لما كان موقف أهل السنة والجماعة من العقل موقفاً مؤصلاً – ذلك لأنهم استمدوه من نصوص الوحيين – كان الاستدلال بالعقل لديهم مضبوطاً بضوابط، جعلتهم يطَّردون في التعامل معه، خلافاً لغيرهم من أهل الكلام ومن وافقهم؛ حيث تجد التناقض حليفهم؛ فما يُقَعِّدونه في مسألة ينقضونه في الأخرى، ويُضَلِّل متأخرُهم متقدمَهم؛ لأسباب كثيرة من أبرزها احتكامهم إلى عقولهم دون قيد أو شرط.
أما أهل السنة فقد أقاموا التعامل مع العقل على ضوابط عدة، من أهمها:
1 – أن العقل لا يستقل بنفسه، بل هو محتاج إلى الشرع؛ إذ العقل غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها(1).
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية، بقوله: (... العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلاً بذلك؛ بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.
والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يُعلَم بالعقل امتناعه، لكنّ المسرفين فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعقتدوها حقاً، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدّقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم)(2).
2 – تقديم النقل على العقل عند توهم التعارض، فالعقل مصدِّقٌ للشرع في كل ما أخبر به، دال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم دلالة عامة مطلقة، فالعقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فإن العامي إذا علم عين المفتي، ودلَّ غيره عليه، وبين له أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدال والمفتي، وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض، قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفتٍ، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفتٍ، ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، وموافقتي لك في قولك إنه مفتٍ، لا تستلزم أن أوافقك في جميع أقوالك، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ. هذا مع أن المفتي يجوز عليه الخطأ، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم في خبره عن الله تعالى لا يجوز عليه الخطأ، فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي، أولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يخالفه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه(3).
إن العقل لا يمكن أن يعارض الكتاب والسنة، فالعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح أبداً، فلا يصح أن يقال: إن العقل يخالف النقل، ومن ادعى ذلك فلا يخلو من أمور(4).
أولها: أن ما ظنه معقولاً ليس معقولاً، بل هو شبهات توهم أنه عقل صريح وليس كذلك.
ثانيها: أن ما ظنه سمعاً ليس سمعاً صحيحاً مقبولاً، إما لعدم صحة نسبته، أو لعدم فهم المراد منه على الوجه الصحيح.
ثالثها: أنه لم يفرق بين ما يحيله العقل وما لا يدركه، فإن الشرع يأتي بما يعجز العقل عن إدراكه، لكنه لا يأتي بما يعلم العقل امتناعه.
أن الدليل العقلي فرع عن الدليل الشرعي(5)؛ ذلك أن الدليل الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً، فإن كون الدليل شرعياً يراد به: كون الشرع أثبته ودلَّ عليه، أو أباحه وأذن فيه.
لذلك فالدليل الشرعي على أقسامٍ ثلاثة:
أولها: إما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يُعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً. مثل: إخباره صلى الله عليه وسلم بأحوال يوم القيامة، وأوصاف الجنة والنار، وتفاصيل ما يجب لله تعالى... مما لا مجال للعقل في إدراكه إلا عن طريق النقل.
ثانيها: وإما أن يكون الدليل الشرعي ما أثبته الشرع والعقل معاً، حيث يكون العقل قد علمه لكنّ الشرع نبه إليه ودلّ عليهن فيكون شرعياً عقلياً، وهذا مثل: الأدلة التي نبه الله تعالى إليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
ثالثها: ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم، وما دل عليه ونبه إليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، مثل: الأمور التي يعرف صدقها عن طريق التجربة والملاحظة: كالطب، والهندسة، والحساب، والكيمياء... إلخ.
ولهذا يقول شيخ الإسلام منبهاً إلى أن حصول المعرفة بالشرع يحصل على هذه الوجوه المتقدمة، فيقول: (أحدها: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع، فتكون عقلية شرعية، والثاني: أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته التي بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع، كقوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورة:52]، وقوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]، وقوله: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه)(6).
مجالات الاستدلال العقلي:
العقل في الإنسان كغيره من الصفات الكمالية، فهي وإن كانت كمالاً في حق الإنسان، إلا أن لها حدوداً لا تتجاوزها، وأقداراً لا تتخطاها، فالإنسان ذاته مخلوق، وصفاته كذلك يعتريها ما يعتري المخلوق من القوة والضعف والخور، والوجود والعدم.
