مسألة الأخذ بأقل ما قيل
17 شعبان 1437
د. خالد العروسي

المقدمة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان، وسلّم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فهذه مسألة من مسائل الأصول المختلف فيها، وإن قُلْتَ: هي مسائل عدَّة في مسألة واحدة فما عدوت الحق، فمن لطيف هذه القاعدة أنها قد تفرعت عن أصلين - هما الإجماع والبراءة الأصلية - ثم تفرع عنها أصلان آخران وهما: الأخذ بأكثر ما قيل، والأخذ بأخف القولين.

 

ولقد بالغ الأصوليون في نسبة هذه المسألة إلى الشافعي والجمهور، فإنَّ من تتبع واستقرأ كلام المحققين فيها، وجد أنَّ في هذه النسبة على إطلاقها نظراً، فهي على خلاف ما ذكروا، قاعدةٌ يعتريها ضعف ووهن، ويحتج بها الأئمة غالباً إذا كان ثمَّة دليل أو أصل آخر يدعمها.

 

وفي هذا البحث الذي أقدمه بين يديك، تتبعت أقوال العلماء فيها، واستقرأت - ما استطعت - تحقيقات الأئمة عنها، وبيَّنت بالدليل زَيْف نسبة هذه المسألة إلى الشافعي والجمهور على إطلاقها، ودعمت ذلك بالمسائل المخرّجة على هذه القاعدة، ولو تتبعت ما سطّره الشافعي في «الأم» لوجدتَ أن المسألة الشهيرة: مسألة: دية الكتابي، قد خرّجها الإمام على أصل آخر وهو: حجية العمل بقول الخلفاء الراشدين، لا بقاعدة: الأخذ بأقل ما قيل، كما توهمه الكثير، وكما ستقف عليه في موضعه إن شاء الله.

 

وعلى ضعف هذه الدلالة إلا أنها نافعة في بعض المواضع، لا سيما إذا عضدّها الدليل، وقد نقلت عن أهل العلم الضوابط والقيود التي تصحح العمل بهذه القاعدة، مبيناً ذلك بالأمثلة والشواهد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

 

هذا والله تعالى أسأله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المبحث الأول: تعريف المسألة وبيان موضعها في كتب الأصول.

[التعريف المشهور للمسألة] تنوعت تعريفات الأصوليين للمسألة، واختلفت كذلك باختلافهم في قبول هذه الدلالة وردّها.
فأكثر الأصوليين عرّفوا هذه المسألة بالمثال، وأشهر هذه الأمثلة، خلاف العلماء في دية اليهودي: فمذهب أبي حنيفة: أنها مساوية لدية المسلم[1].
ومذهب مالك: أنها نصف دية المسلم[2].
وثمّة مذهب ثالث: أنها ثلث دية المسلم[3].
فمن استدل بهذه القاعدة التي نحن بصددها، أخذ بهذا القول الأخير، لأنه أقل ما قيل[4].

 

[تعاريف أخرى للمسألة بالمثال] ومثّل لها القاضي عبد الوهاب[5] بقوله: (وصورة هذه أن يجني رجل على سلعة، فيختلف المقومون في تقويمها، أو يجرح جراحة ليس فيها تقدير فيختلف في أرشها أرباب الخبرة في ذلك، فيأخذ الشافعي بأقل ما قيل)[6].

 

ومثّل لها ابن عقيل[7] بقوله: (وهو كما تقول: إذا أتلف رجل ثوباً على آخر، فشهد عليه شاهدان أنه يساوي عشرة دراهم، وشهد آخران أنه كان يساوي خمسة عشر درهماً، فإنه يجب على المتلف عند أصحاب الشافعي أقل الثمنين)[8].

 

وهناك أمثلة أخرى أوردها الأصوليون[9]، والجامع بينها أنهم خرَّجوا هذه القاعدة عن هذه الفروع، وهذا تنبيه أوردته في هذا الموضع، لحاجتنا إليه حين نتعرض لتحقيق مذهب الشافعي في هذه القاعدة، فكن منه على ذُكْر.

