حكم كلام الناسي في الصلاة
17 صفر 1438
د. عبد الرحمن بن عوض القرني

تحرير محل النزاع:

اتفق العلماء على أن من تكلم في صلاته عامدا لغير حاجة فقد بطلت صلاته.
قال ابن قدامة: أما الكلام عمدا، وهو أن يتكلم عالما أنه في الصلاة، مع علمه بتحريم ذلك لغير مصلحة الصلاة، ولا لأمر يوجب الكلام، فتبطل الصلاة إجماعا(1)‏.

 

واختلف الفقهاء فيمن تكلم في صلاته بكلام أجنبي ناسيا أنه في صلاة هل تبطل أم لا؟ على قولين:

القول الأول:

لا تبطل صلاته. وبه قـال المالكية(2)‏، والشافعية(3)، والحنابلة في رواية(4)‏.

 

القول الثاني:

تبطل صلاته وعليه الإعادة. وبـه قـال الحنفيـة(5)‏، والحنابلة في المشهور من المذهب(6)‏.

 

أدلة الأقوال مع المناقشة والترجيح.

أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يأتي:

1- عموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].

 

2- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»(7)‏.
فالآية والحديث يقتضيان رفع الخطأ والنسيان عن هذه الأمة، والمـراد حكمهما.

 

3 - حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- في قصة ذي اليدين‏ -رضي الله عنه- قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصـر، فسلم مـن ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكـن، فقال: قد كـان بعـض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم»(8)‏.

 

وجه الدلالة:

أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم ناسيا معتقداً أنه قد فرغ من صلاته ثم لما ذكـر بنى على صلاته وسجد للسهو، فلو كـان إذا وقـع عـن سهو أبطل الصلاة لوجب عليه أن يستأنف صلاته(9).

 

4 - حديث معاوية بن الحكم –رضي الله عنه-، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قـال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(10)‏.

 

وجه الدلالة:

أن معاوية تكلم جاهلا بـالحكم، ولم يـأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وما عذر فيه بالجهل، عذر فيه بالنسيان(11)‏.

 

أدلة أصحاب القول الثاني:

استدلوا بما يأتي:
1 - حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- قَالَ: "كنا نسلم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه فلم يرد علي فقلت: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: «إن في الصلاة شغلا»"(12)‏.

 

2- حديث زيد بن أرقـم –رضي الله عنه- أنه قـال: "كنا نتكلـم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصـلاة حتى نزلت (وقوموا لله قانتين). فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام"(13)‏.

 

وجه الدلالة:

أن النهي شامل لعموم كلام الآدميين في الصـلاة بما في ذلك كـلام الناسي؛ لعدم ورود التفريق بين ذلك(14)‏.

 

3 - حديث معاوية بن الحكم –رضي الله عنه-، وفيـه أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(15)‏.

 

وجه الدلالة:

دل الحديث على أن الكلام بغير التسبيح والذكر وقراءة القرآن يبطل الصلاة مطلقا، سواء كان ذاكرا أو ناسيا(16)‏.

 

4- أنه كلام يبطل الصلاة إن طال، ولو كان النسيان فيه عذر لاستوى فيه الطويل والقصير، فلما لم يكن كذلك دل على أنه مبطل للصلاة كيف ما وقع أصله كالأكل والشرب(17)‏.

 

5- أنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة، فلم يسامح فيه بالنسيان قياسا على العمل الكثير من غير جنس الصلاة(18)‏.

 

الراجح:

بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها تبين أن الكلام في الصلاة سهوا لا يبطلها، وهو ما ذهب إليـه أصحـاب القول الأول، وذلك لما يلي:

1- عموم الأدلة الدالة على رفع الخطأ والنسيان عن هذه الأمة.
2- صحة دلالة حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- المشهور في قصة ذي اليدين، وهو نص في محل النزاع.
3- أن دعوى نسخ حديث ذي اليدين دعوى غـير صحيحـة ولا تثبـت بمجرد الاحتمال.
4- أن حديث ذي اليدين أولى بالتقديم؛ لأنه متأخر(19)‏.
5- أن المنسوخ عمد الكـلام دون سـهوه، ولا يثبـت نسـخه بخبر محتمل(20).
6-أنه قد دل على هذا الحكم أدلة أخرى(21)‏.

 

قال ابن تيمية -رحمه الله-: (ولهذا كان أقوى الأقوال أن ما فعله العبد ناسيا أو مخطئا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبط العبادة كالكلام ناسيا والأكل)(22)‏.

 

دلالة النهي عن كلام الناسي في الصلاة:

مما سبق يتبين أن العلماء لم يختلفوا في ثبوت النهي، وفي دلالته على الفساد والبطلان -وذلك لأن الكلام خروج عن هيئة الصلاة كالأكل والضحك ونحو ذلك بخلاف الالتفات أو رفع البصر إلى السماء فهو وإن كان منهياً عنه إلا أنه ليس فيه خروج عن هيئة الصلاة-.

 

واختلفوا في أثر النهي من حيث العموم والخصوص فبعض العلماء قال إن النهي عام في العامد والناسي وبعضهم قصر النهي على العامد، وتقدم ترجيح خصوص النهي بالعامد.

 

______________________

(1) المغني (2 /35).
(2) الإشراف (1/91)، (قوانين الأحكام الشرعية ص82).
(3) الحاوي (2/177) المجموع(4/85).
(4) شرح الزركشي(2/28)، الإنصاف(2/135).
(5) بدائع الصنائع (1/233)، المبسوط(1/170).
(6) المغني (2/446)، شرح الزركشي(2/28)، الإنصاف(2/135).
(7) رواه ابن ماجة (2045)، وغيره، ورجاله ثقات إلا أنه أعل بعلة غير قادحة.ا.هـ.
وللحديث شواهد كثيرة عن أبي هريرة وابن عمر وأبي ذر وعقبة وابن عمرو وأبي بكرة، وإن كانت لا تخلو من مقال، لكن الحديث بمجموعها صحيح وحسنه النووي المجموع (6/521) والألباني في إرواء الغليل (1/348).
(8) أخرجه البخاري أبواب السهو باب من سلم ركعتين أو ثلاث (1229) ومسلم كتاب المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له (97)(573).
(9) الإشراف (1/91)، الحاوي (2/178)، المغني(2/446).
(10)رواه مسلم (537) في الحديث الطويل المعروف بحديث الجارية.
(11) المجموع (4/86)، المغني (2/446).
(12) أخرجه البخاري. العمل في الصلاة. باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة (1141) ومسلم. المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة (34)(538)
(13)رواه البخاري (1200) ، ومسلم (539) ، إلى أن مسلما لم يسق من الآية إلى قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}.
(14) أحكام القرآن للجصاص (1/444).
(15) تقدم تخريجه.
(16) شرح معاني الآثار (1/477).
(17) بدائع الصنائع (1/234)، المبسوط (1/171).
(18) المغني (2/446)
(19) التمهيد (1/355) الحاوي (2/180).
(20) الحاوي (2/180).
(21) كعموم الأدلة في عدم المؤاخذة بالنسيان والجهل.
(22) كما في الاختيارات الفقهية للإمام عبد الهادي المقدسي ص(26) وكذا في مجموع الفتاوى (21/477-478).