الهيئة وحكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2 صفر 1438

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر هذا الدين العظيم، وعبادة جليلة من عباداته، دل على ذلك أدلة كثيرة، منها تعليق خيرية هذه الأمة على القيام بهذه الشعيرة كما مر معنا في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ومنها ثناء الله عز وجل على القائمين بهذه العبادة، وبيان أن القيام بها من صفات عباده المؤمنين، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، وبين في المقابل أن المنافقين يقومون بعكس هذه الوظيفة، وفي هذا أشد تحذير من اتباع هذا المسلك الذميم، وبيان أهمية التحلي بضده، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67].

 

وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذه العبادة ليست مختصة بأمة محمد عليه الصلاة والسلام ومدح من قام بها من الأمم السابقة، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114] ونوه بقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17].

 

وقد أمر سبحانه وتعالى بهذه العبادة في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"(1)، وقال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(2)، والأمر كما هو معلوم للوجوب.

 

وقد اختلف أهل العلم في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذهبت طائفة إلى أنه واجب وجوباً عينياً على كل مكلف، بينما ذهب الجمهور إلى أنه واجب على الكفاية، إن قام به البعض على الوجه المراد شرعاً كفوا بذلك بقية المسلمين وسقط عنهم إثم تركه، وهذا هو الراجح، ويدل عليه أن الله سبحانه وتعالى قد ندب إلى ذلك طائفة من المسلمين كما في الآية الكريمة السابقة ولم يأمر به الجميع، فإن كان قيام هذه الطائفة كافياً وإلا أثم الباقون حتى يقوم به منهم من تتم به الكفاية.

 

وهنا ينبغي ملاحظة أمرين؛ أولهما أن هذا الوجوب يكون إذا كان المعروف واجباً وكان المنكر محرماً، أما إن كان المعروف مستحباً والمنكر مكروهاً على التنزيه فالأمر والنهي حينها يكون مستحباً لا واجباً، وثانيهما أن هذا الوجوب الكفائي إنما هو فيما يتعلق بالتغيير باليد واللسان، أما إنكار المنكر بالقلب فهذا فرض عين على كل من شهد هذا المنكر أو علم به ولا يسقط هذا الواجب عن المكلف بحال.

 

وبرغم أن فروض الأعيان مقدمة على فروض الكفاية ومفضلة عليها على قول جمهور أهل العلم، إلا أن لفروض الكفاية ميزة وهي أن القائم بها على وجهها يرفع الإثم عن بقية المسلمين وهذا فضل عظيم.

 

وبناء على ما سبق يُعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -على أهميته- ليس ركناً سادساً من أركان الإسلام كما ذهب إليه بعض أهل العلم، لأن هذه الأركان واجبة وجوباً عينياً على كل مسلم مع القدرة، بخلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكفي للدلالة على ذلك أن الحديث الصحيح بين أركان الإسلام وأنها خمسة وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها، وقد سئل العلامة ابن باز رحمه الله عن ذلك فقال: (نعم، قال بذلك بعض أهل العلم، لكن لم يرد نص واضح في ذلك، وإنما هو من أعظم فرائض الإسلام. وأركان الإسلام التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة، قال عليه الصلاة والسلام: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" متفق عليه.

 

هكذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه، فلا تجوز الزيادة عليها إلا بدليل صحيح. لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من الدعائم، وفرض من الفروض، لكنه لا يقال: إنه ركن سادس، لعدم الدليل على ذلك)(3) ا.هـ كلامه رحمه الله.

 

وإذا قلنا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية، فإن فروض الكفاية يعرض لها من الأسباب ما يجعلها متعينة في حق بعض الأشخاص، كأن لا يوجد من يقوم بهذا الواجب غيرهم، فإن وجدت لدى الشخص القدرة ولم يكن مشغولاً بما هو أوجب ولم يقم بالواجب الكفائي غيره فقد صار متعيناً عليه، قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن كان عاجزاً عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب، وإن كان قادراً وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه)(4) ، وقال أيضاً: (هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لاسيما إن كان غيره عاجزًا عنها)(5) ، ومن هذه الأسباب عند بعض أهل العلم الشروع في الواجب الكفائي، قال ابن بدران رحمه الله: (هل يتعين فرض الكفاية ويجب إتمامه على من تلبس به أم لا؟ قال الطوفي: الأشبه أنه يتعين؛ كالمجاهد يحضر الصف، وطالب العلم يشرع في الاشتغال به، ونحو هذا من صوره)(6).

 

ومن هذه الأسباب التولي، أي أن يعين الحاكم أو ولي الأمر من يقوم بهذا الواجب الكفائي، وفيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذه الولاية تسمى الحسبة، وتكون في حق من يوليهم ولي الأمر على القيام بها -وهم المحتسبون- واجبة وجوباً عينياً، قال ابن تيمية: (وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره فقد تتعين في وقت ومكان وعلى شخص أو طائفة وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك)(7).

 

وبهذا نعلم أن ولاية الحسبة أخص من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من جهة كونها ولاية دينية، ومن جهة كونها واجبة وجوباً عينياً على من يوليه الحاكم أمرها، ومن جهة كون القائمين عليها لهم من السلطان ما ليس لكثير غيرهم، قال ابن تيمية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة ؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ})(8).

 

ومما سبق نعلم أن ولاية الحسبة تتمثل في بلادنا بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الاسم الذي اختاره لها ولاة الأمور؛ ولكن هل وجود ولاية الحسبة، وهل كون الهيئة القائمة بها تسمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني قصر هذه المهمة عليها؟

 

لا شك أن الأمر ليس كذلك، فإن ولاية الحسبة مختصة بما ظهر من ترك المعروف وإتيان المنكر في المجتمع، ولا ولاية للمحتسبين على ما لم يظهر واستتر في الأماكن الخاصة كالبيوت و الأماكن البعيدة عن أعين الناس مثلاً، فهنا يقع واجب الأمر والنهي على من حضر وكان قادراً عليه فهذا يصبح في حقه متعيناً كما سبق، وكذلك فإن ما يظهر في الأماكن العامة قد لا يطلع عليه أهل الحسبة حال وقوعه فهذا يجب على من حضره أن يأمر فيه وينهى كل بحسب قدرته، ويكون في حقهم واجب على الكفاية، وقد يتعين على بعضهم على التفصيل السابق. والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبيه وآله وصحبه وسلم.

 

___________________________

(1) سنن الترمذي 4/468 (2169)، وحسنه الألباني.
(2) صحيح مسلم 1/69 (49).
(3) مجموع فتاوى و مقالات ابن باز 5/69.
(4) مجموع الفتاوى 19/56.
(5) الحسبة لابن تيمية 1/36.
(6) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1/230.
(7) مجموع الفتاوى 19/118.
(8) الحسبة لابن تيمية 1/9.