إجابة فوق ما تتخيل!
30 محرم 1438
إبراهيم الأزرق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فقد استوقفني قول الله تعالى لنبيه نوح عليه السلام: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)، قال المفسرون: (وَلَا تُخَاطِبْنِي) ولا تسألني في العفو عن هؤلاء.. فهذا الخطاب في ظاهر السياق بعد أن دعا عليه السلام على قومه وذلك بعد أن آيس منهم وذلك قبل أن يصنع الفلك، كما في (سورة المؤمنون) : (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)، فذكر دعوته عليهم قبل قوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ)، وقبل إرشاده لتدابير النجاة! وختم ذلك بقوله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)! وأجمل بعض ذلك في هود بيد أنه بين سبب دعوته، فقال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

 

والسؤال الذي قد يرد هنا! إذا كان العذاب النازل بالقوم جراء ذنوبهم قد تسبب فيه دعاؤه عليه السلام عليهم، فما وجه قوله تعالى: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا)، أي بطالب العفو عنهم، وهو قد خاطب عليه السلام ربّه عز وجل بإهلاكهم!

 

والذي يظهر في جوابه أن يقال: لله تعالى أقدار يخلقها قد تهول من يطلبها ويلح في الدعاء بها، وإن كان من أعلم الخلق به سبحانه، فالله تعالى أجل وأكبر من أن تحيط بأفعاله الأفهام، وخلق الله تعالى عظيم، وتدبيره عجيب، وقدرته لا تبلغ العقول درك ما يفعل بها! ومع ذلك فليس إدراك شيء على سبيل الإجمال كإدراكه تفصيلاً بالعيان! وليس أثر علم اليقين كأثر حق اليقين، وفرق بين أن تعلم موت فلان، وبين أن تحضر معالجته السكرات! وما أعظم الفرق بين أثرين! أثر علمك بإحراق النار، وأثر مسك النار!

 

وكذلك إذا لابس الداعي بالانتصار من ظالم أحوالاً وأهوالاً لم تكن منه على بال.. وتجلت لعينيه مظاهر من بطش الله تعالى مصدقات قوله سبحانه: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13]، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، فربما أخذته الرأفة أو اعترته الشفقة، فعاود الخطاب بالتخفيف!

 

فلعله لهذه المعاني قال: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)! إيذاناً بأليم عقوبته، على أنه قد قيل أُريد ابنه وزوجه، وهو بعيد فصيغة العموم تتجاوز ذلك، بل لم يفهم عليه السلام دخولهما في ذلك، فقد ظن أن ذينك خارجين لأنهما من أهله: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود]، فبين أنهما من جملة الداخلين في الذين ظلموا.

 

ولهذه النكتة نظائر في الأنبياء والأمم، منها ما أخبر الله تعالى عنه كما في قوله: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء: 89]، وذلك حين شاب رأسه ورق عظمه وكبرت سنه، (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم]، فلما جاءته البشرى بعيدها: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم]! وفي الآية الأخرى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) [آل عمران]! مع أنه كان قبيلها يدعو! ربما ظن إجابته تقع من جهة غير جهة إصلاح زوجه! لكن الله تعالى على ما يشاء قدير، وفضله يتجاوز طمع أوليائه فيه مع علمهم به!

 

وقل مثل ذلك فيما وقع لإبراهيم عليه الصلاة والتسليم، (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر: 54].

 

وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل فقال يا رسول الله ، قحط المطر فادع الله أن يسقينا . فدعا فمطرنا، فما كدنا أن نصل إلى منازلنا فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة. قال فقام ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حوالينا ولا علينا». قال فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينا وشمالا يمطرون ولا يمطر أهل المدينة[1]. البخاري (1015).

 

فيا أخا الإسلام! إذا دعوت الله بالخير فأحسن الدعاء ثم أمل فوق ما تتخيل، فالرب أكرم، وعطاؤه أجزل، وفضله عظيم، ومننه كثيرة ونعمه تعد ولا تحصى سبحانه وبحمده. وإذا دعوته بغير ذلك فقيد وتحرز وحاذر أن تصادف ساعة إجابة أخذتك فيها سورة غضب قد تأسف على انتصارك بعد فيها، وتود أن لو قد عفوت أو اقتصدت وسامحت.

اللهم وفقنا في الدعاء وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، آمين.