وقفات مع الحملة الإعلامية على المحاكمة الشرعية
3 ذو القعدة 1426

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد..
فلما رأيت الحملة الإعلامية في بعض المقالات وما يسمى بالتحقيقات - من خلال صفحات بعض الجرائد ومواقع الإنترنت - على الشرع الحنيف من خلال النيل منه ومن مؤسساته توظيفاً لقضية فردية كانت معروضة أمام القاضي المختص، رأيت أن أضع بعض النقاط على بعض الحروف، مستعينا بالله _عز وجل_، فأقول:
1) ما إن سمعت أن صحيفة محليَّة احتضنت متهما تجري محاكمته منذ وقت، حتى تيقنت أنَّ الأمر لدى بعض الكتّاب في بعض الوسائل الإعلامية لن يقف عند حدّ صدور الحكم مهما كان عادلا و(مسبباً) بأقوى الحجج، بل ولو بسيد الأدلة – كما يقال- الاعتراف.. وهذا الاستنتاج – بحمد الله – من الأمور التي صار يدركها أي مواطن عادي.. وقد سمعت في المجالس استهجانا واضحا - لهذا المسلك - من أناس لا يظهر عليهم شيء من المظاهر الخارجية للمحافظة، فحمدت الله على ذلك كثيرا.

2) وبغض النظر عن القضية وملابساتها والحكم وحيثياته، فإنني أُسجِّل بعض ما قد يلفت الانتباه إلى حقيقة ما يجري في الساحة الإعلامية، من تصرفات مريبة، ورد استهجانها في الكتاب العزيز، في نحو ما يرد إن شاء الله _تعالى_ في خاتمة هذا المقال.

3) وفي نقد هذه الحملة لا تحتاج - أخي الكريم - إلى أدلة تقنع بها الآخرين عن أهدافها المشبوهة، وطرائقها المريبة، بل يكفيك أن تعرض ما جرى في صورة أسئلة، من مثل: لماذا تثار القضية إعلامياً مع أنَّها قد أخذت مسارها في القضاء؟! ولماذا لم تجر أي مقابلة ولو هاتفية مع أحدٍ من مجموعة طرفها الآخر؟! ولماذا تصاغ العناوين فيها على نحو استعطافي لمصلحة المدّعى عليه؟! ولماذا في أكثر من صحيفة وموقع، وفي وقت واحد؟! ولماذا يحتضنها كتّاب يعرف النّاس مواقفهم مسبقاً؟! ولماذا يعترض بعضهم على الحكم القضائي ذاته دون معرفة حيثياته؟! وهل الاعتراض على الحكم الابتدائي حق لمن انتقده من الكتّاب والصحف أو هو حق للمحكوم عليه؟! ولماذا تعدّت هذه الحملة إلى الأحكام الشرعية ذاتها، من مثل الاستخفاف بعقوبة المستهزئ في الشريعة، وانتقاد العقوبات البدنية التي ورد النصّ عليها في القرآن الكريم؟! بل ولماذا الإصرار على الكذب في لمز العلماء المشهود لهم بالتقى والعلم، من أمثال شيخنا العلامة الجليل: ابن باز _رحمه الله_ والإصرار على تقويله ما لم يقل، وقد أعلم بعض هؤلاء بخطئه فيما نسبه إلى الشيخ _رحمه الله_، ثم يصرّ على ترداده دون أدنى توثيق.. فهلا قالوا حقاً إذْ شغّبوا؟! ومن عجيب الأمر أنَّه طالما كتب القوم – ذاتهم - عن مدى جرم الفئة الضالة في تكفير هذا الإمام، فهل كان دافعهم حب الشيخ، وحماية عرضه؟! وقبل هذا وذاك، لم أُدخِل الإرهاب في التشغيب على هذه المحاكمة بالذات، ومن أوحى للمشاغبين بهذه المكيدة الشيطانية الضعيفة؟! وهل يسوغ التسليم بأقوال المدّعى عليه وترويجها إعلاميا، دون تثبت ولو من عريضة الدعوى الرسمية؟

