التفاعل التربوي 1 / 2

مدخل :
المقصود بالتفاعل التربوي هو حدوث اقتناع وتجاوب نفسي بين طرفي العملية التربوية ( المربي والمتربي ) يؤدي لاستجابة الطرف الثاني المعرفية والسلوكية للطرف الأول وللتأثر به .
ويمثل التفاعل التربوي عنصراً مهماً في العملية التربوية ، حيث يعكس العمق والحيوية التي تكتسبها المعلومات والخبرات المنقولة للمتعلم ، ويعكس المدى البعيد لأثر المتربي استيعاباً وتطبيقاً ، هذا إضافة إلى الإسراع في العملية التربوية .
والمربون من آباء ومعلمين ودعاة وغيرهم يعانون – في كثير من الأحيان – من عدم القدرة على التأثير في أولادهم أو طلابهم أو مدعويهم ومن عدم استجابتهم ، بل إنهم – أحياناً – يعاندون ويعرضون ويحولون بين المربي والتأثير فيهم . ومن أهم الركائز لمعالجة هذه الشكوى اختبار المربي لدى حرصه على التفاعل مع المتربي ، واهتمامه لإقامة علاقة جيدة معه ، وهذه أول خطوة جوهرية في طريق التأثير .

قواعد التفاعل :
أصَّل المنهج التربوي الإسلامي المبني على الفقه الشامل لطبيعة النفس البشرية هذه القواعد مبكراً ، وأثراها وخصوصاً في الجانب التطبيقي . ونشير هنا إلى بعض هذه القواعد :

قاعدة التبادل في العلاقات :
إن حسن التجاوب ، وحرارة الاتصال بين طرفين والتفاعل بينهما يعتمد اعتماداً كبيراً على مفهوم "التبادل في العلاقات" ، فعلى قدر ما يبذل كل طرف من جهده وماله ومشاعره نحو الطرف الآخر ، تقوم العلاقة وتتصاعد إلى أعلى .
وعلاقة المربين بالمتربين قائمة على ذلك ، فمثلاً : في علاقة الآباء بالأبناء ، بقدر ما يقدم الآباء للأبناء من عناية ورعاية ونفقة ويبذلون من رحمة وشفقة ، وبقدر ما يحيطون به أبناءهم من نصرة ومعونة وحماية ، بقدر ما يعيد هؤلاء الأبناء هذا العطاء والبذل براً وطاعة ومعروفاً وخفضاً للجناح ، والعكس بالعكس : فالشدة والقسوة والجفاء ، وعدم النفقة أو تقتيرها أو المن بها ، وعدم العناية بالتربية والتعليم ، والسخرية والاستهزاء ، والإهمال والنبذ والطرد ، والغفلة والبعد، كل ذلك يؤدي إلى الجفاء والشدة وعدم الاهتمام ، ويورث النبذ والبعد والقسوة على الآباء من قبل الأبناء .
والمربي أو الداعية إذا كان بارد الأحاسيس، جاف المشاعر، رسمي المعاملة، ساخر اللسان، الغافل أو المتغافل ، البعيد أو المتباعد ، قد يقابل من المتربين في معاملتهم ومسالكهم ومشاعرهم بالرفض والكره والاشمئزاز .
ومما يدل على هذه القاعدة ، قوله تعالى : (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) [ الرحمن: 60 ] ، وقوله تعالى : (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) [ الإنسان : 22 ] ، وقوله تعالى : (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [ النساء : 86 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سأل بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ) [ سنن أبو داود : 1672 ] .

