المنهج مع الألفاظ المجملة
2 جمادى الثانية 1427

الحمد لله رب العالمين، كتب العصمة في البلاغ لأنبيائه، والصلاة والسلام على المؤيدين بالوحي المسددين، وعلى آلهم ومن اقتفى آثارهم، وبعد فإن عوارض الألفاظ وما يعتريها من عموم وخصوص، وإجمال وبيان، أمور لا مندوحة عن بعضها في كثير من الأحيان، كيف لا وهي من عوارض كلام العرب، الذي يتحدث به الناس، غير أنه في مواطن ينبغي أن يتحرى المرء تبيين المجمل، كما أنه يتوجب عليه في مواطن ترك التعميم، أو التخصيص.
والأصل أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يسوغ، فمهما أردت بياناً فإياك والألفاظ المجملة والعبارات المحتملة فاجتنبها قدر الطاقة، ولا عصمة إلاّ لمن عصم الله.
بيد أن ما يغفل عنه بعض الطيبين الذين يحملون كلام بعض الفضلاء ولاسيما الدعاة والمصلحين، أوجهاً فيها شناعة، يغفلون في أحايين عن بعض الأوجه التي تبين كلامهم، فتراهم يشنعون على داعية أو مصلح أو علم بكلام غايته أن يكون مجملاً حملوه على معنى سيء أو ظن خاطئ، لتمسكهم بأحرف عجيبة، بحرفية جامدة فاقت جمود بعض الظاهرية على ما يحسبونه ظاهراً.
ولهذا يحسن التذكير بأن ذكر الألفاظ المجملة إنشاءً أو نقلاً عن قائليها سواء كانت إسرائليات أو أشعار أو غيرها قد شاع عند أهل العلم ولكن في سياق يوضح المراد من ذلك المجمل، فإن نقل أحد كلاماً مجملاً مكتنفاً لحق وباطل وجب أن ينظر في سياق كلامه ويحمل على الوجه الذي ذكره مستشهداً به عليه، ولا يحمل على غيره، وحمله على غيره حينها وإن كان مجملاً من تعسف الخابطين قال شيخ الإسلام _رحمه الله_: "واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي ... وتارة بما اقترن باللفظ من القرائن اللفظية... وتارة بما يدل عليه حال المتكلِم والمخاطَب والمتَكلَم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ ... إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور، وإلاّ فقد يتخبط في هذه المواضع"( ).
وقال الإمام ابن القيم: "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله في نظره غلط في مناظرته، فانظر إلى قوله _تعالى_: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير.."( ).
وبهذا يعلم غلط من تمسك بإجمال لفظ مجمل في الحطيطة من قائله أو ناقله، دون نظر منه إلى سياق الكلام الذي يبين إجماله، أو حال المتكلم المبينة لمراده، أو حال المخاطَب كما قال شيخ الإسلام.
كما يتبين غلط أولئك الآخذين بالجانب الذي لم يدل سياق كلام القائل أو الناقل على أخذه به وإنما ذكر تبعاً.
ولو قدر أن حال المتكلم أو المخاطَب أو سياق الكلام لم يظهر منها مراد المتكلم، فيظل المجمل مجملاً يتطلب من الناظر فيه استفصالاً من قائله قبل إصدار حكم عليه.
وكما يغلط أقوام في مثل هذا تغلط طائفة أخرى في مقابلة هؤلاء، فيعذرون بكل لفظ مجمل وإن كان سياق الكلام وحال المتكلم أو المخاطب لا تدل على خروج الاحتمال الباطل عن مراد المتكلم.
وهذا مما وقع بسببه خلط كثير أخذ بسببه فضلاء بغير جريرة على الحقيقة، واعتذر بل تعصب لأراذل من أصحاب الموبقات باعتذارات سمجة وتحميل لكلامهم ما لا تحتمله حالهم، والحق وسط بين طرفين، والله المسؤول أن يوفقني وإياك لمراعاته.


----------
) ) الفتاوى الكبرى 5/155.
) ) بدائع الفوائد 4/815.