4) وهناك جملة من الاعتراضات والمقترحات التي حاول القوم بها ترويج حملتهم، وصبغها بصبغة الإصلاح، وغرزها بين نسيج مِعْطف الوطنية مهما كانت نشازا، بل مهما كانت متناقضة مع الدستور الوطني لبلادنا حفظه الله من كلّ كائد. فعلى سبيل المثال:
 رأينا النيل من المحكمة، ومن القاضي، ومن الحكم القضائي، ومن السلطة القضائية كلها، بل والمطالبة بالتدخل الحكومي في أعمال السلطة القضائية؛ وكأنَّ المحكمة والقاضي شيء وافد، لا صلة له بالدولة وسلطانها وهيبتها، وكأنه لا يجب لديهم الانقياد لما يقتضيه نظامها الأساسي كأي دولة في العالم؟! فأي وطنية يزعمون، وأي إضلال يروجون، وأي فتنة ينتظرون؟! ولمّا كان بعض هؤلاء يصرح بادعائه للبرالية، فإنني أذكِّر القراء الكرام، بأنَّ كثيراً من مدِّعي اللبرالية من بني جلدتنا، ما هم سوى مفخفخين باللبرالية لا يعون حقيقتها أو لا يريدون؛ وإلا فأي ليبرالية تدعوا إلى تداخل السلطات؟! ومن أجل قضايا فردية لها بالقوم تعلق فكري.. بل أي ليبرالية تسخر من المؤسسة القضائية؟! أعطوني مثالا للبرالي غربي يتهجم على مؤسسة بلاده القضائية على نحو ما نراه من القوم؟!.. تمنيت لو أقرأ لأحد هؤلاء مطالبة بمحاكمة (أكرِّر محاكمة) المعتقلين من أبناء بلادنا في جوانتانامو، ولو بعبارات ألين من عبارات تهجمهم على مؤسستنا القضائية؟! وأن أقرأ لأحدهم سخرية من حكم قضائي صهيوني واحد، يَحْكُم فيه قضاة المحتل على عجوز فلسطيني بالسجن لمدة تزيد على مائتي عام!

 ومن الأمور التي تلفت الانتباه في الضجة الإعلامية المشار إليها، ما ورد من أحد الكتاب من المطالبة بهيئة محلفين.. وحين قرأت هذا الطرح ورد على ذهني سؤال، هو: هل فكرة التغيب عن جلسات القضاء - في بلادنا - مع إمكان الحضور فكرة وطنية أو هي فكرة يسوِّغها العيش في ظل نظام قضائي آخر؟ إذ إنَّ التغيب في انتظار حملة إعلامية تميل لصالح طرف ما في قضية ما - يفيد منها المحامون في دول أخرى لما تثمره من تكوين رأي إيجابي للطرف المدعوم إعلامياً، تدلي به هيئة محلفين فيما بعد؟! وهذا أمر يدركه حذّاق المحاماة في الدول الأجنبية؛ لكنها عندنا كالتيه في صحراء بلادي؛ لأنَّ البيّنة الشرعية ينتجها الواقع، ولا يصنعها الضجيج الإعلامي!

 ومنها كذلك المطالبة بتقنين العقوبات – وبغض النظر عن الهدف من هذه المطالبة ومدى مشروعيتها – إلا أنَّ المسألة لم توقف الشانئين لعقوبة الردة من حملة الفكر ذاته في عالمنا العربي عن نقدهم وسخريتهم للأحكام الشرعية؛ ولا زلت أتذكر الحملة الإعلامية التي صاحبت الحكم الذي أصدره شيخنا وأستاذنا الدكتور فاروق عبد العليم مرسي – أجزل الله مثوبته - رئيس محكمة الاستئناف في جمهورية مصر العربية - آنذاك - على المدعو نصر أبو زيد، حين قضى بردته والتفريق بينه وبين زوجه، مع أنَّ ما قضى به عقوبة مقننة، وقد سبّب فيها الحكم بجملة كبيرة من الأسباب القانونية القوية التي لا يجرؤ محام محترم على إعطاء أمل بدفعها، ومع كلِّ ذلك لا زال القوم يتأوَّهون من ذاك الحكم القانوني القوي، الذي فرَّ المحكوم عليه بعده إلى البلاد الأجنبية التي تحتضنه من حين فراره، مع أنَّه مدان ومحكوم عليه بمقتضى القانون في بلده بوصفه مجرما. ثم أين هم من مراعاة الدستور (النظام الأساسي للحكم) وهو أعلى الأنظمة المقننة في بلادنا حفظها الله؟ لماذا يتجاوزونه في ممارساتهم الإعلامية وغيرها؟! بل لماذا يتجاوزون السياسة الإعلامية العظيمة لبلدنا، في وسائل الإعلام المحلية أو من خلال مواقع تنتسب إلى بلادنا؟!

 وهنا أود أن لا نغفل عن الطرح المتكرر لمسألة عقوبة المرتد، والدندنة حولها، ومحاولة التهوين من شأنها، والتشكيك في وجوبها، وكأنَّ القوم يمهدون لمثل ما نرى من تجاوزات إعلامية؛ ولعلّ مما يؤكِّد ذلك: الحيصة التي أفقدت بعض كتاب المنتديات - الراعية للزندقة - صوابهم حتى ضربوا أخماساً بأسداس وأعلن بعضهم يأسه من النيل من تغريب البلد بعد صدور الحكم، وإعلان آخرين أنَّهم سيتوارون عن الكتابة، حنقاً ويأساً وتعبيراً عن السخط، وكأنَّهم كانوا ينتظرون انسلاخنا من ديننا وجعل كتاب ربنا وراء ظهورنا بين عشية وضحاها، لا قدّر الله!