 

[من جمع بين الحدِّ والمثال] وذهب قلّة قليلة من الأصوليين إلى الجمع بين الحدّ والمثال، كما فعل أبو المظفر السمعاني[10] فقال في حدّه: (أن يختلف المختلفون في مقدّر بالاجتهاد على أقاويل، فيؤخذ بأقلها عند إعواز الدليل)[11].

 

وحدّه ابن القطان[12]: (هو أن يختلف الصحابة في تقديرٍ، فيذهب بعضهم إلى مئة مثلاً، وبعضهم إلى خمسين)[13].

 

ووهم البرماوي[14] ههنا، فظنَّ أن ابن القطان قصر الخلاف على اختلاف الصحابة[15]، وليس الأمر كذلك، بل أورده كمثال كما يفعل الأصوليون حين يمثِّلون للمسائل، فيقولون مثلاً: إذا قال بعض الصحابة قولاً، فانتشر إلى بقية الصحابة وسكتوا، في الإجماع السكوتي، أو يقولون: إذا اختلف الصحابة على قولين، فأجمع التابعون على أحدهما، وغير هذا كثير، ولم يقل أحد أن هذا خاص بإجماع الصحابة دون غيرهم، إلا على قول ضعيف.

 

[تعريف ابن حزم للمسألة] أما ابن حزم[16]، فهو ممن ردّ هذه الدلالة، وبالغ في الرد، ثم ارتضى لنفسه تعريفاً آخر (لأقل ما قيل): أنه كل حكم أوجب غرامة مال، أو عملاً بعدد، وليس ثمَّة نص يبين المقدار فوجب المصير إلى ما أجمعوا عليه من العدد، واطراح ما اختلفوا فيه، ومثّل له بالجزية في قوله تعالى: { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة: 29]، فثبت بالإجماع أن أقل الجزية دينار، أما أكثره فليس له حدٌّ يوقف عليه، وليس من حدَّ حدَّاً، بأولى ممن حدَّ حدَّاً آخر، فهذا أمر لا يمكن ضبطه، فوجب المصير إلى أقل ما قيل وهو الدينار[17].
والحق أن هذا استدلال بالإجماع الخالص، لا بأقل ما قيل.

 

[مواضع المسألة في مصنفات الأصوليين] وسطّر الأصوليون هذه المسألة في موضعين من مصنفاتهم فبعضهم يذكرها في باب الإجماع، وآخرون في باب الأدلة المختلف فيها، عقيب مسألة استصحاب الحال، وذلك لأن هذه المسألة يتنازعها أصلان هما: الإجماع، والبراءة والأصلية.

 

وأغلب الظن أن هذا الاختلاف في تسطير هذه المسألة في هذين الموضعين، يعود إلى اختلافهم إلى قوة تعلق هذه المسألة بهذين الأصلين، فمن ظن أن تعلقها بالإجماع أقوى أودعها فيه، ومن ظن أن تعلقها بالبراءة الأصلية ذكرها عقيب استصحاب الحال في باب الأدلة المختلف فيها.

 

[غلط من سوى بين هذه المسألة ومسألة الأخذ بالأخف] وهذا التفريق وإن لم أجده صريحاً في كلامهم، لكني استشففته من كلام القاضي عبد الوهاب حين قال: (وهذه المسألة تتعلق باستصحاب الحال أكثر من تعلقها بالإجماع)[18].

 

وليس بين هذه المسألة التي نحن بصددها، ومسألة الأخذ بالأخف صلة، إلا صلة الشبه، فهما مسألتان مستقلتان - كما سيأتي بيانه في المبحث الخامس - على خلاف من سوّى بينهما من الأصوليين كأبي العلي الشوشاوي[19]، في شرحه على التنقيح، فقد حمل كلام القرافي[20] حين عبّر عن هذه المسألة بقوله: (الأخذ بالأخف وهو حجة...) على أنهما سواء، فقال -أي الشوشاوي-: (بعضهم يعبر عنه بهذا، وبعضهم يعبر عنه بأقل ما قيل)[21].

