الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة شرعت لمقصود، ومن المعلوم أن أحكام هذه الشريعة الغراء قد شرعت لمقاصد عظيمة، وأنها قد جاءت بتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة، وهذا من مقتضيات علم الله وحكمته وإرادته ورحمته، وهذه المقاصد ترجع جميعها إلى حفظ ما يعرف بالكليات الخمس أو الضروريات الخمس وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذه الخمس متفق عليها بين العلماء، بل بين أهل سائر الأديان كما صرح بذلك غير واحد من أهل العلم، وإن كان بعضهم زاد عليها(1).
إن المعروف في الشريعة هو كل ما فيه صلاح هذه الخمس وحفظها، والمنكر هو كل ما يأتي عليها بالفساد أو التضييع، وعلى هذا تكون الغاية من شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ هذه الكليات الخمس، وهذا يشمل الدعوة للالتزام بكل أحكام الدين وإقامة شعائره وإظهارها، وبهذا تكون ولاية الحسبة وسيلة رسمية من وسائل تحقيق هذا الأمر في المجتمع، ومن المعلوم أن الوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا)(2) ، وما دام الأمر كذلك فلابد للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بصفة عامة وللمحتسب بصفة خاصة أن يراعي هذه المقاصد، لأن همه الأول ينبغي أن يكون تحقيق مراد الله سبحانه وتعالى من فعله الذي يقوم به، وعلى هذا فلابد أن يسعى من خلال أمره ونهيه إلى جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها قدر المستطاع، وتزداد أهمية هذا الأمر عند تزاحم المصالح أو تزاحم المفاسد، إذ قد يلتبس الأمر على الإنسان بخلاف الحال التي تظهر فيها مصلحة واحدة أو مفسدة واحدة فالأمر عندها هين، فينبغي للمحتسب في حال التزاحم أن يقدم أعلى المصلحتين وإن فاتت أدناهما، ويتحمل أدنى المفسدتين دفعاً لأعلاهما، إذ هذا من مقاصد الشريعة، قال ابن تيمية رحمه الله: (الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً)(3).
ومما يجب أن يراعى هنا أن مقصد الشريعة الأجل الأعظم هو حفظ الدين وحياطته، فمتى تعارض هذا مع غيره قدم، ولهذا شرع الجهاد من أجل تكون كلمة الله هي العليا، مع ما قد يتعرض له المجاهد من زهوق النفس، وضياع المال، ولأجل هذا المقصود نفسه لم يتردد ثلاثة من فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماء أمته رضي الله عنهم في أن يتهددوا الظعينة التي ذهبت بكتاب فيه إفشاء لسر المسلمين وتحذير للمشركين، بإلقاء ثيابها إذا لم تخرجه!
كما في الصحيحين من حديث عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ كاتب علي رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ!
فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ!
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ!
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. الخبر(4).
وختاماً لابد من التفطن إلى أن القصد إلى حفظ الضروريات بالأمر والنهي قد يراعى فيه تحقق المصلحة الخاصة بزيد أو عبيد المأمور أو المنهي، وقد تراعى فيه المصلحة العامة للمجتمع، من القيام بواجب إظهار الدين وكبت المنكر وأهله، ومنع الإعلان بالمعصية، وهذا المقصود الثاني أولى بالرعاية من المقصود الخاص متى تعارضا، وقد لا يتحقق أحد المقصودين لكن يعرف الناس بالإنكار أو الأمر أن هذا معروفاً أو منكراً، وأن به قائلاً وله مظهراً، ولا تقابل ذلك مفسدة راجحة فيتوجه حينها الأمر والنهي، ومن ثمرة ذلك قيام الحجة وسلامة الممتثل لواجب الدعوة وإن لم يستجب له: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
أما إذا لم يكن الأمر والنهي يحقق مصلحة عامة ولا خاصة، وتتحقق معه مفسدة، فلا يكون حينها مشروعاً، مع بقاء وجوب التغيير بالقلب أبداً، وكذلك باللسان ما أمكن، والله الموفق، وهو المستعان.
_________________________
(1) قال ابن أمير حاج في التقرير والتحبير 5/226: وزاد الطوفي والسبكي حفظ العرض بحد القذف.
(2) الحسبة لابن تيمية 1/2.
(3) مجموع الفتاوى 23/343.
(4) صحيح البخاري (3007)، ومسلم (2494).