مشكل ما روي في تقديم السعي على الطواف: عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، وكان الناس يأتونه، فمن قائل يقول: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف، أو أخرت شيئاً أو قدمت شيئاً، وكان يقول لهم: ((لا حرج، لا حرج، إلا رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذاك الذي حرج وهلك )). (1) * وجه الإشكال: أن الحديث يقتضي صحة السعي قبل الطواف؛ لأن فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب سائله عن السعي قبل الطواف بقوله: ((لا حرج لا حرج )). وقد نقل إجماع الفقهاء على خلاف دلالة هذا الحديث إذ قالوا: إن من شروط صحة السعي أن يتقدمه طواف، قال الماوردي: ((هو إجماع ليس يعرف فيه خلاف بين الفقهاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمع قط إلا عقيب طواف، وقد طاف ولم يسع بعده, ولو جاز السعي من غير أن يتقدمه طواف لفعله ولو مرة، ليدل به على عدم الجواز... )).(2) وقال الخطابي: ((.. فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض، فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف، لا يجزئه غير ذلك في قول عامة أهل العلم، إلا في قول عطاء وحده، وهو قول كالشاذ لا اعتبار له)). (3) وقال النووي: ((ونقل الماوردي وغيره الإجماع في ذلك )). (4) وقال ابن الطبري: ((قوله: ((سعيت قبل أن أطوف )) هذا لا أعلم أحداً قال بظاهره واعتد بالسعي قبل الطواف، إلا ما روي عن عطاء، وهو قول كالشاذ لا اعتبار به )). (5). • أقوال العلماء في إثبات الإشكال: عقد الطحاوي: باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لسائله: إنه سعي قبل أن يطوف: ((لا حرج))، ثم ساق بإسناده حديث أسامة بن شريك، ثم قال مبيناً وجه الإشكال: وهذه مسألة من الفقه أكثر أهلها يقولون فيها: إن السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت لا يجزئ الساعي، وإنه كمن لم يسع، وهذا قول عامة فقهاء الأمصار من أهل الحجاز وأهل المدينة، ومن أهل العراق، ولا نعلم مخالفاً لهم في ذلك غير الأوزاعي، فإنه قد روى عنه في ذلك: أن السعي يجزئ الذي سعاه، وأنه ليس عليه أن يعيده بعد طوافه بالبيت، وقد روي مثل ذلك عن عطاء بن أبي رباح. (6) • سبب الإشكال: تعارض ظاهر الحديث مع ما نقل إجماعاً. • دراسة الإشكال وبيان الراجح من الأقوال في دفعه: تبين مما مضى -في وجه الإشكال- أن عامة أهل العلم من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة (7) وحكي إجماعاً - على خلاف ما يقتضيه حديث أسامة بن شريك من صحة تقدم السعي على الطواف -. وذلك أن السعي عند عامة العلماء تبع للطواف، فلا يصح إلا أن يتقدمه طواف. قال ابن قدامة: ((ووجه الأول - يعني: عدم صحة السعي قبل الطواف - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعي بعد طوافه، وقد قال: ((لتأخذو عني مناسككم )) )). (8). لكن فيما نقل إجماعاً - على عدم صحة تقدم السعي على الطواف - نظر, فقد نقل القول بمقتضى حديث أسامة بن شريك عن عطاء و الأوزاعي والثوري - في رواية -، والحسن البصري لمن كان ناسياً، وأحمد في رواية لمن كان ناسياً، أو جاهلاً، وابن خزيمة لمن كان جاهلاً, ونسبه المنذري إلى بعض أهل الحديث، ولعله أراد بعض من تقدم؛ كالأوزاعي والثوري وأحمد.(9). وبناءً على القولين فقد استعمل لدرء الإشكال الجمع والترجيح. وفيما يأتي بيان ذلك: أولاً: الجمع: بين حديث أسامة بن شريك المقتضي صحة تقديم السعي على الطواف، وبين ظاهر السنة الفعلية الدالة على أن السعي لا يصح إلا أن يتقدمه طواف، ويتم بتأويل حديث أسامة. ولهم في تأويله طرق: 1- حمل قوله صلى الله عليه وسلم - لسائله عن تقديم السعي على الطواف -: ((لا حرج )) على نفي الإثم فحسب، مع مطالبة فاعله بإعادة السعي بعد الطواف. قال الطحاوي في سياق طويل: ((.. كما في حديث أسامة بن شريك من جواب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سعيت قبل أن أطوف بأن قال: ((لا حرج)) لم يمنع من أنه يطوف ثم يعيد السعي بعد ذلك...)) (10) وهذا التأويل فيه نظر، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا حرج )) إباحة لما فعل وقدم وإجازة له، لا أمر بالإعادة, إذ لو كان لرفع الإثم فحسب، مع بقاء المطالبة بالإعادة، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت بأوضح بيان, فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم. قال الطبري: (( لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذا لو لم يجزئ لأمره بالإعادة )). (11). فإن قيل: قد يترك البيان في مثل تلك الحالة اعتماداً على القواعد المعلومة من الشرع، أجيب: بأنه لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بيان قاعدة عامة أو خاصة تدل على الإعادة في مثل تلك الحالة، وتغني عن البيان في ذلك الوقت. 