ثبت في مسلم وغيره أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"، فمن هم هؤلاء؟ هل هم الوجهاء والأغنياء؟ هل هم العلماء والأمراء ؟ هل هم القادة والسادة ؟ هذه موازين بعض البشر!
وما كل دار أقفرت دارة | الحمىولا كـل بيضاء الترائب زينب |
واقرأ هذا الحديث بعمق وبصيرة، قال الصادق المصدوق: "ربّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"(1)، قال الله _عز وجل_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الحجرات:11].
إن هذا الحديث يجعلنا نعيد النظر في كثير من المسلّمات الاجتماعية؛ فقد يكون لها عندنا شأن عظيم، وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، بل قد تكون من موازين الجاهلية؛ وقد قال الرسول _صلى الله عليه وسلم_ عندما قال أبو ذرّ لرجل من الصحابة: يا ابن السوداء "إنك امرؤ فيك جاهلية"(2).
مرَّ رجل على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فقال: ((ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع. ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع، فقال: رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ، هذا خير من ملئ الأرض مثل هذا))(3)، وقصة الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد فماتت، فسأل عنها _صلى الله عليه وسلم_ فلما أخبروه بموتها قال: ((أفلا كنتم آذنتموني به)) فكأنهم حقروا من شأنها، فقال: ((دلّوني على قبرها)) فدلوه، فأتى قبرها فصلى عليها(4).
كل هذا يوجب علينا أن نعرض أمورنا على الشرع لا على أعراف الآباء والأجداد حتى لا يكون فينا شبه ممن قال الله _تعالى_ عنهم: "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ". [الزخرف:22- 23]. فجاء جواب النبي _عليه السلام_: "قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ" [الزخرف:24]، قال الله _تعالى_: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ"، وفي الآية الأخرى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" [البقرة: 170].
ألا فلنعرض الخلق على ميزان الحق الذي وضع وارتضى، ولنحذر تحقير الكبار في ميزان الشريعة، فرب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره:
فلا تحقرن خلقاً من الناس وذو القدر عند الله يخفى على الورى |
علهولي إله العالمين وما كما خفيت في علمهم ليلة القدر |
تدري
________________
* مستل من تعليقات الشيخ على صحيح مسلم بتصرف.
1. رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل الضعفاء والخاملين رقم (2622) 4/2024.
2. رواه مسلم في كتابا الأيمان باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس (1661) ورواه غيره.
3. صحيح البخاري الفتح حديث رقم (5091) بكتاب النكاح، باب: الأكفاء في الدين.
4.صحيح البخاري كتاب الصلاة باب كنس المسجد (458) وكتاب الجنائز باب الصلاة على القبر بعد أن يدفن(11737).