جزيرة العرب بين التشريف والتكليف4-6
27 رجب 1424

جزيرة العرب ودعوة إبراهيم وإسماعيل _عليهما السلام_:

ومن مميزات جزيرة العرب التي جعلتها ذات حضارة رائدة متميزة: قيام دعوة إبراهيم _عليه السلام_ بها:

هي الحنيفية عين الله تكلؤها** فكلما حاولوا تشويهها شاهوا


"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (1) "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (2) فاستجاب الله دعوته، وجعل في نسله من الأنبياء من يقوم بدعوة الحنيفية يحوطها ويرعاها ويتممها، فكان إسماعيل _عليه السلام_ أبا العرب ورسولهم والمجدد الأول لملة إبراهيم -عليه السلام- وعن بنيه انتشرت بقايا الحنيفية في سائر أرجاء الجزيرة العربية، وصارت الحنيفية الديانة الرسمية لشبه الجزيرة العربية.
ولقد ظل العرب رواد حضارة نبوية مجيدة ردحاً من الزمن، ثم لما تقادمت بهم السنون، اندرست معالم حضارة التوحيد شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء عمرو بن لحي الخزاعي، واستورد عبادة الأصنام عن دين العماليق بأرض الشام(3) ، قال _صلى الله عليه وسلم_: " رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار" (4) ، وأورد ابن إسحاق في (السيرة الكبرى) … أتم من هذا ولفظه: " سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، يقول لأكثم بْن الْجَوْن: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسَيَّبَ السَّائِبَة، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَة، وَوَصَلَ الْوَصِيلَة، وَحَمَى الْحَامِي" (5)، وقال و" قال هشام وحدثني أبي وغيره أن إسماعيل _عليه السلام_ لما سكن مكة وولد بها أولاده فكثروا حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضاً فتفسحوا في البلاد(6)والتماس المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلاّ احتمل معه حجراً من حجارةِ الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حباً للبيت وصبابة به، وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل _عليهما السلام_، ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح _عليه السلام_ منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وإهداء البدن مع إدخالهم فيه ما ليس منه"(7).
غير أنه بقيت فيهم قلة على الحنيفية مستقيمون، كأمثال زيد بن عمرو بن نفيل، قال ورقة بن نوفل -وهو كذلك من المتألهين قبل البعثة دارساً للكتاب- في رثائه:



رَشدت وأنعمت بن عمرو وإنما
تجنبت تنوراً من النار حامياً

بدَينِِك رباً ليس رب كمثله

وتركك أوثان الطواغي كما هيا

إلى قوله:



فأصبحت في دار كريم مُقامها
تُعَلَلُ فيها بالكرامةِ لاهياً

تُلاقي خليلَ الله فيها ولم تَكُنْ

من الناس جباراً إلى النار هادياً

وقد تُدرِك الإنسان رحمة ربه

و لو كان تحت الأرض سبعين وادياً

وقد كان زيد يلتمس الحنيفية ملة إبراهيم، فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المؤودة، وقال عبد رب إبراهيم ; وبادى قومه بعيب ما هم عليه"(8).
وقد ثبت في صحيح البخاري "أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلاّ من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبداً، وأنَّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله ، فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلاّ من لعنة الله ، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبداً، وأنَّى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا يعبد إلا الله ، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم _عليه السلام_، خرج فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم، وقال الليث: كتب إلي هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر _رضي الله عنهما_ قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري ، وكان يحيي المؤودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيكها مؤونتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها"(9) ومن المتألهين قبل البعثة أيضاً أمية بن أبي الصلت الثقفي، وهو القائل:


إنَّ آيــات ربنــــا ثــاقبــــاتٌ
لا يماري فيهنَّ إلاّ الكفورُ

كل دينٍ يوم القيامةِ عند اللـ

ـه إلاّ دين الحنيفة بورُ

وكان يرى ما آل إليه حال أهل الكتاب من الضلال، ومن ذلك قوله:


فــرأى الله حالــهم بمضْيَــعٍ
لابـذي مَزْرَعٍ ولا مَثْمُـورا

فسنــاها عليهمُ غاديــاتٍ

وترى مُزنهم خَلايا وخُورا

إلى آخر ما قال، غير أنه لم يسلم بعد البعثة النبوية حسداً من عند نفسه، وما مضى يدل على بقايا سمحة كانت عند العرب، صقلت أذهانهم وجلت أبصارهم ليروا زيغ النصارى واليهود وما آلو إليه،
والخلاصة أن دعوة إبراهيم وإسماعيل _عليهما السلام_ بالإضافة إلى الجانب الروحي الذي عمرته بالعبادات التي شرعتها والشعائر والمناسك التي تركتها وبقيت آثارها إلى حين البعثة النبوية الشريفة، فقد أرست دعائم حضارة فذة، في مجالات الحياة كلها، وقد كان لها أثر كبير على العرب وما تميزوا به من كريم خصال وحسن أخلاق، فلئن كان في العرب صدق ووفاء فإن أباهم كان صادقاً، "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً" (10)، ولئن كان في العرب صبر وجلد فإن أباهم قال عند الذبح: "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (11)، ولئن كانوا يجيدون القتال والرمي بالنبال فإن أباهم كان رامياً(12)، ولئن كانوا فرساناً فإن أباهم أول من ذللت له الخيل(13)، ولئن كان فيهم كرم فجدهم مالبث أن جاء بعجل حنيذ.
ثم لمّا ضاعت هويتهم الحنيفية السمحة ذهبت حضارتهم، وأمسوا في شر حال كل عام يرذلون، وبالمقابل فقد سطعت شمس القياصرة، وتأججت نار الأكاسرة.

جزيرة العرب قبل البعثة النبوية الشريفة


جزيرة العرب قبل البعثة النبوية الشريفة _على صاحبها أفضل الصلاة والسلام_




1 البقرة: 126.
2 إبراهيم: 37.
3 انظر فتح الباري لابن حجر كتاب المناقب حديث رقم 3520، 6/669، طبعة دار السلام 1421.
4 صحيح مسلم حديث رقم 2856.
5 فتح الباري لابن حجر كتاب المناقب حديث رقم 3520باختصار يسير.
6 في نهاية هذا المبحث خارطة تبين تواجد العرب في الجزيرة قبل البعثة ص14.
7 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/210، لابن القيم، بتحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي1357.
8 السيرة النبوية لابن هشام 1/253-254، الطبعة السابعة لدار الكتاب العربي 1420.
9 صحيح البخاري، كتاب المناقب، حديث رقم 3828.
10 مريم:54.
11 الصافات: 102.
12 في حديث البخاري وغيره: " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً" انظر الصحيح كتاب الجهاد باب التحريض على الرمي حديث رقم 2899.
13 انظر أخبار مكة 4/189، لمحمد بن إسحاق الفاكهي، الطبعة الأولى لمكتبة النهضة الحديثة 1407 بتحقيق عبدالملك بن دهيش.