 

وليس هذا مراد القرافي، بل مراده بالأخف أي بالأقل من الأقوال، وآية ذلك أنه في شرحه على المحصول عبّر عن هذه المسألة بقوله (المسألة السادسة: الأخذ بالأخف...)، ثم عقبها بذكر المسألة السابعة فقال: (الأخذ بأخف القولين..)[22]، وأشار إلى اختلاف المأخذ بين المسألتين، وكأنه نظر إلى المعنى الشامل بين المسألتين فعبّر عنها بالأخف، أما من حيث التفصيل فهناك فرق، بل فروق، والله تعالى أعلم.

 

المبحث الثاني: تأصيل المسألة ومذاهب العلماء فيها.

ذكر الأصوليون أن الشافعي أصّل هذه المسألة على قاعدتين أخريين هما: الإجماع والبراءة الأصلية[23].
ووجه الإجماع: أن الأمة أجمعت على ثلث الدية -في مسألتنا السابقة- لأن من قال بوجوب كل دية المسلم، فقد قال بالثلث قطعاً، وكذا من قال بنصف ديته، فإنه قائل بالثلث لا محالة، والقائل بالثلث قائل به، فتكون الأمة مطبقة على وجوب الثلث، وهذا الدليل لإثبات الأقل.

 

ووجه البراءة الأصلية: أن الإجماع السابق أثبت الثلث، وهو الأقل لكنه لم يدل على نفي الزائد، ونفي الزائد يحتاج إلى دليل آخر وهو البراءة الأصلية، لأنها دلت على عدم وجوب الكل، فيبقى على الأصل، وبهذا يتبيّن أن الأخذ بأقل ما قيل مركب من الإجماع ومن البراءة الأصلية.

 

وهذا إنما يتم لو لم يكن في الأمة من يقول بعدم وجوب شيء منها، أو من يقول بوجوب أقل من الثلث، فلو قدِّر ذلك لم يكن القول بوجوب الثلث قول كل الأمة، بل بعضها، فلا يكون حجة حينئذ.
وهذا قيد قال به الرازي[24] ووافقه طائفة من المحققين[25].

 

[تغليط الأصوليين من بنى هذه المسألة على الإجماع فقط] وغلّطوا -أي الأصوليين- من زعم أن الشافعي بنى هذه القاعدة على الإجماع فقط، قال القاضي أبو بكر[26]: (ونقل بعض الفقهاء عن الشافعي أنه تمسك بالإجماع، وهو خطأ عليه، ولعلَّ الناقل زلّ في كلامه)[27].

 

وأكّد هذا النفي الغزالي[28] ورمى من فعل ذلك بإساءة الظن بالشافعي. فقال: (هو سوء ظن به، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر - أي الثلث - ولا مخالفة فيه، والمختلف فيه سقوط الزيادة، ولا إجماع فيه، وحينئذٍ فليس تمسكاً بالإجماع، بل بمجموع هذين الدليلين)[29].
ووهم الأسنوي[30] حين نسب هذا الظنَّ لابن الحاجب[31]، بل كلامه صريح في رد هذا الزعم عن الشافعي[32].

 

[مذاهب العلماء في المسألة] واختلف العلماء في حجية هذه الدلالة على مذهبين يذكرهما الأصوليون: الأول: مذهب الشافعي وجمهور المتكلمين القائلين بحجية هذه الدلالة وحكى القاضي عبد الوهاب عن بعض الأصوليين إجماع أهل النظر على هذه الدلالة.

 

الثاني: مذهب ابن حزم وآخرين، فردوا هذه الدلالة مطلقاً[33].
ونسبة القول الأول على إطلاقه إلى الجمهور فيه نظر لمن تتبع كلام الأئمة، ناهيك عمن زعم إجماع أهل النظر عليه، فإن طائفة من المحققين ضعفوا هذه الدلالة -وإن لم يردوها مطلقاً- كما هو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب والقرافي وابن تيمية[34] وغيرهم[35].