2- حمل السعي الذي سأل عنه الرجل على السعي الذي أوقعه بعد طواف القدوم، فإنه يصدق عليه أنه وقع قبل طواف الإفاضة، فسأل الرجل عن ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاحرج ). وهذا مسلك الخطابي، وتبعه عليه البيهقي وابن الطبري وابن حجر. قال الخطابي: (( وأما قوله: (سعيت قبل أن أطوف ) فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم، قرن به السعي، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي، فأفتاه بأن لا حرج؛ لأن السعي الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزئه)) (12). وقال البيهقي: ((... فإن كان محفوظا، فكأنه سأل عن رجل سعى عقيب طواف القدوم قبل طواف الإفاضة فقال: (لا حرج). (13). وقال ابن الطبري: ((هو محمول على إرادة تقديم السعي مع طواف القدوم, ويصدق على ذلك: (سعى قبل أن يطوف) يعني: الطواف الواجب)). (14). وقال ابن حجر: ((وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك، فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طواف الإفاضة، فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف؛ أي: طواف الركن )). (15). وهذا التأويل أيضاً فيه بعد, قال المباركفوري: (( وأما تأويل الخطابي وغيره فلا يخفى ما فيه من التعسف)). (16). 3- حمل ذلك على أنه وقع أول الإسلام حين لم تستقر أفعال المناسك. قال الكاندهلوي: ( في المستصفى: كان هذا في ابتداء الإسلام، حين لم تستقر أفعال المناسك، دل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل في ذلك الوقت (سعيت قبل أن أطوف), قال: (افعل ولا حرج ) وذلك لا يجوز بالإجماع، واليوم لا يفتى بمثله)). (17) وهذا التأويل بعيد جداً، فإن صدر الحديث: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً) فهو بين في أن السؤال كان عن سعي وقع في حجة الوداع، وكانت آخر ما عمل النبي صلى الله عليه وسلم من المناسك، فإنه توفي بعدها بثلاثة أشهر. ثانياً: الترجيح: وفيه طريقان: الطريق الأول: ترجيح ما اقتضاه حديث أسامة بن شريك من جواز تقديم السعي على الطواف على ما حكي إجماعاً من اشتراط تقديم الطواف على السعي، وقد تقدم أنه قول عطاء في رواية، فقد روى ابن حزم بسنده إلى ابن جريج عن عطاء أنه قال: من بدأ بالصفا والمروة قبل البيت؟ أنه يطوف بالبيت وقد أجزأ عنه، قال ابن حزم: ((وبه يقول سفيان )) (18). وهو كما تقدم قول الأوزاعي وأحمد في رواية، واختيار ابن حزم، وبالغ في الرد على من خالفه حتى قال: ( وتفريق الشافعي بين تقديم السعي على الطواف، وبين سائر ما قدم وأخر، فأقوال لا تحفظ على أحد من أهل العلم قبل القائل بها ممن ذكرنا )) (19). وليس بخاف أنه قد قال بذلك قبل الشافعي أبو حنيفة ومالك، وتقدم ذلك. الطريق الثاني: ترجيح ما حكي إجماعاً على ما اقتضاه حديث أسامة بن شريك من جواز تقديم السعي على الطواف. وهذا المسلك هو مقتضى قول جماهير الفقهاء ممن تقدمت الإشارة إليهم, وممن تأولوا حديث أسامة بن شريك عن ظاهره, غير أن نسبة الترجيح أخص بمن ذهب إلى إعلال لفظة: (سعيت قبل أن أطوف ) ومنهم ابن القيم فقد قال: وقوله: ((سعيت قبل أن أطوف)) في هذا الحديث ليس بمحفوظ، والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض)) (20). • الراجح: الأقرب - والعلم عند الله تعالى - أن الإشكال يندفع بترجيح ما حكي إجماعاً - من عدم صحة تقدم السعي على الطواف- على حديث أسامة بن شريك، وذلك لما تقدم من ظهور شذوذ لفظة (سعيت قبل أن أطوف ), والله أعلم. ------- 1- أخرجه أبو داود في الحج، باب فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه (2/ 354 /2015 ), ومن طريقه ابن حزم في المحلى (7/120) عن عثمان بن أبي شيبة، وابن خزيمة (4/237/ 2774)، والدار القطني (2/251) عن يوسف بن قطان، والطحاوي في شرح المشكل (3/337) عن موسى بن هارون البردي... ص299من كتاب مشكل أحاديث المناسك. .... والأقرب في رواية: (سعيت قبل أن أطوف) أنها شذوذ. راجع التخريج المفصل في كتاب مشكل ما روي في تقديم السعي على الطواف ص 299. 2- الحاوي (2/ 622) 3- معالم السنن (2/433) 4- المجموع (8/62) 5- القرى ص468 6- مشكل الآثار (3 /337 - 338). 7- الموطأ(300)، شرح مشكل الآثار (3/338), الإشراف (3/294), معالم السنن (2/433), التمهيد (11/111), المغني (5/240), المجموع (8/62). 8- المغني(5/240) 9- ينظر: المصنف لابن أبي شيبة (4/333)، صحيح ابن خزيمة (4/237)، الإشراف (3/294)، شرح مشكل الاثار (3/338)، التمهيد (11/111)، المغني (5/240)، الإنصاف (4/21)، فتح الباري (3/669). وعن عطاء رواية توافق الجماهير، قال ابن أبي شيبة (4/333)، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء في رجل بدأ بالصفا والمروة قبل البيت، قال: يعيد. 10- شرح مشكل الآثار (2/433). 11- ينظر: فتح الباري (3/668). 12- معالم السنن (2/433). 13- السنن الكبرى (5/146). 14-القرى ص468. 15-الفتح (3/669) 16- مرعاة المفاتيح(531) 17- أوجز المسالك (7/462). 18- المحلى (7/120). 19-المحلى(7/121) 20- زاد المعاد (2/259)