اسم الكتاب: معلم في تربية النفس. المؤلف: عبد اللطيف بن محمد الحسن. الطبعة: الأولى، 1421هـ. إصدار المنتدى الإسلامي – الرياض، ضمن سلسلة "كتاب المنتدى".
النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هدايات ربانية وتوجيهات تربوية ومعالم في طريق الإنسان إلى الفلاح والنجاح والرفعة والمكانة العالية في الدنيا والآخرة وما ذاك إلا لأنها من الله رب العالمين هو خلق الناس وهو مربيهم وهو سبحانه أعلم بما يصلحهم وينفعهم.
وفي هذا الكتاب الشيق نقف مع المؤلف ليتحفنا بمعلم من معالم تربية النفس ومع نص من النصوص التربوية، وقفة مع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم – إمام المربين وسيد الأولين والآخرين -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وهذا الكتاب كما قال المؤلف أشبه بدراسة موضوعية تربوية لموضوع "ما لا يعني" من حيث معناه وضابطه ومداخله وأمثلته وغير ذلك.
ذكر المؤلف بداية أهمية هذا الحديث وأنه مشتمل على معان عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها وامتثالها وهو من جوامع كمله صلى الله عليه وسلم وقد أفصح أهل العلم عن أهمية هذا الحديث ومنزلته نظرياً وعملياً فقد تعددت عبارات الأئمة في بيان منزلته من الدين وأنه من أصول الأحاديث كقول الشافعي:
وعمدة الخير عندنا كلمـات | أربع قالهـن خـير البرية | |
اتق الشبهات وازهد ودع ما | ليس يعنيك واعملن بنية |
وذكر ابن القيم – رحمه الله – أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث وقال ابن رجب – رحمه الله – عن الحديث "أصل عظيم من أصول الأدب" وأهل العلم جعلوا هذا الحديث أصلاً مرجعياً يعرف به ما يسوغ وما لا يسوغ من الأقوال والأعمال وعمموا مدلوله في سائر المجالات العلمية والعملية.
ثم تحدث المؤلف عن حسن الإسلام معناه وفضائله وبيّن أن المراد بحسن الإسلام في هذا الحديث هو كمال الالتزام بالإسلام والترقي في مراتب الدين حتى بلوغ مرتبة الإحسان وذكر المؤلف أن لمن حسن إسلامه فضل ومزية على غيره ومن ذلك:
- محبة الله عز وجل، قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: من الآية195).
- زيادة مضاعفة الحسنات كما ورد بذلك الحديث.
- تبديل السيئات حسنات كما في آية الفرقان.
- بشرى للمحسنين في قوله عز وجل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: من الآية26).
وفي معرفة الفضائل السابقة حافز للسعي نحو مرتبة الإحسان، والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين: فمنهم المحسن في إسلامه ومنهم المسيء، وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه،، وترك ما لا يعني صفة الجادين المحسنين كما قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون:3)، وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: من الآية72) فالمعرضون عن اللغو معرضون عن العبث واللهو والفضول والتكلف والتنطع وكلها يدخل في معانيها الانشغال بما لا يعني.
سأل المؤلف سؤالاً مهماً هو: أي شيء هو الذي لا يعنيك؟ فكان من إجابته أن بين أن قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "ما لا يعنيه" أي ما لا يهمه ولا يفيده في دينه ودنياه، والشيء الذي يعني المرء هو ما تتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه، والمرء ينبغي له أن يهتم أصلاً بما به نجاته وخلاصه وسعادته وهذا ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "احرص على ما ينفعك" وما لا يعني جزءان:
الجزء الأول: أمور لا تعني الإنسان ولا تهمه في أصلها كشؤون الآخرين وخصوصياتهم في كيفيات معايشهم ووجهات ذهابهم وإيابهم ونحوها وكذا الانشغال بالقصص والوقائع والمشاهدات التي لا تتعلق بقصد صحيح، ومن ذلك تصنيف الناس وتقسيمهم فرقاً وأحزاباً وطوائف وجماعات والاهتمام بالحكم عليهم حكماً واحداً لا يقبل التفصيل مع ما يصاحبه من غيبة وتنقص وتتبع للعورات واتهام للبنات وهذا خلاف منهج سلف الأمة. ومما لا ينبغي السؤال عنه من أحوال الناس عباداتهم التي يسرون بها بينهم وبين خالقهم لأنه يعرض المسؤول إما للرياء أو الكذب أو للاستحقار ونحوه وكذا السؤال عن معاصيهم وما يستحيون من ذكره، ومما لا يعني أيضاً السؤال عن أحوال الناس الحسنة التي لا يحبون إظهارها خشية الحسد مثلاً كنبوغ أولادهم وذكائهم.
