عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»رواه مسلم(1).
حكم الاختلاف في تسوية الصف
اتفق الفقهاء على أن الاختلاف وعدم تسوية الصف منهي عنها، وأن تسوية الصف مشروع ومأمور به وذلك للأحاديث الواردة المتواترة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وفعل الخلفاء الراشدين، وذلك لتعلق تسوية الصف بركن عظيم ألا وهو الصلاة، وقد نقل ابن عبدالبر إجماع العلماء على مشروعية ذلك(2).
واختلفوا في حكم المخالف عند الصف للصلاة هل هو محرم أو مكروه على قولين:
القول الأول:
أن الاختلاف في تسوية الصف محرم؛ فتسويته واجبة وبه قال البخاري(3)، وابن حزم(4)، وابن تيمية(5)، وابن حجر(6)، والشوكاني(7).
القول الثاني:
أن تسوية الصف مستحبة وليست واجبة وإليه ذهب جمهور العلماء من الحنفية(8)، والمالكية(9)، والشافعية(10)، والحنابلة(11).
أدلة الأقوال ومناقشتها.
أدلة القول الأول:
1- حديث أبي مسعود البدري المتقدم في المطلب الأول.
2- عن النعمان بن بشير –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتُسَوُّن وجوهكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم»(12).
ووجه الدلالة من الحديثين هو:
أ- أن اللام في قوله(لتُسَوُّن..) واقعة في جواب قسم مقدر والتقدير: والله لتُسَوُّن، فالجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات هي القسم، واللام، والنون(13).
ب- مجيء الوعيد فيمن خالف الأمر.
3- عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة»(14).
4- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: «تراصوا واعتدلوا»(15).
5- وعن أنس -رضي الله عنه- أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا صفوفكم، وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري»(16).
ووجه الدلالة من الأحاديث:
أن الألفاظ الواردة في الأحاديث وردت بصيغة الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، ما لم يوجد صارف، ومخالفة الواجب حرام.
6- عن أبي عثمان قال:ما رأيت أحدا كان أشد تعاهدا للصف من عمر أن كان يستقبل القبلة حتى إذا قلنا قد كبر التفت فنظر إلى المناكب والأقدام وإن كان يبعث رجالا يطردون الناس حتى يلحقوهم بالصفوف. (17)
7- عن أبي عثمان قال:كنت فيمن يقيم عمر بن الخطاب قدامه لإقامة الصف(18).
8- عن أبي الأحوص قال: قال عبدالله- يعني ابن مسعود-: سووا صفوفكم(19).
9- عن سويد عن بلال قال: كان يسوي مناكبنا وأقدامنا في الصلاة(20).
ويمكن مناقشة هذه الآثار:
بأن دلالتها على تحريم عدم تسوية الصف ليست ظاهرة.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بكراهة عدم تسوية الصف بما يلي:
1- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (..وأقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة) (21).
وجه الدلالة:
أن حسن الشيء زيادة على تمامه، فالصلاة تامة وتسوية الصف زيادة حسن وجمال(22).
ونوقش:
بأن رواية (فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) ترد المعنى السابق فمن لم يقم الصف؛ فصلاته ناقصة.
وأجيب عنه:
بأنه قد يؤخذ من قوله (من تمام الصلاة) أنه مستحب؛ لأن تمام الشيء أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلا بها فهو لم يذكر أنه ركن أو واجب(23).
2- عن أنس -رضي الله عنه- قال (ما أنكرت شيئاً، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف) (24).
ووجه الدلالة:
أنه لم يأمرهم بالإعادة ولو واجباً لأمرهم بها.
ونوقش:
بأن تسوية الصف واجب للصلاة، خارج عن هيئتها، لا تبطل الصلاة بتركه(25).
الراجح:
مما تقدم يترجح القول الأول بأن عدم تسوية الصف محرم وإن كان لا يؤثر على بطلان الصلاة؛ فبالتالي تسوية الصف واجب لما يلي:
1- لقوة الأدلة، ولصحة الاستدلال بها
2- لعدم وجود الصارف الذي يصار إليه عند نقل الحكم من التحريم إلى الكراهة وهو ترجيح اللجنة الدائمة(26)، وابن عثيمين(27).
دلالة النهي عن الاختلاف في تسوية الصف
تقدم عرض الخلاف وأن الراجح في دلالة النهي أنه للتحريم لحديث أبي مسعود وأنه لا صارف يصح عند الجمهور.
_____________________________
(1) رواه مسلم. الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول(122) (432).
(2) الاستذكار(2/288).
(3) صحيح البخاري(1/245).
(4) المحلى (2/52).
(5) الفتاوى(4/416).
(6) فتحالباري(2 / 206).
(7) نيل الأوطار(3/330).
(8) تبيين الحقائق(1/136)، درر الحكام(1/396).
(9) الفواكه الدواني(1/211).
(10) المجموع(4/197)، الحاوي(1/53).
(11) المغني(1/638)، الإنصاف(2/93).
(12) رواه أحمد(30/378)، وأبو داود في الصلاة باب تسوية الصفوف(662)، وابن خزيمة(160)، وابن حبان (2176)، والبيهقي(362) وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند، والألباني في صحيح أبي داود.
(13) الشرح الممتع (3/10).
(14) البخاري في الأذان باب إقامة الصف من تمام الصلاة(723).
(15) أخرجه أحمد(19/278) وصححه الأرنؤوط.
(16) البخاري في الأذان باب إقامة الإمام على الناس عند تسوية الصفوف(719).
(17) رواه ابن أبي شيبة في المصنف(3537) وحسنه زكريا الباكستاني(1/326)
(18) ابن أبي شيبة(3530) وصححه زكريا الباكستاني(1/361).
(19) رواه ابن أبي شيبة في المصنف(3535) وصححه زكريا الباكستاني(1/362).
(20) رواه ابن أبي شيبة في المصنف(3534) وصححه زكريا الباكستاني(1/361).
(21) البخاري في الأذان باب إقامة الصف من تمام الصلاة(722)، ومسلم في الصلاة باب تسوية الصفوف (126) (435).
(22) أحكام الصف في الصلاة ص(55).
(23) طرح التثريب(2/289).
(24) البخاري في الأذان باب إثم من لم يتم الصفوف(724).
(25) فتح الباري(2 /206).
(26) فتاوى اللجنة(4172).
(27) فتح الباري(3/10).