الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله.. و بعد
فهذه وريقات يخطها لكم طالب متخرج بمرتبة الشرف من إحدى أعرق كليات الحقوق بالمملكة، وينعم ـ ولله المنة والحمد - بعلاقات طيبة وواسعة مع أساتذته وزملائه.
ورقاتي هذه –و التي حاولت جاهدا اختصارها لك- هي وجهة نظر حفزني لها ملاحظات ثلاث وجدتها في كليتنا الحبيبة أسوقها لك تباعا ثم أذكر لك بعد ُفي الخاتمة مرادي وأملي ووجهة نظري حول الموضوع مع نقاط أخر.
هذا وقد أتبعت كل ملاحظة بنقاط وأتبعت النقاط شواهدا سجلت أكثرها من قلب الحدث -و على مدار أربع سنوات- وبعضها أسعفتني بها الذاكرة وبعضها حدثني بها ثقات الصحب، ولا تعني تلك الشواهد الحصر ولا التعميم بل ليس إلا التوضيح والتقوية.
علما بأنها تتفاوت في مقدار وجودها فبالتالي يختلف تعبيري عنها فتجدني أقول "الغالب، الأكثر، كثير، بعض، نادر.."، وربما يجد القارئ الكريم تعارضًا بين بعضها، وما ذاك إلا لوقوع التعارض في الواقع بين رؤى الأساتذة ومناهجهم.
ثم إني ـ وبعد أن كتبتها ـ عرضتها على نفر من زملاء الكلية وبعض الأساتذة يزيدون على العشرة من مختلف الدفعات والمستويات الدراسية بل والتوجهات الفكرية فكان رد الغالبية بالموافقة على واقعية كل ما جاء فيها، وأما بقيتهم فكانت الموافقة في الأكثر دون الأقل.
ولهم بعد الله أوجه شكري وثنائي سائلا الله لي ولهم خيري الدنيا والآخرة.
أمَا وقد حان وقت الشروع فلنبدأ الملاحظات بأهمها وأطولها وأكثرها شواهد فأقول:
الملاحظة الأولى:
من المهم معرفة أن الشريعة الإسلامية تبحث وتعالج العديد من العلائق (كعلاقة العبد مع ربه وعلاقته مع نفسه وعلاقته مع الناس وغيرهم)، وأن القانون من حيث هو علم- يبحث فقط في العلاقات والروابط المادية الناشئة بين الأفراد في المجتمع.
إذاً ثمة منطقة ينظمها ويبحثها علمان مستقلان ومختلفان عن بعضهما في الموضوع والمصدر والنشأة والتاريخ والأهداف والوسائل وغيرها.
نخلص من هذا أنه يجب على المسلم عند البحث في هذه المنطقة (و هي العلاقات المادية بين الأفراد) والتي يتقاطع فيها هذان العلمان أن يعرف أقوال الله وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع في مخالفة أقوالهما دون أن يشعر وفي هذا يقول عمر الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (لا يبع في سوقنا إلا من تفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى). رواه الترمذي 1/ 151 وحسنّه
وهذا عين الذي نفتقده في كليتنا الحبيبة فإن من لديه معرفة يسيرة بعلوم الشريعة يرى نقصا كبيرا عند معظم الأساتذة في أساسيات الشريعة وأبجدياتها سواءً كان ذلك في العقيدة أو الفقه أو أصوله أو التفسير أو الحديث بل حتى في أساسيات اللغة العربية التي تعد المفتاح الأساسي لمعرفة الشريعة الإسلامية!
- نقل لي أستاذ في الكلية عن آخر أنه كان لا يتكلم بالعربية مطلقا عند أول مقدمه للمملكة.
- وأذكر أستاذا كان يخلط كلامه لنا في القاعة بجمل فرنسية لعجزه عن أدائها بالعربية.
هذا في اللغة فكيف بما لا يتأتَى إلا بها من معرفة أحكام الشرع!
نتج عن هذا الضعف ـ الذي ستلمسه أكثر من خلال ما سأسوقه لك ـ نتائج أهمها أربع:
أولا: خلل بيّن في الاستدلال والاستنباط واختلال كبير في التصورات وكثير من المجازفات والتساهلات في إطلاق الأحكام الشرعية في القضايا الكبرى بل والقطع بأن الأمر لا يحتمل غير ذلك وتسفيه الاجتهاد الآخر الذي كثيرا ما يكون أكابر علماء الإسلام أو بعضهم عليه.. وهذه بعض الشواهد:
- أذكر أستاذا قال: من المعلوم أن الإسلام يحرم قتل الأسير مطلقا!
