جزيرة العرب بين التشريف والتكليف3-6
27 رجب 1424

تعلق العرب في شتى الأمصار بأرض الجزيرة:

لا يخفى على القارئ الكريم أن العرب الأصليين الذين تفرقوا في شتى الأمصار أصولهم من الجزيرة العربية وإن بَعُد العهد، هذا ما قرره من عنوا بالتقاسيم والأقاليم، وغيرهم من المحققين، قال القلقشندي: "اعلم أن مساكن العرب في ابتداء الأمر، كانت بجزيرة العرب"(1)، وهو قول المعاصرين من الباحثين في هذا الحقل، قال المقريزي: "ولاخلاف بيننا في أن هذه القبائل العربية التي ملأت الأقطار العربية على اتساع رقعتها، قد انبعث كلها بطبيعة الحال من مهدها الأول وهو شبه الجزيرة العربية"(2)، وقال: "وليس من شك في أن المستودع الأول في شبه الجزيرة العربية الذي أمد شطري الوادي بالعناصر العربية منذ عصور الجاهلية، هو نفسه الذي أمد بلاد المغرب كلها في أفريقية، وبلاد الشام والعراق في آسيا.." (3).
قال شيخ الإسلام :".. وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وإلى سواحل الشام وأرمينية وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم ثم انقسمت هذه البلاد قسمين منها ما غلب على أهله لسان العرب حتى لا تعرف عامتهم غيره ... ومنها ما العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم .. فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو عربي ابتداء وما هو عربي انتقالا وإلى ما هو عجمي وكذلك الأنساب ثلاثة أقسام قوم من نسل العرب وهم باقون على العربية لسانا ودارا أو لسانا لا دارا أو دارا لا لسانا وقوم من نسل العرب بل من نسل بني هاشم ثم صارت العربية لسانهم ودارهم أو أحدهما وقوم مجهولو الأصل لا يدرون أمن نسل العرب هم أو من نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم "(4).
والمقصود أن أصول العرب في مشارق الأرض ومغاربها ترجع إلى الجزيرة العربية في كثير من الأحيان، وهذا بدوره يجعل للجزيرة العربية في كثير من القلوب مكاناً وقد قيل:



نَقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلاّ للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبد اً لأول منزل




وقبيح بنا وإن قدم العهد ** هوان الأباء و الأجداد



جزيرة العرب وقبائلها  بعد البعثة


قبائل العرب وتواجدها في الجزيرة العربية في العصر النبوي



جزيرة العرب مهوى أفئدة المسلمين :

وعيرني الواشون أني أحبها**وتلك شكاة زائل عنك عارها


لمّا كانت الجزيرة مهبط الوحي وسابقة الأراضي للإسلام -فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه سائر الجزيرة العربية(5) لمّا كان الأمر كذلك عظمت مكانة الجزيرة في قلوب المسلمين جميعاً عرباً وعجماً، ولاغرابة فهي التي مدت البقاع والأصقاع بالإسلام، فلا عجب إذا قرأت في بعض التراجم، عن بعض أهل العلم من الأعاجم، أنه كان: "واسع الاطلاع بشئون العالم الإسلامي، شديد التعلق بجزيرة العرب والحجاز والحرمين الشريفين، عميق الحق، شديد التعظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأهل بيته- شديد الحب للعرب، يسوؤه ويؤلمه ذمهم وانتقاص حقهم وفضلهم، خبيراً بجغرافية الجزيرة العربية، ألف كتاباً باللغة العربية في هذا الموضوع في شبابه"(6).
وكيف لا يكون للمسلمين في المشارق والمغارب تعلق بها وهم يتوجهون تلقاءها في الخمسة الأوقات. وقد قال قائلهم إقبال:



نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا بمسامع الروح الأمين فكبرا


وهذا التَعَلُّق نلحظه في كثير من العجم وبخاصة في شبه القارة الهندية، فتراهم يكبرون ويجلون من عرفوا أنه من أرض العرب، وهذا كثير فيمن عنوا بالشرع والدين، ولاسيما من لم يعش منهم بأرض الجزيرة، وأما من عاش فيها فكثير منهم تغيرت نظرته إما لاختلاف واقع أحفاد أبي بكر وعمر وسائر الصحابة- عمّا في مخيلته، أو نتيجة معاملة وأخلاقٍ ليست بأخلاق أهل هذه البلاد،



1نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص51.
2 البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب ص74، للمقريزي.
3 السابق ص 95.
4 اقتضاء الصراط المستقيم 1/166-167 باختصار.
5 انظر التماس السعد في الوفاء بالوعد للسخاوي ص3، وكذلك أسد الغابة لابن الأثير ص602 ترجمة حبة بن بعكك.
6 نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ص1917، لعبد الحي اللكنوي، والكلام هنا عن ابنه عبدالعلي بن عبدالحي.