الاحتساب لحماية فكر الأمة وعقيدتها
29 صفر 1438
د. عبد الله بن عبد الرحمن الوطبان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد

فإن من أشد وأخطر صنوف الانحرافات التي عانت منها الأمة قديماً، وتعاني منها حديثاً، الانحراف الفكري والعقدي؛ ويقصد به اعتقاد ما يخالف العقيدة السليمة التي جاء بها الإسلام، وتبني أفكارٍ وتصوراتٍ تبتعد قليلًا أو كثيرًا عما جاء به، ولعل من أهم أسباب خطورة هذه الانحرافات، ما يلي:

- أنها تعمل على زعزعة عقيدة المسلم، وفكره الصحيح؛ والاعتقاد هو الأساس الذي يُبنى عليه الدين، والنعيم أو العذاب الأبدي في الآخرة متوقف عليه.

 

- أنها تؤدي إلى التباس الحق، وتشويه معالمه في أعين الناس، فيصيرون حيارى لا يهتدون.

 

- أنَّها تُغيِّب المفاهيم الدينية الصحيحة عن النفوس.

 

- أن من تأثر بكثير من هذه الضلالات، سيبتعد شيئاً فشيئًا عن الشريعة وأحكامها، حتى يكاد ينسلخ منها ومن القيام بالواجبات الشرعية.

 

- أن بعض هذه الانحرافات يكون لها شقٌّ عملي مخالف للفطر السوية والأخلاق الفاضلة، فتؤدي لظهور القيم المادية النفعية، وانتشار الرذيلة والفواحش في المجتمع.

 

- أن المسلمين يتفرَّقون بسببها إلى طرائق قددًا، وإلى طوائف شتى، كل طائفة خلف فكرة ومبدأ، ويزخرف كل فريق فكرته ومبدأه، وبذلك يتفكك المجتمع، ويعادي بعضهم بعضاً، بل ويحارب بعضهم بعضاً.

 

وقد حذِّر الله عز وجل من ذلك بقوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32]، وقال أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، قال ابن كثير رحمه الله: (وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ فَارَقَ دِينَ اللَّهِ وَكَانَ مُخَالِفًا لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا افْتِرَاقَ، فَمَنِ اخْتَلَفَ فِيهِ {وَكَانُوا شِيَعًا} أَيْ: فِرَقًا كَأَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ -وَهِيَ الْأَهْوَاءُ وَالضَّلَالَاتُ -فَاللَّهُ بَرَّأ رَسُولَهُ مِمَّا هُمْ فِيهِ)(1). تفسير ابن كثير (3/ 377).

 

- أنَّ هذه الانحرافات يتبعها انحراف عملي ولا بد، إذ كل الأعمال مبنية على اعتقاد وفكر، وهذا الانحراف قد يصل بصاحبه إلى إزهاق الأنفس المعصومة، واستباحة الأموال والفروج المحرمة. وانظر إلى انحراف الخوارج، فقد كان هذا الانحراف الفكري لدى هؤلاء هو السبب الرئيس في إحداث الفتن العظام في صدر الإسلام، وإسالة دم الخليفتين الراشدين، عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهم يظنون أنهم يؤدون عبادة، ويفعلون قربة، واستمع لشاعرهم عمران بن حطان قاتَله الله، يمدح قاتلَ علي، عبدَ الرحمن بن ملجم، عليه من الله ما يستحق بقوله:

 

يا ضربةً مِن تقيٍّ ما أراد بها * * * إلا ليبلغَ مِن ذِي العرش رِضواناً

 

إني لأذكـــره يومــــاً فــــأحســــبُه * * * أَوفىَ الــــبريـــــــــة عنــــد الله مـــــيزانــــــــــاً

 

ويضاف إلى ما سبق ما يتعلق بطبيعة هذا الزمان وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، فمن أثر ذلك:

 

- سرعة انتشار الأفكار المنحرفة من الناحية الزمنية، واتساع نطاقها من الناحية المكانية.

 

- بقاء الأفكار المنحرفة وإتاحتها لمن يريد، بينما كانت يمكن أن تظهر قديمًا فكرةٌ منحرفة وتموت في مكانها لعدم وجود من ينقلها بسهولة كما تفعل الوسائل الحديثة.

