الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن الرؤى باب زلت فيه أقدام؛ فمن الناس من يكذب في رؤياه ليضحك الناس أو يجلب الأنظار، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل". رواه البخاري، فالذي يقول: رأيت في المنام ولم ير، جاداً أو مازحاً يكلف يوم القيامة بأن يعقد بين شعيرتين، بين حبل الشعرة، ومن يستطيعه؟ لن يستطيع أحد ذلك، فالكذب في الرؤى أمر خطير، متوعد صاحبه، فليتق الله أولئك الذين يعمدون إلى إضحاك الناس باختلاق رؤى لم يروها.
ومن المزالق في هذا الباب أيضاً عرض الرؤى على غير أهل التقى والصلاح، بل على الدجالين والمشعوذين الذي يستعينون بالشياطين في التأويل، فقد ثبت أن هناك من يستعين بالجن في هذا الأمر فيخدع الناس، وكما أنك في الفتوى لا تعرض ما لديك من مسائل العلم والشرع إلا على من عُرف بعلمه وفضله وتقواه، فكذلك الرؤيا، ربما ضر عرضها على من لا يحسن تأويلها من المبطلين.
وتعبير الرؤيا فتوى تصدر عن علم وإلهام. يقول الله _جل وعلا_: " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية21). وقال: " أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ"(يوسف: من الآية43). فهي علم وإلهام وفتوى " وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية6). "وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية21). ولا يجوز لأحد أن يعبر إذا لم يكن من أهل ذلك العلم، كما قال الإمام مالك: أيلعب بالنبوة؟ وذلك لأن الرؤيا الصالحة جزء من النبوة ففي حديث أبي هريرة ورد أنها جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة وفي حديث عبادة أنها جزء من ست وأربعين جزءاً، فهي جزء من النبوة.
وأقول هذا لأنني رأيت البعض يتعجل، فيقول للرائي: أنا أعبر رؤياك، وهو ليس من أهل التعبير!
ومن الوقفات المهمة التي زلت فيها أقوام، هو أن الرؤيا ليست من مصادر التشريع أو التلقي فلا تستحدث بها بدع فقد كمل الدين، ولا تشرع بها أحكام " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ "(المائدة: من الآية3)، فبعد وفاة محمد _صلى الله عليه وسلم_ وانقطاع الوحي، وقد رأينا من الناس من يقول صلوا في هذه الليلة، واقرؤوا بسورة الأنعام، كما حدث قبل ضرب العراق، استجابة لمنامات وأحلام، وهذا باب خطير فالرؤى لا يؤخذ منها تشريع، والرؤيا إما بشارة أو نذارة، وقد ثبت عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "أنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة". رواه البخاري. وقد اجتمعت البشارة والنذارة في تعبير يوسف لصاحبي السجن. عبر للأول أنه سيطلق سراحه ويخرج ويخدم الملك هذه بشارة، وعبر للثاني نذارة، عندما قال: "فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ" (يوسف: من الآية41)، أنذره من أجل أن يستعد للموت، فلا يتعدى بالرؤيا، ثم إن البشارة أو النذارة نرجوها ولانقطع بها.
ومن الأخطاء في باب الرؤى الخلط في تهيؤ رؤية النبي _صلى الله عليه وسلم_. إن رؤيا النبي _صلى الله عليه وسلم_ حق، فالمرء قد يرى النبي _صلى الله عليه وسلم_ في المنام، وتلك بشارة له،وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي". رواه مسلم. ولكن حتى نعلم أنها رؤيا صحيحة لابد من توافر صفات النبي _صلى الله عليه وسلم_ الثابتة في المرئي، وإلا فليس هو رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وليس كل من ادعى أنه رأى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يكون مصيباً وإن كان صادقاً فقد يغرر به الشيطان فيتمثل بغير صورة النبي _صلى الله عليه وسلم_ لأنه لا يستطيع أن يتمثل بصورته _عليه الصلاة والسلام_ ثم يزعم أنه النبي، ومن لا يعرف صفات النبي _صلى الله عليه وسلم_ تنطلي عليه الحيلة، ولذلك إذا جاء شخص للمعبر، وقال رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في المنام، فليسأله عن صفات من رأى، فإن رآها صفات النبي _صلى الله عليه وسلم_، كما هي ثابتة عن النبي _صلى الله عليه وسلم_، وكما نقلها الصحابة، فهو رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، أما إن كان من رآه على غير صفته _صلى الله عليه وسلم_ فليس هو نبينا _صلى الله عليه وسلم_.