 

[تحقيق مذهب الحنفية] أما الحنفية فلم يتعرضوا لهذه الدلالة في مصنفات الأصول، إلا ما سطّره المتأخرون منهم كالكمال بن الهمام[36] في (التحرير) ومحب الله بن عبد الشكور[37] في (مسلم الثبوت)، ولا يخفاك أنهما جمعا بين طريقتي الحنفية والشافعية، فذكْرُهما للمسألة كان تبعاً لما ذكره الشافعية، فالكمال بن الهمام وشارحا التحرير[38] نقلوا المسألة من غير تعليق أو بيان لمذهب الحنفية[39]، وردَّها ابن عبد الشكور كما يظهر من كلامه حين قال: (الحق أن مثل قول الشافعي - رضي الله عنه - دية اليهودي الثلث، لا يصح التمسك فيه بالإجماع، قالوا: الأمة: إما قائل بالكل أو النصف أو الثلث، قلنا: دل - أي الإجماع - على وجوب الثلث، أما عليه فقط من غير زيادة، فلا، إلا بدليل آخر.هذا خلف)[40].

 

لكني ظفرت بمسائل عن كبار فقهائهم يحتجون بهذه الدلالة، منهم الجصَّاص[41] فإنه قد احتج بهذه الدلالة على أسنان الإبل في دية الخطأ بأنها: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، على خلاف ما ذهب إليه الشافعي حيث استبدل بني المخاض ببني اللَّبون[42].

 

ولما كان بنو المخاض أقلَّ من بني اللبون، احتج الجصَّاص بهذه القاعدة فقال: (ومذهب أصحابنا أقل ما قيل فيه، فهو ثابت، وما زاد فلم تقم عليه دلالة فلا يثبت)[43].

 

واحتج بها كذلك صاحب الهداية[44] على حدِّ بلوغ الصبي رشدَه، بأنه ثماني عشرة سنة، ورجحها على أعمار أخرى بهذه القاعدة فقال: (وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به)[45].

 

[أدلة الفريق الأول] وسيأتي في المبحث السادس نقولٌ أخرى تبيِّن أن هذه القاعدة لها أصل عند المتقدمين منهم، وإن لم يذكرها أهل الأصول عنهم.

 

وقد احتج الفريق الأول بحجج على صحة هذه القاعدة، أعظمها هو أن هذه القاعدة مخرّجة عن أصلين ثابتين هما الإجماع والبراءة الأصلية حتى أن القرافي وتاج الدين السبكي[46] استشكلا أن تكون هذه القاعدة موضع خلاف، وقد قامت على أصلين متفق عليهما[47].

 

[تزييف ابن حزم وابن تيمية لهذا الدليل] ولقد زيَّف ابن حزم وابن تيمية وغيرهما دعوى الإجماع التي ظُنَّ أن المسألة بنيت عليه، فالإجماع هو الاتفاق، ولا اتفاق ههنا، فإن الذي أوجب ثلث الدية، لم يوجب النصف ولا الكل، وجعل الثلث هو تمام الدية، وكذلك من أوجب نصف الدية أو الدية كاملة، ينفي أن يكون الثلث هو تمام الدية، وفي هذا يقول ابن تيمية: (وإجماعهم على وجوب الثلث نوع من الإجماعات المركبة[48]، فإن وجوبه من لوازم القول بوجوب النصف والجميع، فالقائل بوجوب النصف يقول: إنما أوجبت النصف لدليل، فإن كان صحيحاً وجب القول به، وإن كان ضعيفاً فلست موافقاً على وجوب الثلث)[49].

 

وأشار ابن تيمية إلى مأخذ آخر لدعوى الإجماع، وهو أن هذا الإجماع لم يأت عن اجتهاد، بل جاء اتفاقاً من غير تقدير فقال: (إن إيجاب الثلث أو الربع ونحو ذلك لابد أن يكون له مستند، ولا مستند على هذا التقدير، وإنما وقع الاتفاق على وجوبه اتفاقاً فهو شبيه بالإجماع المركب، إذا أجمعوا على مسألتين مختلفتي المأخذ، وبعود الأمر إلى جواز انعقاد الإجماع بالبحث والاتفاقات وإن كان كل واحد من المجمعين ليس له مأخذ صحيح، وأشار إليه ابن حزم)[50].