يقول هذا ثم لا يذكر حتى ولو خلافا أو قيدا في المسألة، فلقد عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر أن مال إلى رأي أبي بكر بأخذ الفداء وترك رأي عمر في قتلهم جميعا
ـ وآخر يقول وبدون قيد "لا فرق بين الرجل والمرأة"
ـ أحدهم يقول: الضرورة الأولى من الضرورات الخمس هي حفظ الدين والمراد بهذه الضرورة حرية التدين!
أوضح هنا أن هذه الحرية تُعرض لنا بشكل مطلق دون إشارة لما اتفق عليه علماء أهل القبلة من منع الداخل في الإسلام الخروجَ منه بل وإقامة حد الردة عليه.
- أحد الزملاء ينقل لي عن أستاذ قوله: إذا اشترط البائع البراءةَ من كل عيب في المبيع لزم البيعُ وسقط الخَيار.
يذكر هذا بالإطلاق دون ذكرٍ لتفاصيل المسألة.
ـ صاحب لي قال: سمعت أستاذا يقول: لا بد أن يجري التقادم على القصاص (أي سقوطه) بعد مرور عشرين سنة على الجريمة فالقاتل –في زعمه- أصبح عضوا فعالا في المجتمع!
ـ صاحب لي آخر ينقل عن أستاذ قوله: أنا أكتب عقودا ربوية وليس لي علاقة بهم ولا برباهم!
يقول هذا رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن صراحة الكاتب بينهما.
ـ يقول أحد الأساتذة: الليبرالية منفصلة تماما عن العلمانية فالليبرالية هي التعددية، فهي لا تخالف الإسلام بل الإسلام هو "أبو التعددية" أما العلمانية فهي فصل الدين عن الحياة وهي المخالفة للإسلام!
ـ وقال في محاضرة أخرى: لا يمكن للإسلام أن يبيح محاربة الناس ابتداء بل للدفاع وحسب!
ـ سمعت من أحدهم شارحا لقول رسول الله "إن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" قال: أي عون أخيه الإنسان!
ولست أنكر معونة المسلم للكافر تألفا إلا أنَ إطلاق الإخوة لغير المسلم محل نظر فالله يقول معاتبا لنوح عليه السلام في ابنه "إنه ليس من أهلك".
ـ أستاذ يفسر قول الله "و إذا لقيتموهم فاصبروا": أي اصبروا عن قتالهم!!
ـ كثيرا ما نرى الأساتذة يستدلون بأقضية المحاكم الغربية وبعض المحاكم العربية وكذلك بأقوال علماء القانون والفرنسيين منهم بالذات، وإنه ليمضي على أحدنا الشهر تلو الشهر تلو الشهر ولا يسمع في المحاضرات "قال الله، قال الرسول، قال الإمام الفلاني.." رغم أن المسألة التي نبحثها قد قُتلت بحثا في الفقه الإسلامي.
ـ المجتمع في الصدر الأول –عند كثير منهم- بدائي واعتباره نموذجا من الرجعيةٌ، ونحن الآن في قمة التقدم والتطور.
تجد هذه التفرقة -غالبا- بشكل مطلق دون تميز لجانب دون آخر، وهذا في نظري من الفوارق المهمة بين الشرعي الذي يجعل القرن الأول خير القرون وبين القانوني الذي لا يضع ذلك القرن في المكان الذي ينبغي له.
ـ انعدام معرفة كثير من الأساتذة بأصول الفقه وهو العلم الذي يُعنى بضبط الاستنباط والاستدلال، فقد تجد كبار أساتذتنا لم يطلع على كتاب واحد في أصول الفقه ـ-كما تأكدت من أحدهم-ـ رغم أهمية هذا العلم لكل من أراد أن يتحدث في الحلال والحرام من المعاملات أو غيرها.
ـ في مذكرة أحدهم "من المصادر الثانوية: الإجماع والاجتهاد والقياس ونهج الصحابة"
فمن لديه أدنى علم بأصول الفقه يعلم خطأ هذه العبارة من عدة أوجه أهمها: ذكر الاجتهاد من المصادر وقسيما للقياس، وحصرها في هذه الأربع وغير ذلك.
ويبدو لي أن مصطلح الاجتهاد أوسع بكثير عند كثير من الأساتذة مما هو عليه الأمر عند علماء الشريعة. فالأخير يسير على ضوابط محددة من قبل الشرع واللغة والأول ليس هذا شأنه فاعتبار أي رأي وبأي مرجح هو اجتهاد لا ينقض بغيره!