ثم هنا وقفات مع أخطاء يقع فيها بعض المعبرين:
الوقفة الأولى: كلمة لطلاب العلم أولاً، وأخص المعبرين منهم، لا تنشغلوا بتعبير الرؤيا إلا بمقدار، كما كان يفعل النبي _صلى الله عليه وسلم_، وهذه مسألة، الناس فيها بين إفراط وتفريط، فبعض الأشخاص يرفض أن يعبر الرؤى إطلاقاً، مع أن الله قد أعطاه ملكة التعبير، فأقول له: يا أخي الكريم، مادام أن الله أكرمك بملكة التعبير كما أكرم يوسف، وأكرم محمداً _صلى الله عليه وسلم_، وأكرم بعض المعبرين عبّر ولا تعتذر، وآخرون جعلوها هي حياتهم، عطلوا كثيراً من أمور الدعوة وانشغلوا بالتعبير، فهنا إفراط وتفريط والمنهج الحق، وما كان عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ هو الاعتدال في هذا الباب، أن تعبر الرؤيا باعتدال دون أن تكون هي شغلك، وأن تكون كل حياتك، ولكن بحسب المقدار، وحسب الظروف الخاصة بك، واحرص على أن تستخدم تلك الموهبة التي منحك الله إياها في الدعوة إلى الله كما فعل يوسف _عليه السلام_، ولكن على ألا تشغل المجالس بها، فقد وجدت بعض المجالس من أولها إلى آخرها لا هم لأصحابها إلاّ الرؤى!
ثانياً: .من هذه الوقفات، على المعبر ألا يعبر للمسلم ما يحزنه إلا إذا كان فيه مصلحة، على أن يوجهه التوجيه المناسب دون أن يخبره بالعاقبة المتوقعة، إلا إذا كانت هناك مصلحة راجحة.
فإذا قال قائل: يوسف عبر للرجل ما يحزنه، فذكر له أنه سوف يصلب وتأكل الطير من رأسه، قيل: كان ذلك للمصلحة فقد ذكر بعض أهل العلم أن ذلك كان لأجل أن يتوب الرجل إلى الله _جل وعلا_ وأن يحسن إسلامه؛ لأنه يرى الموت أمامه.
وكذلك فعل الشافعي _رحمه الله_ رأى رؤيا في الإمام أحمد، أرسل له من مصر إلى العراق، وقال له: إنك ستبتلى فهيئ نفسك.
وقد رأيت بعض الناس عبر لهم بعض المعبرين رؤى وأفادوهم بتوقع ابتلاء فهيأوا أنفسهم لذلك.
ثالثاً: وقفة مهمة، هناك من بعض الرؤى ما يكون فيها كشف للأسرار وللمستور، فالمعبر إذا عبرها قد يصل إلى بعض الأسرار الخاصة للرائي أو لأهل بيته، فلا يجوز له أن يحدث بها أحداً، بل يتق الله في ذلك، فهو مما اؤتمن عليه، إلا إذا ظهرت في إخباره بذلك مصلحة راجحة.
رابعاً: من هذه الوقفات، هناك تلازم بين الرؤيا وتعبيرها وصاحبها، فبعض الناس يعبر الرؤيا من خلال الورق، يذكر أن ابن سيرين _رحمه الله_ جاءه رجل فقال: رأيت أني أؤذن. قال: تحج، فجاءه بعد قليل رجل آخر وهو في مجلسه، قال: رأيت إني أؤذن. قال: تسرق فتقطع يدك. فقال له أصحابه: الرؤيا واحدة والتعبير مختلف، قال: رأيت أن الأول رجل صالح فذكرت قوله _تعالى_: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ "(الحج: من الآية27). والثاني رجل سوء، فذكرت قوله _تعالى_: " ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ"(يوسف: من الآية70)، فهناك تلازم بين الرائي وبين الرؤيا، وهاتان الأولى: بشارة، والثانية: نذارة، ولذلك عبرها ابن سيرين.