 

والذي أشار إليه ابن حزم - رحمه الله - هو أن القائل بالأقل، قافٍ ما ليس له به علم، ومثبت حكم بلا برهان ولا دليل، وهذا حرام بنص القرآن وإجماع الأمة[51].

 

[وصف البناني هذا البناء من قبيل التسامح] ولهذا عدَّ البنَّاني بناء هذه المسألة على الإجماع من قبيل التسامح لضعف هذا البناء فقال: (ثم لا يخفي ما في جعل أقل المذكور مجمعاً عليه من التسامح لظهور عدم كونه مجمعاً عليه بالمعنى المصطلح عليه)[52].

 

[دليل لطيف للشيخ المطيعي في إبطال هذا البناء] وذكر الشيخ محمد بخيت المطيعي[53] دليلاً لطيفاً في إبطال هذا الاستدلال فقال: (لو دل الإجماع على إيجاب الثلث خاصة، ما ساغ للقائل بإيجاب النصف أو المثل مخالفته، وخرقه هذا الإجماع، ولو كان قول واحد منهما خارقاً للإجماع ما قبل قوله ولا وجد الخلاف)[54].

 

[تزييف ابن تيمية والمطيعي للأصل الثاني] وهذا الذي قاله هؤلاء حق، فالأقوال الثلاثة متباينة وكل واحد من المخالفين ينفي قول الآخر، فمن أين يجيء الإجماع؟! [مأخذ ذكره القاضي عبد الوهاب على هذا الاستدلال] والأصل الثاني الذي تفرعت عنه هذه المسألة، وهو البراءة الأصلية فيما زاد على الثلث أيضاً غير مسلمة إلا لمن قال بالثلث، أما من قال بالنصف وبالدية كاملة فالبراءة الأصلية غير مسلمة عنده، لذلك يقول ابن تيمية: (القائل بوجوب ثلث دية المسلم، لابد من دليل غير الإجماع وغير براءة الذمة، إذ ليس الثلث بأولى من الربع ومن الخمس، والمناظرة إنما هي مع ذلك القائل الأول، لا مع الثاني والثالث)[55].

 

[اعتراض ضعيف لابن حزم] وللمسألة مأخذ آخر يزيد من وهنها وضعفها، وهو ما ذكره القاضي عبد الوهاب، أنه فيه اطراح لاجتهاد على حساب اجتهاد آخر فقال: (والدليل على أنه لا يؤخذ بالأقل، أن الأخذ بالأقل يؤدي إلى اطراح الاجتهاد من الفريق الآخر في القيمة، والأصل ألا يطرح الاجتهاد، فليس البعض أولى من البعض، والاجتهاد دليل ظاهر في الإصابة)[56].

 

وقد طعن ابن حزم في هذه الدلالة باستحالة ضبط أقوال جميع أهل الإسلام في كل عصر، ولا سبيل إلى ذلك، وأورد مثلاً على ذلك محتجاً على الشافعية بأن ثلث الدية ليس أقل ما قيل، فقد روى عن الحسن البصري[57] أقل من الثلث[58].

 

وهذا المطعن الذي أورده ابن حزم لا يقوم على ساق صحيحة، وإلا لو جعلنا كل احتمال قادحاً في كل الدليل، لما سلم لنا دليل أصلاً، ولوجدنا من طعن في الإجماعات، لاحتمال أن تكون ثمّة أقوال لم تضبط ولم تُجمع، وهذا باطل يقيناً، فإن الأدلة يكتفى فيها بغلبة الظن، وهكذا هي أحكام الشرع، أغلبها قد بنى على غلبة الظن.

 

نعم، يُسلَّم له في هذا المثال لوقوفه -أي ابن حزم- على دليل، أما مجرد الاحتمال فلا. والله تعالى أعلم.