الجزء الثاني: يقع في حاجات تهم الإنسان في أصلها كشؤون المعايش من الطعام والنكاح والكلام والخلطة والنظر ونحوها وما لا يعني فيها: هو الزيادة فيها على قدر الحاجة وهو ما يعرف بـ"فضول المباحات" ثم ذكر المؤلف أمثلة لهذا النوع يحسن الرجوع إليها وقد ساق المؤلف هنا كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين حين قال: "وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فهذا يعم الترك مما لا يعنى من: الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع".
أوضح المؤلف الضابط في معرفة ما يعني وما لا يعني وأنه الشرع المطهر وليس الهوى وطلب النفس، واليوم يفهم كثير من الناس أن المراد بما لا يعني شؤون الغير على الإطلاق، وهو خلط في المفاهيم فإن من شؤون الغير ما يعني الإنسان مباشرة ومن ذلك:
- ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
- شؤون المسلمين وقضاياهم في أي صقع كانوا فإن "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد فصّل المؤلف في هذين الجانبين فليراجع.
وهكذا نرى أن الانحراف في فهم الحديث والخلل في معرفة ضابط ما يعني وما لا يعني سبَّب إفراطاً وتفريطاً ومشكلات ومفاسد عظيمة، وحول تحديد ما يعني مما لا يعني بين المؤلف أنه يصعب القول بأن ما يعنى الإنسان هو الضروريات فقط، لأن الشريعة جاءت برعاية مصالح العباد كلها ومصالح العباد تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينات، فأما الضروريات فهي ما لا تقوم حياة الناس إلا به من إقامة الدين والنفس والنسل والمال والعقل والعرض وحفظها مما يفسدها، وأما الحاجيات فهي ما يحصل بها التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق، وأما التحسينات فراجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات فهذه كلها مما يعني الإنسان ويهمه، ولذا فيمكن القول في ضابط ذلك بأن الذي لا يعنيه: كل ما لا تعود عليه منفعة لدينه ولا لآخرته والذي يعنيه ما يخاف فيه فوات الأجرن والأخذ بالمباحات – دون مغالاة وهو مما يهم العبد في دينه ودنياه، والمؤمن يرى في المباحات ترويحاً عن نفسه وتنشيطاً لها على الخير.
ومن مسائل العلم ما لا يعني!! حول هذا الموضوع بين المؤلف أنه من المتقرر أن على كل عبد معرفة ما يعنيه، فعموم أفراد الأمة يعنيهم من العلم العيني ما يعرف به ربه عز وجل ويقيم به أركان دينه التي لا يعذر بالجهل بها، والأمة في مجموعها يعنيها من العلم الكفائي ما تقيم به شريعة الله وكل ما من شأنه عمارة الأرض، إذا تقرر ما يعني الناس من العلم عُرف أن هناك أموراً لا تعني ولا تفيد في دراستها في شيء ولا تعدو أن تكون ضرباً من إضاعة الوقت والاشتغال عن المهم فهي من العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وتتفاوت درجات ما لا يعني ما بين محرم ومكروه ومتفاوت بينهما، فمن المحرم: القول على الله بلا علم ويدخل فيه الكلام في ذات الله – سبحانه – وكيفيات صفاته ومنه الاشتغال بالفلسفة وكثير من مسائل علم الكلام المحرم.
وذكر المؤلف مما لا ينبغي الاشتغال به من أمور العلم:
- الاشتغال ببحث ما أخفي علينا من أمور الآخرة كموعد قيام الساعة أو صفة الميزان.
- بعض ما أخفي علينا علمه – لعدم فائدته – كأسماء وأعداد وأوصاف أشياء ذكرت في القرآن كعدد أصحاب الكهف.
- تتبع الأغلوطات والغرائب والخوض في المتشابهات والمشكلات.
- الخوض في الفتن ونصب النفس حكماً بين المختلفين.
- المسائل الفرضية التي يستحيل أو يندر حدوثها في العادة.
ثم تحدث المؤلف عن حفظ الأبواب الأربعة وفصل عن كل واحد منها وساق كلام ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي "من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات، فينبغي أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة يلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علا تتبيراً..." وقد تحدث حول كل واحدٍ منها بكلام لطيف عن النظر وعن الخواطر والأفكار وعن اللسان وعن الحركات والخطوات فكان مما وضحه حول النظر أنه لا غنى للإنسان عن نظر يبصر به طريقه ويعرف به مكانه، لكن المتأمل في واقعنا يرى مدى التجاوز بهذه النعمة العظيمة إلا ما لا يعني، ومن النظر الذي لا يعني النظر للقراءة في غث الكتب والمجلات كالقصص الخيالية والبوليسية، وكالزوايا الفارغة من المحتوى المفيد كأخبار الرياضة والفن وأخبار الكلاب ونحوها، وإذا كان كذلك فإن النظر إلى المحرمات هو مما لا يعني من باب أولى، وخاصة النظر إلى العورات ومحارم الناس فإن ذلك أشد قبحاً عند من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولمتابعة حديث المؤلف عن باقي الأبواب فعليك الرجوع للكتاب.