مع كل ما سبق لن تجد من الأساتذة الكرام أحدا يتحدث عن أهمية الرجوع إلى أهل العلم لأجل معرفة الأحكام الشرعية إلا نزرا يسير منهم في بعض المسائل، بل ولربما تجد خلاف ذلك من السخرية والاشمئزاز مما لا أجد مناسبة لذكره هنا.
أما القضاة الشرعيون في المملكة فلا أكاد أحصي كثرة من يتنقَصهم ويصفهم بالجهل والتزمّت والفشل وغيرها، ولم أسمع من يشيد بهم خلال دراستي إلا أستاذا واحدا في إحدى محاضراته.
ثانيا: من آثار ضعف العلم الشرعي: معرفة الحلال والحرام (والذي توليه الشريعة اهتماما بالغا) هو أمر لا يحرص عليه أكثر من رأيت من القانونين عموما، وهذا في ظني يفسر الجدل الكبير القائم بين الفريقين.
فقد تسمع أستاذا يفيض في ذكر مسألةٍ في تحريرِها وشروطِها وآثارِها دون تطرق إلى حكمها الشرعي الذي كثيرا ما يكون مناقضا للشريعة الإسلامية!
ثالثا: قلة الاهتمام بالعقيدة رغم أهميتها في كل العلوم-(بل وفي كل المجالات) ولا سيما في بعض فروع القانون كالقانون الدستوري والدولي.
فالتوحيد من خلال ما أسمع من أكثر الأساتذة ليس هو أعظم ما أتت به الشريعة الإسلامية، والشرك ليس هو أعظم ما نهت عنه.
ـ أحد الأساتذة يقول –في معرض حديثه عن الجهاد-: أعظم شيء حرمه الإسلام هو قتل النفس!
لا أنكر عِظم هذا الذنب إلا أنه ليس بهذا الإطلاق، وليس في هذا السياق، وليس هو أعظم ما حرم الإسلام.
- كثيرا ما أسمع قولهم الشريعة الإسلامية جاءت لأجل الحرية أو العدالة أو المساواة أو التسامح.
رابعا: فصل أغلب من رأيت من أساتذتنا بين الشريعة والفقه فصلا كليا ويقولون: نحن لا نخالف الشريعة أما الفقه فهو ليس إلا آراء بشر تُؤخذ وتُرد!
بل إن القانونيين لا يرون أنفسهم إلا نظراء للفقهاء فقهاءِ الشريعة فالصورة في كثير من محاضراتنا ليست "قال فقهاء القانون كذا ونحن نقول كذا" بل "قال فقهاء الشريعة كذا ونحن نقول كذا وكذا"
بل إني أعتقد أن كلمة "فقهاء الشرعية" حينما يأتي بها كثير من مؤلفي مناهجنا في معرض حديثهم عن الحكم الشرعي لأي مسألة يبحثونها.. هذا المصطلح لا يريدون به ما يتعارف عليه علماء الشريعة فقط، بل يطلق ويراد به أعمُّ من ذلك كالكتّاب والمفكرين من حمَلة الشريعة أو غيرهم ما دام أنه يقول: أرى أن الشرع يجوّز كذا!
يعرف ذلك من نظر في المراجع والاقتباسات في الكتب الدراسية.
الملاحظة الثانية:
كثيرا ما تُعرض لنا معاملات محرمة (كأن تتضمن ربا أو غررا أو جهالة أو غيرها) أو تُذكر لنا أفكار ومعتقدات صريحة البطلان (كالعلمانية والليبرالية وغيرها) أو تنقل لنا أقوال لفلاسفة الغرب أو الشرق والمنطلقة من منطلقاتهم التي كثيرا ما تخالف صريح القرآن والسنة ثم لا تُعقّب بأدنى انتقاد أو توضيحِ لمخالفتها الشريعة.
يوازي هذا التفصيل في عرض أفكار الغرب ومعاملاتهم إغفالٌ كبير في بعض من المعاملات والمعتقدات الشرعية الأساسية لطالب القانون.
فمثلا لم نأخذ شيئا يذكر حول الحدود وأهميتها وشروط إقامتها وكذلك ربا الفضل وربا النسيئة وتفاصيلهما وكذلك ما يتعلق بالغرر والجهالة وكذلك ما يتعلق بدار الحرب ودار الإسلام وغيرها من الموضوعات الأساسية في الشريعة الإسلامية والتي لا يستغني عنها طالب القانون!