 

المبحث الثالث تحقيق مذهب الشافعي

وهذا المبحث هو في الحقيقة تحقيق لبقية المذاهب، لكني قيدت عنوانه بمذهب الشافعي لاعتبار؛ وهو أن هذه المسألة تُنسب إليه صراحة، وتنسب إلى الجمهور من حيث الإجمال كما مرّ بك سابقاً.

 

[غلط من خرج مسألة دية الكتابي على قاعدة الأخذ بأقل ما قيل] وأجد لزاماً أن أذكِّرك بالتنويه الذي أشرت إليه في المبحث الأول، حيث ذكرت أنْ ليس للإمام الشافعي نصٌّ صريح في هذه المسألة، بل هذه القاعدة قد خرَّجها أصحابه من المسائل الفرعية التي أفتى بها، وأشهرها مسألة دية الكتابي.

 

ولكنك إذا رجعت إلى كتابه (الأم) وجدت أن الإمام استدل على أن دية الكتابي هي ثلث دية المسلم لما صح عنده من قضاء عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، وضعَّف طرق الآثار التي دلت على قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من الثلث واستمع إلى ما يقوله الإمام الشافعي: (وأمر الله في المعاهد يُقتل خطأً بدية مسلَّمة إلى أهله[59]، ودلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقتل مؤمن بكافر[60]، مع ما فرّق الله عز وجل بين المؤمنين والكافرين فلم يجز أن يحكم على قاتل الكافر إلا بدية، ولا أن ينقص منها إلا بخبر لازم، قضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وقضى عمر في دية المجوسي بثمان مئة درهم، وذلك ثلثا عشر دية المسلم، لأنه كان يقول: تقوم الدية اثنى عشر ألف درهم[61]، ولم نعلم أحداً قال في دياتهم أقل من هذا، وقد قيل إن دياتهم أكثر من هذا، فألزمنا كل واحد من هؤلاء الأقل مما اجتمع عليه)[62].

 

[توجيه كلام الشافعي] وقد يظن ظانٌّ أن قول الشافعي: (ولم نعلم أحداً قال في دياتهم أقل من هذا) هو استدلال بهذه القاعدة، وليس الأمر كذلك، فسياق الكلام يدل على أنه يخبر أن ليس ثمّة رواية أخرى عن الصحابة في أقل من الثلث، كما أخبر بصيغة التمريض أنه قد روى في دياتهم أكثر من هذا حين قال: (وقد قيل: إن دياتهم أكثر من هذا) لذلك كانت الرواية التي قالت بالثلث هي التي اجتمع عليها الصحابة.

 

[ظاهر كلام الشافعي أنه خرّج هذه المسألة على أصل آخر] وقد بيّن الشافعي في موضع آخر علّة رده ما ورد عن الصحابة من جعلهم دية الكتابي على النصف أو الكمال من دية المسلم، وذلك في سياق مناظرة مع مخالفٍ فقال: (قال - أي المخالف - فقد رُوِّينا عن الزهري[63] أن دية المعاهد كانت في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم دية مسلم تامة، حتى جعل معاوية[64] نصف الدية في بيت المال[65]، قلنا: أفتقبل عن الزهري مرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر أو عن عمر أو عن عثمان فنحتج عليك بمرسله؟ قال: ما يُقبل المرسل من أحد، وإن الزهري لقبيح المرسل[66].

 

قلنا: وإذا أبيت أن تقبل المرسل، فكان هذا مرسلاً، وكان الزهري قبيح المرسل عندك، أليس قد رددته من وجهين؟ قال: فهل من شيء يدل على خلاف حديث الزهري فيه؟ قلنا: نعم، إن كنت صححته عن الزهري، ولكنا لا نعرفه عن الزهري كما تقول. قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا الفضيل بن عياض[67] عن منصور بن المعتمر[68] عن ثابت الحدَّاد[69] عن ابن المسيَّب[70] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف، وفي دية المجوسي بثمان مئة درهم[71][72].

