تأملات في تسلسل خبر نوح عليه السلام
14 محرم 1443
إبراهيم الأزرق

الحمد لله وبعد فالذي يتأمل قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم يجده:

1- قد صبر على تكاليف الدعوة عمرا مديدا مكثه في قومه، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت: 14]، مع أنه لم تكن له كما يقال مكتسبات في حسابات أكثر الناس تذكر؛ فما آمن له إلاّ قليل! أكثر ما قيل: ثمانون نفساً! بمعدل شخص كل اثنتي عشرة سنة تقريباً! وقيل ثمانية بنوه الثلاثة، وكنائنه الأربع؛ زوجات الثلاثة مع زوجة الهالك! ولعل هذا أشبه بكونه أبا البشر الثاني، وبقوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح)!

 

2- لم يكن ضعف الاستجابة ناشئاً عن تقصير منه عليه السلام، ففي تلك المدة المديدة كان جاهداً دآئباً في العمل على هداية قومه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)، (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)،.. إلى آخر ما في سورة نوح، حتى أوحي الله إليه أنه لن يؤمن أحد من هؤلاء القوم، كما في سورة هود: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)، فيكون قوله: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح]، إنما هو بعلم علمه من قبل ذلك الوحي المذكور في سورة هود.

 

3- دعا نوح عليه الصلاة والسلام على قومه بعد الإياس المتيقن بالوحي من إيمانهم، وكأن دافعه -وقد علم أنه لن يؤمن منهم المزيد- خشيته أن يفتنوا من معه، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)، فلم تعد ثمة مصلحة من بقائهم! ولا سيما أن الفساد الكثير إذا بلغ أوج طغيانه سرى وتغول إلى الصالح القليل ممن آمن (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40]! وما تقدم يبين ملابسات دعائه، والفرق بينه وبين المستعجلين المغاضبين الذين قد تذهلهم سورة غضبية عن مقاصد الدعوة! فيتوسلون بسبب الرحمة إلى النقمة.

 

4- أرشد عليه السلام بعد ذلك إلى صناعة الفلك بوحي من الله وتعليم من لدنه، (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [هود]، (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [المؤمنون]، وقد ذكر بعض المفسرين أن بني آدم لا عهد لهم بالسفن التي تمخر البحار قبلها، وهو معنى تشهد له إشارات من نحو قرن الإنعام بها وتسخيرها بما لايد للإنسان في اختراعه كالأنعام: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [غافر]، (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون]، وقد ذكر في سورة الرحمن إنعامه بالسفن فقال: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ)، وذلك في معرض ذكر نعم عامة كسب الإنسان فيها ضئيل، (علم القرآن)، (خلق الإنسان)، (علمه البيان)، (والسماء رفعها)، (والأرض وضعها)، (فيها..)، (مرج البحرين)، (يخرج منهما اللؤلؤ..)، ولم يذكر هذه الآية في سورة الواقعة مثلاً أو غيرها من التي نوه فيها بنعم كسبية، للإنسان فيها تسبب وابتداء، (أفرأيتم ما تمنون..)، (أفرأيتم ما تحرثون..)، (أفرأيتم النار التي تورون..).

 

وإذا كانت سفينة نوح قد صنعت بوحي الله وعلى عينه، فلا عجب أن تمخر موجاً كالجبال، في أجواء عصيبة الماء فيها من السماء منهمر، ومن الأرضين فائر منفجر! بينما تغرق في لجة البحر تايتنك! ونحوها من السفن الحديثة التي هي غاية ما توصلت إليه العقول البشرية! وذلك في ظواهر جوية مهما عظمت فهي لا شيء بالنسبة لطوفان أغرق الأرض!

 

وملخص ما تقدم:

1- دعا نوح عليه السلام قومه وصبر عليهم دهراً.
2- أوحي إليه في آخر الأمر أنه لن يؤمن منهم إلاّ من قد آمن.
3- دعا عليهم بعد ذلك بالهلاك (رب لاتذر على الأرض من الكافرين دياراً).
4- أمر بصناعة السفينة بوحي من الله، وأرشد إلى تراتيب النجاة.

 

وفي خاتمة المطاف نهاه عن معاودة الخطاب في شأن الظالمين إيذاناً بهول ما هو نازل بهم، طائل صغيرهم وكبيرهم، أموالهم وبيئتهم.. نعوذ بالله من غضبه وأسباب سخطه وموجبات عقوبته.