والعقل جعل الله تعالى له حداً – في إدراكه للأشياء – ينتهي إليه، لا يتعداه، فلم يجعل له سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كان كذلك لتساوي مع العليم الخبير في إدراك جميع ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، ولو كان العقل يدرك كل مطلوب لاستغنى الخلق به عن الوحي والنبوات، والله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15](7).
والعقل وإن أدرك فإدراكه يكون لبعض المدرك، وهذا البعض فيه قصور وضعف، من غفلة ونسيان، أو جهل، أو عدم إحاطة، إلى غير ذلك من أحوال الضعف والقصور.
يقول الأستاذ سيد قطب: (والمنهج الذي سار عليه القرآن – وهو المنهج الأقوم – أن يجيب الناس عما هم في حاجة إليه، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته؛ فلا يبدد الطاقة العقلية التي وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به... وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدوده، وفي مجاله الذي يدركه.
فلا جدوى من الخبط في التيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه؛ لأنه لا يملك وسائل إدراكه)(8).
ولتحديد مجال الاستدلال العقلي يمكن تقسيم العلوم التي يدركها العقل إلى ثلاثة أقسام(9):
أ – العلوم الضرورية: وهي التي لا يمكن التشكيك فيها؛ إذ إنها تلزم جميع العقلاء ولا تنفك عنهم، كعلم الإنسان بوجوده، وأن الاثنين أكثر من الواحد، واستحالة الجمع بين النقيضين، أو رفعهما، إلى غير ذلك مما يسمى بقوانين العقل الضروري.
ب – العلوم النظرية: هي التي تكتسب بالنظر والاستدلال، وهذا النظر لا بد في تحصيله من علم ضروري يستند إليه، حتى يعرف وجه الصواب فيه، وهذا القسم تدخل فيه كثير من العلوم، كالطبيعيات والرياضيات والطب والصناعات وغيرها، وهو نوعان:
* نوعٌ يتمحض العمل فيه للعقل، وهذه عادة يكون في العلوم المفضولة، كالصناعة والزراعة وغيرها.
* والآخر يكون بالنظر في أدلة الشرع، وبذل الوسع لإقامة العبودية، قال الإمام الشافعي في قوله تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، قال: (فخلق لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه، وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات، وكل هذا بيان ونعمة منه جل ثناؤه)(10).
ج – وهذا القسم لا يعلم بواسطة العقل، إلا أنه يُعْلِمهن بأن يجعل له طريق للعلم به، وذلك كالغيبيات، سواء كانت من قبيل ما يعتاده علم العبد: كعلمه بما تحت رجليه، وعلمه بالبلد القاصي عنه، الذي لم يتقدم له به عهد، أو لا: كعلمه بما في اليوم الآخر من بعث وحساب وجزاء وتفاصيل ذلك، فهذا لا يعلم إلا عن طريق الخبر، ويدخل في ذلك كثير من مسائل الاعتقاد ولا سيما التفصيلية منها.
__________________________________
(1) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/339)، والصواعق المرسلة، لابن القيم (2/458، 459).
(2) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/338-339).
(3) انظر: درء التعارض، لابن تيمية (1/138، 139، 140)، والصواعق المرسلة، لابن القيم (3/808، 809)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز (ص219).
(4) انظر: درء التعارض، لابن تيمية (1/78، 194)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/339)، والصواعق المرسلة، لابن القيم (2/459).
(5) انظر: درء التعارض، لابن تيمية (1/198-200)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود (1/252-255).
(6) درء التعارض، لابن تيمية (9/37-38).
(7) انظر: الاعتصام، للشاطبي (2/318، ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان بن علي حسن (1/174).
(8) في ظلال القرآن، سيد قطب (4/2249)، ومع هذا التعليق الجيد لسيد قطب فلا يخلو كتابه "في ظلال القرآن" من بعض الهفوات التي وقع فيها، خاصة في بعض الصفات كالاستواء وغيره، ولعل ذلك عائدٌ في تقديري إلى: 1- بيئته العلمية التي كان يعيش فيها (الأشعرية) 2- عدم تخصصه في العلوم الشرعية.
(9) انظر: الاعتصام، للشاطبي (2/318-322)، والرسالة، للشافعي (ص38)، ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان بن علي حسن (1/176).
(10) الرسالة، للشافعي (ص38).