 

[سوق الشافعي لطرق الأثر ليدلل على ضعف بقية الطرق] ثم ساق الشافعي طرقاً لهذا الأثر أخرى، منها عن عثمان رضي الله تعالى عنه، وردّ على من قال بأن هذا الأثر منقطع[73]، حتى وصل - في مناظرته - إلى ما نحن بصدده من الشاهد فقال: (قال - أي المخالف - فلِمَ قال أصحابك نصف دية المسلم، قلت: رُوِّينا عن عمرو بن شعيب[74] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل مسلم بكافر، وديته نصف دية المسلم)[75]، قال: فلِمَ لا تأخذ به أنت؟ قلت: لو كان ممن يثبت حديثه لأخذنا به، وما كان في أحد مع رسول الله r حجة، قال: فعندهم فيه رواية غير ذلك؟ قلت له: نعم، شيء يروونه عن عمر بن عبد العزيز[76][77]، قال هذا أمر ضعيف، قلنا: فقد تركناه)[78].

 

هذا كلام الشافعي بنصِّه، فمن أين يجيء القول بأنه قد احتج بمسألة أقل ما قيل؟! وقد عُلِم أن من شرط هذه المسألة أن تتعدد الاجتهادات في المسألة فيؤخذ بالأقل من الأقوال، ولكن بيِّنٌ جداً أن الإمام الشافعي سلك سبيل الموازنة بين الروايات، فلم يصح عنده إلا ما ورد عن عمر وعثمان رضي الله عنهما من القضاء بالثلث، وقد عُلم كذلك أن من أصل الإمام الشافعي الاحتجاج بقول الخلفاء الأربعة، إذا لم يكن هناك نص من كتاب أو سنة[79].

 

[مدرك آخر ذكره ابن القطان] وقد ذكر ابن القطان مدركاً آخر لمسألة دية الكتابي، فقال: (وأما ما قالوه في دية اليهودي، فإن الشافعي - رحمه الله - تعالى سلك فيه غير هذا الطريق - يعني طريق الأخذ بأقل ما قيل - وهو أنه قال: قد دلّ على أن لا مساواة بقوله تعالى: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً، لا يستوون } [السجدة: 18]، فإذا بطلت المساواة فليس للناس إلا قولان، فإذا بطل أحدهما صح الآخر)[80] وقل مثل ذلك في المسائل الفرعية التي ظُنَّ أن الشافعي خرَّجها على قاعدة الأخذ بأقل ما قيل، كمسألة الدية هل هي أخماس أم أرباع؟، فقيل: إن الشافعي أخذ برواية الأخماس لأنها أقل ما قيل.

 

أو مسألة: فيما إذا سرق رجل متاعاً لرجل، فشهد شاهد بألف دينار، وآخر بخمسة آلاف، فحكم بها الشافعي بالأقل[81].

 

وليس إلحاق هذه المسائل الفرعية بقاعدة الأخذ بأقل ما قيل، بأولى من إلحاقها بأصول أخرى لذلك قال ابن القطان: (وأما جعله الدية أخماساً فبدليل، لا لأنه أقل ما قيل.

 

وأما مسألة الشهادة فإنما حكم فيها بالأقل؛ لأنه ثبت ذلك بشاهدين، وانفراد الآخر ليس بحجة، وهذا لا خلاف فيه)[82].

 

[كلام لابن تيمية يبين أن هذه المسألة مخرجة على أصل آخر عند الحنابلة في قول] والمقصود أن هذه المسائل الفرعية يتنازعها أكثر من أصل، فالجزم بأنها ملحقة بقاعدة الأخذ بأقل ما قيل تحكّمٌ، لا دليل عليه ولا برهان.

 

وهذا ما أشار إليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية مستدركاً ما أطلقه كلام جدِّه المجد ابن تيمية[83] من جواز الأخذ بأقل ما قيل، وبيّن أن في المذهب اختلافاً، فقال: (إذا اختلفت البينتان في قيمة المتلف فهل يوجب الأقل أو يسقطهما؟ فيه روايتان، وكذلك لو اختلف شاهدان[84]، فهذا يبيِّن أن في إيجاب الأقل بهذا المسلك - يعني بالأخذ بأقل ما قيل - اختلافاً، وهو متوجه، فإن إيجاب الثلث أو الربع ونحو ذلك لابُدَّ أن يكون له مستند، ولا مستند على هذا التقدير)[85].