قاعدة الحقوق والواجبات :
هذه القاعدة تحكم العلاقات بين الناس ، فالحقوق لفرد معين في مجال معين هي واجبات الشريك الآخر "المقابل" ، والعكس كذلك ، فحقوق المتربي هي واجبات المربي ، وحقوق المربي هي واجبات المتربي .
والرضا بين الطرفين المعنيين أمر ضروري لحدوث التداخل والتفاعل بينهما على وجه مقبول ، ورضا أحد الطرفين وإقباله يعتمد على رضا الطرف الآخر وإقباله ، وذلك وفق قيام كل منهما بواجباته تجاه الآخر .
وإذا مارس الفرد سلوكه بالطريقة التي تتفق مع ما يتوقعه الآخرون منه ( أي بقيامه بواجباته تجاههم ) فإن الآخرين يحمدون له ذلك ويقومون بأداء ما يستحقه أو ما يتوقعه هو منهم.
والعكس بالعكس ، فهو عندما يسلك بخلاف ما يتوقعه الآخرون منه ، يقطع على الآخرين الطريق لتحقيق المتوقع منهم ، فيغضبون منه ويحجبون الثقة عنه .
وقيام المربي بواجباته تجاه المتربين من تعليمهم وتربيتهم ، وتفقد أحوالهم ، وتشجيعهم بالسبل المختلفة ، ومعالجة الحالات الخاصة فردياً ، ومخاطبتهم على قدر عقولهم مع تقديرهم ، كل ذلك يؤثر على مسالك المتربين تجاه المربي محبةً أو كرهاً ، طاعةً أو عناداً ، احتراماً أو احتقاراً ، صلةً أو قطيعةً .
ومن الأدلة على هذه القاعدة القصة التالية : " جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنَّبه على عقوقه لأبيه ونسيانه لحقوقه ، فقال الولد : يا أمير المؤمنين : أليس للولد حقوق على أبيه ؟ قال : بلى . قال : فما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : أن ينتقي أمه ، ويحسن اسمه ، ويعلمه الكتاب (أي: القرآن) . قال الولد : يا أمير المؤمنين ، إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك ، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي ، وقد سماني جَعَلاً (أي: خنفساء) ، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً . فالتفت عمر إلى الرجل وقال له : جئت تشكو عقوق ابنك ، وقد عققته قبل أن يعقَّك ، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك " .

قاعدة رأي المربي في المتربي له أثر على شخصيته :
وهذه القاعدة تقول " إن فكرة الفرد عن نفسه هي انعكاس مباشر لفكرة الآخرين عنه ، وأن الفرد يبني كثيراً من علاقاته على أساس من الرأي السائد فيه " .
فالمتربي يتأثر بأقوال وآراء المربي عنه ، ويبني الآراء عن نفسه وفقاً لما يقوله الآخرون عنه ، فإذا كان المتربي محلاً لثقة المربي ، ومعروفاً أو مذكوراً عنده بالقدرة والنشاط والمبادرة ، وموكولاً إليه من المهمات والأعمال ما يتطابق مع الرأي فيه ، وإذا كان يلقى من التشجيع والتأييد ومن التوجيه والتكليف ما يمثل اتجاها ورأياً يتناسب مع قدراته وإمكاناته ، فإنه يسعى لتأصيل ذلك في ذاته ، وجعله صفة من صفاته وسمة من سمات شخصيته ما أمكن . وكذلك الصفات السلبية تتأصل من خلال مسالك وآراء المربي فيه .
وهكذا فالمتربي يقدم أو يحجم ، وينشط أو يجبن ، ويجتهد أو يكسل ، ويجرؤ أو يسكت ، وفق ما يعلمه من رأي المربي فيه ، ووفق ما يقوم به من معاملة مبنية على ذلك .
ومن الأمثلة على هذه القاعدة : أن المربي إذا كلف المتربي بمراقبة بعض الأعمال ، أو إدارة عمل تربوي ، أو قيادة مجموعة معينة ، أو متابعة قضية معينة ، فإنه يُكوِّن فكرة عملية عن ذاته ، وعن قدراته الإدارية والعلمية .
ومن الأمثلة عليها في الجوانب العبادية ، استثارة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لقيام الليل بناءً على رأيه فيه ، فعنه قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها أناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار ، قال : فلقينا ملك آخر ، فقال لي : لم تُرَعْ. ومعنى "لم تُرَعْ": لا خوف عليك بعد هذا ولا ضرر.
فقصصتها على حفصة، فقصّتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل" ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً . [صحيح البخاري: 1122].