ثم إنه إن عُرض لنا حكم الشريعة الإسلامية مع حكم القانون لا تجد كثيرا منهم يعرض القولين إلا كما يعرض الفقيه قولين من أقوال الأئمة الأربعة!
بل إني لم أسمع أحدا من أساتذتنا طيلة فترة دراستي في الكلية يوضح لنا عظمة التشريع الإسلامي أو يعظم فضلها أو يبيّن خطورة ترك الحكم بالشرع والتحاكم لغيرها... إلا نزرا يسيرا من بعض الأساتذة.
- أذكر أحد الطلاب سأل أستاذا عن الحكم الشرعي لمعاملة ربوية يشرحها الأستاذ فقال بعد تجهم وعبوس: لسنا في درس شرعي!
لست أنكر أنه ليس في درس شرعي إلا أني أعتقد أن تعاليم الإسلام وأحكامه ليست ثوبا يُخلع عند الخروج من المسجد.
- سمعت أستاذا يقول: هناك أنظمة إسلامية وأنظمة.. فيسكت قليلا ثم يقول: أنظمة أخرى تحكم وفق أيدلوجيات ارتأتها لظروف تمر بها...!
بل إن بعض الأساتذة -ـ وقليلا ما نجد ذلك ـ- قد يسخر ويتنقص من بعض الأحكام الشرعية صراحة.
ـ أذكر في هذا الشأن صاحبا لي لا أتهمه ينقل لي عن أستاذ أنه قال في معرض كلامه عن الحكم الذي ورد في البخاري من حديث الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ!! فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي)
قال هذا الأستاذ:.........
أعتذر إليك عزيزي القارئ فقد رغب إلي أحد الكرام بمسح العبارة المسيئة والتي تدور حول اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق مع الكافر فضلا عن جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكم أتمنى أن يكون صاحبي قد وهم في نقله.
- آخر يشكك في صحة الوصية بالثلث ويتعجب من وجوب إنفاذها بعد الموت بحجة أن المال قد أصبح للورثة!
- وآخر يستنكر الدية على عاقلة من قتل خطأً!
- وهذا نص من كتاب (الوجيز في القانون المدني) الذي ألفه عبدالرزاق السنهوري ونقحه مصطفى الفقي وهو قوله "كما لم يفرق المشرع بين جنون مطبق وجنون متقطع كما فعلت الشريعة الإسلامية وحسنا فعل (يعني القانون!) لأن ذلك أدعى للحسم، والقطع في أمر كهذا يستعصي على الإثبات ويفتح الباب واسعا لكثير من المنازعات" الجزء الأول ص١٢٦ طبعة دار النهضة العربية
أوضح في هذا الصدد أن القانونين عالة على السنهوري إذ قلما تجد كتابا في القانون المدني إلا وكتب السنهوري من أهم مراجعه.
ولا أنسى أن أبيّن أنه هو أول من أدخل القوانين الوضعية لكثير من الدول العربية إبان انشقاقها عن الدولة العثمانية.
هنا أقف فأقول:
من هاتين الملاحظتين الأولى والثانية يتضح جليا أن لا وجه للاحتجاج بفتوى ابن باز رحمه الله في دراسة القانون وتدريسه ودون معرفة بعلوم الشريعة الإسلامية؛ إذ أنه قال مجيبا لأحد طلبة العلم عن حكم دراسة القانون "من درسها أو تولى تدريسها؛ ليعرف حقيقتها أو ليعرف فضل أحكام الشريعة عليها، أو ليستفيد منها فيما لا يخالف الشرع المطهر، أو ليفيد غيره في ذلك فهذا لا حرج عليه فيما يظهر لي من الشرع، بل قد يكون مأجوراً ومشكوراً إذا أراد بيان عيوبها، وإظهار فضل أحكام الشريعة عليها"
وصدق ابن عثيمين -رحمه الله- إذ يقول مجيبا عن نفس السؤال "إذا درس الإنسان علم القانون من أجل أن يطبق ما وافق الشريعة وينكر ما خالف الشريعة ويبين زيفه وبطلانه فهذا حسن، ولا يمكن للإنسان أن يعرف كيف يرد على الباطل إلا إذا عرف الباطل" سلسلة اللقاء المفتوح 84
وأظننا لا نحتاج إلى أن نعلم أن معرفة الباطل تأتي بعد معرفة الحق!
هذا وللحديث بقية بإذن الله.. في المقال التالي:
كلية القانون بين الواقع والمظنون 2/ 2