5) أما النيل من عقوبة الجلد، والسخرية من عقوبة السجن اللذان نطق بهما القاضي في القضية المثارة، فيكفي في هزِّ قائله، أن تُعلمه بأنَّ العقوبة البدنية ومنها الجلد، مقنّنة في عدد من القوانين الغربية، ففي انجلترا – على سبيل المثال - ورد الجلد في العقوبات المنصوصة في القانون الجنائي البريطاني! وفي الولايات المتحدة يعدّ الجلد - ذاته- عقوبة أساسية في قانوني الجيش والشرطة(1)! أمَّا السجن فأخبره بأنه يحكم في تلك البلاد على بعض المتهمين بأكثر مائة عام، وليس بثلاث سنوات!

6) وقد عجبت من بعضهم وهم يكادون يتقطعون حياءً، لما أنَّ القضية المثارة قد أوردتها صحف أجنبية! وهم يرون الحكم الذي صدر حكم يدعو إلى (الفشيلة) كما عبّر أحد المنهزمين! إنَّها الهزيمة الداخلية، والإعجاب المقيت بكل ما هو أجنبي، مع ازدراء لعين لكل ما هو إسلامي أو عربي، أو إسلامي عربي سعودي! ولقد رأيت لبعضهم دفاعاً عن اليهود تعقيباً على مقال تنتقد فيه بلادنا؟! مع أنَّه يزعم أنَّه من بلادنا؟! أهذه الوطنية التي يتحدثون عنها؟ بل مَن الذي لفت انتباه الأجنبي لقضية فردية في قرية آمنة نائية!

7) وعلى كل حال فهذه الأسئلة وغيرها جعلتني أتفاءل كثيرا، لأنَّ القوم عجّلوا بالكشف عن حقيقة دعاواهم أمام عامة النّاس.. وفي أمر يعدّ محكّ ديانة، ومدار شرعية.. وهنا أتذكر مقولة للكاتب الأمريكي، المنظِّر اليميني / صموئيل هنتنغتون، كنت علّمت عليها حين قراءتي لها في كتابه (صدام الحضارات)، جاء فيها: " جماعات المعارضة الديمقراطية اللبرالية وُجدت في معظم المجتمعات الإسلامية، ولكنها كانت - عادة - مقتصرة على عدد محدود من المثقفين وآخرين من ذوي الأصول أو العلاقات الغربية، مع استثناءات عرضية فقط؛ فاللبراليون الديموقراطيون كانوا غير قادرين على تحقيق دعم شعبي مستمر في المجتمعات الإسلامية " ويضيف وتأملها جيداً: " بل وحتى اللبرالية ذات المنحى الإسلامي، أخفقت في بناء قواعد لها في كل مجتمع مسلم، واحداً تلو الآخر... إنَّ الإخفاق العام للديمقراطية اللبرالية في أن تثبت وجودها في المجتمعات الإسلامية، هو ظاهرة مستمرة، ومتكرّرة، لمدة قرن من الزمان بالكامل، بداية مع أواخر القرن التاسع عشر"(2).

وهنا ألخِّص نصيحتي لهؤلاء في التذكير بآيات قرآنية من كلام من خلقهم ورزقهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا.. قال الله _عز وجل_: "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (النور:51)؛ وليحذروا الوقوع في سخط الله _عز وجل_، وإعلان محاربته حتى لا يخرجوا من دائرة الإيمان وهم لا يشعرون: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً" (النساء: 65)؛ وقال _سبحانه_: "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (النور48-50).

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واهدنا وإخواننا ممن لُبِّس عليه أو غُرِّر به، لما فيه عزّنا وعزّ بلادنا وأمتنا؛ ووفق ولاة أمرنا للعمل بما يرضيك، وجنّبنا وإيَّاهم الوقوع فيما يجلب سخطك إله الحق، واجعلهم قدوة لقادة البلاد الإسلامية في اتباع الحق والحكم بالشريعة.. اللهم احفظ لنا أمننا وإيماننا، وردّ كيد الكائدين عنَّا بما شئت، إنَّك على كل شيء قدير.

وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.

_____________
(1) كمال الشريعة الإسلامية وعجز القانون الوضعي ، للمستشار سالم البهنساوي :365 .
(2) صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي :223 .