 

وقد بيّن ابن تيمية -رحمه الله- خطر بعض صور المنكرات الفكرية، فقال: "فأما الغش والتدليس في الديانات، فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال، مثل إظهار المكاء، والتصدية في مساجد المسلمين، ومثل سب جمهور الصحابة، وجمهور المسلمين، أو سب أئمة المسلمين، ومشايخهم، وولاة أمورهم، المشهورين عند عموم الأمة بالخير، ومثل التكذيب بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، التي تلقاه أهل العلم بالقبول، ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومثل الغلو في الدين، بأن ينزل البشر منزلة الإله، ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثل الإلحاد في أسماء الله، وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه، والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره، ومثل إظهار الخزعبلات السحرية، والشعبذة الطبيعية وغيرها التي يضاهى بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات؛ ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله، وهذا باب واسع يطول وصفه. فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك، وعقوبته عليها، إذ لم يتب حتى قدر عليه، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل، أو جلد أو غير ذلك، وأما المحتسب فعليه أن يعزر من أظهر ذلك قولًا أو فعلًا"(2). الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية (ص: 43).

 

وبيَّن -رحمه الله- أنَّ الاحتساب على هذه المنكرات المتعلقة بالفكر والعقيدة أولى من الاحتساب على غيرها من المنكرات؛ لأنها أشد خطراً، وأبلغ ضرراً على الأمة، حيث يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وكان شيخنا -رضي الله عنه- شديد الإنكار على هؤلاء -أي الذين يفتون بغير علم-، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلتَ محتسباً على الفتوى؟! فقلت له: أيكون على الخبازين والطبَّاخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!"(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/167). فانظر إلى فقه هذا الإمام الجليل ما أروعه!

 

إن الانحراف الفكري اليوم ليس مقتصرًا على ما ذكره آنفًا فحسب، بل هو أشد تنوعاً، وأكثر تشعباً؛ فالعالم اليوم يموج ويضطرب بأفكارٍ باطلة، ومذاهبَ منحرفةٍ شتى؛ ومجتمعاتنا الإسلامية ليست بمعزل عن هذه الأفكار والمذاهب المنحرفة، لا سيما في عصر الفضاءات المفتوحة، ووسائل الإعلام القديم والحديث، التي غزت كل البيوت ووصلت لمتناول الأطفال الصغار. وهذه الانحرافات تشمل كل ما يُبث ويُنشر لزعزعة فكر الأمة وعقيدتها، سواء كان من قِبَل أهل البدع والأهواء، أو أصحاب المبادئ الإلحادية، والأفكار التغريبية، والمناهج الإباحية، أو من خلال حملات التشويه بأنواعها، عبر وسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التثقيف المتنوعة من التلفاز والكتاب، والمجلة والجريدة، والمقاطع الصوتية والمرئية. وزاد الطين بلة ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الأجهزة المسماة بالذكية، حيث صار كل من شاء يقول ما شاء وينتشر كلامه في الآفاق بضغطة زر، ولهذا فإن الخطر يتعاظم، والشر ما لم يواجه بحزم وحسم فسوف ينتشر.

 

وسائل محاربة الأفكار المنحرفة:

 

إن أنجع وأنجح وسيلة لمحاربة هذا الطوفان من العقائد الباطلة والمذاهب الهدَّامة، تتكون من شقي:

 

الأول- تحصين أبناء المسلمين من هذه المذاهب؛ وذلك ببث العقيدة الصحيحة والفكر السليم، وتثبيتهما في القلوب والعقول، وهذه مهمة جليلة ينبغي أن تشارك فيها الأجهزة الرسمية في الدول الإسلامية، والعلماء والمشايخ والدعاة وأرباب الفكر السليم.

 

الثاني- أن تنفر طائفة من المسلمين للقيام بواجب الاحتساب الفكري؛ وذلك ببيان بطلان هذه المذاهب والأفكار وانحرافها، وإظهار قُبح حقيقتها للمنبهرين بزخرفها، ومحاورة أربابها وتزييف ما لديهم من بهارج لا حقيقة لها، كل ذلك بالأدلة النقلية الصحيحة، والحجج والبراهين العقلية الصريحة.

 

ولكن مما ينبغي التنبه له التركيز على الأفكار المنتشرة والمشهورة، وترك الأفكار والمذاهب التي لا يلقي لها أحدٌ بالاً وشأنَها، وكذلك فيما يتعلق بالدعاة للأفكار، فلا ينبغي الوقوع في مصيدة نشر أفكار مهجورة، أو إشهار مجاهيل لا يدري بهم أحد، حتى إذا بدأت الردود عليهم برزوا واشتهروا وسلطت عليهم الأضواء!