الانشغال بما لا يعني ماذا يعني؟ إنه يدل في الدرجة الأولى على التفرغ من الانشغال بما يعني ويفيد، فهذا إنسان فارغ بطل لا في أمر دينه ولا في أمر دنياه، وهو يدل على جهل الإنسان بمصالحه وجهله بحقيقة نفسه وحقيقة الخلق والكون والحياة ولو تساءلنا لماذا الانشغال بما لا يعني؟ إنما هو لأسباب منها:
- جهل الإنسان بما يعنيه وغفلته عن هويته ورسالته في الحياة.
- صحبة البطالين وهم من ليسوا في شغل نافع من أمر دينهم أو دنياهم.
- المناهج التربوية والمنابر الإعلامية والثقافية التي حملت لواء الإشغال بما لا يعني.
- ورسالة هذه المناهج والمنابر فارغة المحتوى عقيمة الجدوى، وحين نعلم أنها هي المؤثر الأقوى في عقول الناشئة وسائر الناس ندرك حجم القضية وعمق المشكلة.
- الانشغال بما يظن أنه يعني وليس كذلك نحو الانشغال بالكلام الذي لا ينفع وكثرة الشكوى من الواقع وغيرها.
- تزجية الأوقات وقضاء الفراغ الناتج عن ضعف فهم حقيقة العبودية وغاية الخلق، قال الغزالي: "رأس مال العبد: أوقاته ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه، ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة فقد ضيع رأس ماله".
وقد بيّن المؤلف أن للمسلم شغلاً شاغلاً عما لا يعنيه وهو القيام بما كلف به وعساه أن يقوم به "إن لقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق".
عبارات رائعة وكلمات قيمة نقلها المؤلف في كتابه منها قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص من حسن إسلامه، فكان هذا عليه إذ ليس من شرط ما هو عليه أن يكون مستحقاً لعذاب جهنم وغضب الله، بل نقص قدره ودرجته عليه ولهذا قال تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: من الآية286)، فما يعمل أحد إلا عليه أو له فإن كان مما أمر به كن له وإلا كان عليه ولو أنه ينقص قدره" وقال الحسن البصري: "من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد: أن يجعل شغله فيما لا يعنيه" وسئل مظفر: ما خير أعطي العبد؟ قال: "فراغ القلب عما لا يعنيه ليتفرغ إلى ما لا يعنيه" وقال ذو النون: "من تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه وقال أبو عبيدة: "من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم" وقال سهل التستري: "من اشتغل بما لا يعنيه نال العدو منه حاجته في يقظته ومنامه".
وفي ختام هذا الكتاب الجميل ذكر المؤلف أن ترك ما لا يعني والاشتغال بما يعني ليس بالأمر اليسير وذكر ما يعين على ذلك:
1- الاستعانة بالله تعالى ودعاؤه والتضرع إليه ولا بد من ذلك للسالكين وقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) يتلى في كل ركعة وها هو نبي الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز".
2- استفراغ الوسع في معرفة ما يعني المرء – دون ما يعني غيره – والاجتهاد في أدائه قال شميط العنسي: "من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك ما لا يعنيه".
3- دوام مجاهدة النفس فإن الذي يجاهد نفسه مثاب على مجاهدته وسيبلغ مقصوده بإذن الله.
4- محاسبة النفس على الدوام وتذكر الأعمال والنظر في مقدار ما يعنيه مما لا يعنيه من أعماله التي قام بها.
5- التربية الجادة لعموم الأمة رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، خاصة وعامة.
6- مصاحبة الأخيار الجادين المشتغلين بما يعنيهم، فإنه على قدر ضرر صحبة البطالين تكون ضرورة صحبة الجادين.
7- التناصح بين الإخوان بتنبيه بعضهم بعضاً عند تدخل أحدهم فيما لا يعنيه.
8- استحضار عظمة الله – عز وجل – ودوام مراقبته وتدبر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، والخوف من غضبه والحياء منه عز وجل أن يطلع على قلب عبده أو عمله فيجده مشغولاً بغير ما خلقه له مهتماً بغير ما أراده منه.
9- الإقبال على كتاب الله الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً وعملاً وتحاكماً فذلك شغل شاغل للعبد وكفى بالقرآن شغلاً.
10- استلهام القدوة والأسوة من سيرة خير الورى محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام – رضي الله عنهم – وأتباعهم والتابعين لهم بإحسان في هذا الأمر.
11- العناية بالمتربين والناشئة في مقتبل أعمارهم وأساس نشأتهم بتوجيههم علماً وعملاً إلى ما يهمهم.
12- تذكر الموت والحساب والجزاء واستشعار العبد أنه في مرحلة سيجزي بعدها بما عمل فيها.
من راقب الموت لم تكثر أمانيه | ولم يكن طالباً ما ليس يعنيه |
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.