خامساً: من هذه الوقفات، ومن خلال ما ورد في القرآن والسنة، نجد توافقاً ظاهرا بين الرؤيا وتعبيرها بعيداً، وأقول: توافقاً لا تطابقاً، فأغلب الرؤى الصالحة تكون واضحة قصيرة جلية. لماذا أقول هذا؟ لأنني أرى بعض المعبرين يصل إلى قضية وكأنه يحلل ألغازاً بعيدة جداً، وانظروا في الرؤى التي في سورة يوسف، نجد تقارباً بين الرؤيا وبين تعبيرها. رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين، التعبير أحد عشر ابناً، والشمس والقمر أبوه وأمه، وهذا الذي حدث. وكذلك رؤيا صاحبي السجن، فيه توافق بين الرؤيا وتعبيرها، كذلك رؤيا الملك، سبع البقرات السمان وسبع البقرات الهزيلة، نرى فيه توافقاً بين السنوات السمان وبين اليسر، وهذا مما يلحظ في حديث عبد الله بن سلام _رضي الله تعالى عنه_، وغيرها من الرؤى التي وردت عن النبي _صلى الله عليه وسلم_، ورؤيا إبراهيم "إني أرى في المنام أني أذبحك"، أما أن تتحول الرؤى إلى ألغاز وأسرار، ففي النفس من ذلك شيء.
سادساً: التعبير باب من أبواب الفتنة، فليحذر المعبرون من ذلك، وإياكم أن تستغلوا تعبير الرؤى للوصول إلى أسرار الناس دون الحاجة إلى ذلك، فبعض المعبرين إذا جاءه من يقص عليه رؤيا بدأ يسأله أسئلة خاصة، والرائي يجيب على كل الأسئلة، يتصور أن لها علاقة بالرؤيا، والمعبر يعرف أن لا علاقة لها بالرؤيا، بل يريد أن يتوصل إلى أمور سولها له الشيطان، فلينتبه المعبرون لذلك وليتقوا الله _جل وعلا_.
سابعاً: من هذه الوقفات خطورة التعبير في الإذاعة والصحف والإنترنت وسائر وسائل الإعلام، لما في ذلك من مفاسد ظاهرة تجعل التعبير ظاهرة عامة، كما يحدث في بعض المجالس، والواجب أن يعتدل في هذا الجانب، وقد أصبح التعبير الآن باب دعاية لوسائل الإعلام، يحكى فيها ولا يعلم الصادق من الكاذب. وأنصح الناس ألا يلجؤوا إلى هؤلاء الذين يعبرون عبر الهاتف، وفي وسائل الإعلام ممن لا يعرفون بتقواهم ولا بورعهم ولا بعلمهم، بل يحذر من هؤلاء، فإن كثيراً منهم قد لا يكون على الحق.
ثامناً: وأخيراً أختم هذه الوقفات بما يتعلق بالرؤى في باب الفتن. الناس يتعلقون بالرؤى في أزمان الفتن، وقد تنزل في غير موضعها، فيجب أن نتعامل مع الرؤى وفق الكتاب والسنة، وأن نتعامل مع الرؤى بحذر، وألا نستعجل في تنزيل الرؤى على الواقع، أو أن نجزم بذلك، فهذا باب خطير، وكم جاءت من أحداث، وذكرت رؤى وعبرت على أنها في الحدث الفلاني، ثم يكون الأمر ليس كذلك.
ومن أخطر ما رأيت في هذا الباب، ما يتعلق بالمهدي. فالمهدي حق، وهو من علامات الساعة، وقد وردت فيه أحاديث صحيحة، ولكنه من أشراط الساعة الكبرى، ومنذ مئات السنين وهناك من يرى أن فلاناً هو المهدي، ثم يتضح أنه ليس هو المهدي، وحادثة الحرم التي وقعت عام أربعمائة وألف من أسبابها الرؤى التي رئيت، فكانت مزلة أقدام.
وختاماً الرؤى باب عظيم، قد تكون رحمة من الله _جل وعلا_ تسرّي عن المسلم، وتدله وتنبهه إلى بعض ما قد يقع فيه، وذلك إذا تعومل معها وفق المنهج الشرعي الصحيح، كما كان يفعل النبي _صلى الله عليه وسلم_، وكما كان يفعل الصحابة _رضوان الله تعالى عليهم_، فإن أخطئ في تعبيرها، أو في التعامل معها، كانت مزلة وفتنة وبلاء.. نسأل الله السلامة والعافية.