 

فالقيام بما سبق يُعدُّ من أهم الوسائل التي يحافَظ بها على سلامة المجتمع الإسلامي من أن يتسلل إليه فكر المفسدين، وانحرافهم الفكري والسلوكي، ويترتب على القيام بهذه الوظيفة سلامة المجتمع من عوامل الإفساد الفكري، وينتج عنها استمرار النهج القويم للمجتمع، والمحافظة على مقوماته.

 

وأما في حال غياب أو ضعف وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجوانب الفكرية، فسوف تنتشر الأفكار الضالة، والشبهات المزخرفة، والعقائد الباطلة، ولهذا فالواجب أن تقوم الأمة بواجبها في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري بأنواعه المختلفة، وبخاصة من له ولاية، كولاة أمر المسلمين، والمحتسبين.

 

ويمكن إجمال أثر الحسبة في الحفاظ على فكر الأمة وعقيدتها في النقاط التالية:

 

• الاحتساب على مظاهر الانحراف العقدي وصوره المتعددة، يؤدي إلى الحفاظ على صفاء العقيدة، وتنقية مصادرها، وقصرها على الوحي المطهر، وبالتالي منع تسلل العقائد المنحرفة إلى الأمة.

 

• الاحتساب على أهل البدع والأهواء وبدعهم المختلفة والمتعددة، كبدع الأعياد المحدثة، وإقامة الموالد والمناسبات البدعية، والدعوة إلى إحياء الآثار، وتعظيمها، والتبرك بها، ونشر الأحاديث الموضوعة، والقصص الخرافية، يؤدي إلى الحفاظ على أنوار السنة والهدي النبوي في الأمة.

 

• الاحتساب على الأفكار الدخيلة، ومحاربة الوسائل التي تنشرها في المجتمع، فيه تحصين المجتمع من تسلل تلك الأفكار إليه، وتطهيره من الفكر الدخيل.

• الاحتساب على الغزو الفكري الغربي المروج لأنماط السلوك المنحرفة وللانحرافات الخُلُقية، والقنوات الماجنة، والوسائل الشهوانية، سبيلٌ إلى حماية المجتمع عامة من الوقوع في مستنقع الرذيلة، وحماية للشباب والشابات خاصة؛ لأنهم أكثر فئات المجتمع عرضة لهذا؛ لوقوعهم تحت تأثير هذه الأفكار والوسائل، والانبهار بزيف الحضارة الغربية ومجونها.

 

• مراقبة المطبوعات المخالفة للشرع، والاحتساب عليها، ومصادرتها، ومنع نشرها، ومراجعة ما ينسب إلى الإسلام من العلوم والمعارف، وعرضه على ميزان الشرع، كل ذلك فيه حفاظٌ على وسائل المعرفة والعلم والتثقيف من الانحراف، وبقاء الوحي الإلهي وحده هو المغذي للقلوب والأفهام، والموجه للسلوك والإرادات.

 

• الاحتساب على كتابات العقلانيين والعلمانيين والحداثيين وغيرهم، على مختلف مدارسهم المعروفة، من ماركسية، وقومية، وحداثية، وعلمانية، وليبرالية، وغيرها، بالرد عليها، ومحاربتها، فيه كشفُ باطلهم، ودحض زيفهم، وبيانه للناس.

 

وإن الأمة اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى للتصدي لهذه المخاطر المحيطة بها، والتي لا يقتصر خطرها على مجرد تغيير الفكر، بل يلحق ببعض هذا التغير تغير في الهوية نفسها، بحيث تصبح الأمة تابعة لغيرها، بل قد يصل الأمر حد ذوبان الهوية ومسخها، فتتحول المسألة إلى مسألة وجودية، أن نكون أو لا نكون.

 

فنسأل الله عز وجل أن يبصرنا بمكامن الخطر، وأن يجعلنا وعامة من المسلمين من القائمين على ثغور هذا الدين، المدافعين عن حماه، ونسأله سبحانه أن يحفظ البلاد والعباد من شر كل ذي شر.

 

وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد

_______________________________________

(1) تفسير ابن كثير (3/ 377).

(2) الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية (ص: 43).

(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/167).