيقة لا لمن سبق، وإلاّ فلن يكون لنا السبق أبداً، أما ترك الحق لسبق الضعفاء فهو سبيل من رضي بذيل أمم البغي والاستكبار أعاذني الله وإياكم منه وهدانا إلى أقوم السبل بمنه وتوفيقه.



_____________________
1- سورة الكهف آية : 28 .
2- سورة الكهف آية : 28 .
3- سورة الكهف آية : 28 .
4- سورة الأنعام آية : 52 .
5- سورة الأنعام آية : 53 .