 

[تخريج القاضي عبد الوهاب للمسألة عند المالكية] وهذا الذي قاله ابن تيمية لبيان مذهب الإمام أحمد، قاله قبله القاضي عبد الوهاب لتفصيل مذهب الإمام مالك في المسألة، وبيّن أيضاً وقوع الخلاف في الأخذ بأقل ما قيل، فقال: (ومذهبنا التفصيل في هذه المسألة، فتارة يأخذ بالأقل، وتارة لا يأخذ به.

 

فقال أصحابنا: إذا أوصى له بمئة وخمسين في كتابٍ واحدٍ بوصيتين. فقيل: يعطى الأكثر، وقيل: نصف كل واحدٍ منهما، وعلى قول أشهب[86]: يعطى الأقل)[87].

 

وأغلب الظن أن القاضي عبد الوهاب قصد بقوله: يؤخذ بالأقل تارة، ولا يؤخذ به تارة أخرى، بحسب ما يعضِّد هذه الدلالة من دليل خارجي أو قياس كما هو المختار، ثم أورد مسائل فرعية أخرى تتخرّج على الأقوال الثلاثة المتقدمة، لذا قال القرافي بعد أن نقل هذا الكلام ومستدركاً أيضاً على الرازي، حين جعل هذه القاعدة مخرَّجة على قاعدة الإجماع فقال: (وهذه المُثُل، والمباحث توضح المسألة، وتعين مدركاً يمكن وقوع الخلاف فيه، لأن المقوِّمين للسلعة ليسوا كل الأمة حتى يكون متفقاً على كونه مدركاً، بخلاف ما في (المحصول)، لا يتصور أن يكون مختلفاً فيه، كما تقدم السؤال)[88].

 

ويعنى بالسؤال، الإشكال الذي مرّ ذكره: كيف تكون هذه المسألة موضع خلاف، وهي مبنية على أصلين متفق عليهما بين أهل العلم؟ [نقول عن الشافعية تضعف هذه القاعدة] وحُقَّ لمعترضٍ أن يورد سؤالاً في هذا الموضع تقريره: الناقلون لهذه المسألة عن الشافعي هم محققوا المذهب، ومن كبار الشافعية رتبة ومقاماً كابن المنذر[89] وأبي إسحاق الشيرازي[90][91]، فهلاَّ أيدت ما ذهبت إليه بنقولٍ عن الشافعية أنفسهم، فكلام القاضي عبد الوهاب والقرافي وابن تيمية - على جلالتهم - لا يلزم الشافعية في شيء؟ والجواب: نعم، فمن الشافعية من لـمَّح أو صرّح بضعف هذه الدلالة منهم: ابن القطان، فقد تحاشى أن ينسب هذه المسألة إلى الشافعي نفسه كما فعل غيره، بل جعل الخلاف فيها بين أصحابه، وذكر قولاً عند الشافعية أن هذه القاعدة لا معنى لها إذا لم يكن لها دليل آخر يعضدها[92].

 

وكذلك فعل أبو المظفر السمعاني، فنسب هذه المسألة إلى بعض أصحاب الشافعي، لا إلى الشافعي نفسه فقال: (فصْلٌ، وقد ذكر بعض أصحابنا في الحكم بأقل ما قيل) [93] وبعد أن ساق الكلام فيها، ختم هذا الفصل بما يفيد ضعف هذه الدلالة فقال: (ولست أرى في هذه الكلمات كثير معنى، لكني نقلت على ذُكْرٍ)[94] وقد ذكر محقِّقُ الكتاب في الهامش[95]، أنه قد وردت زيادة في بعض النسخ: (والوجوه ضعيفة)[96]، وهذه الزيادة أثبتها تاج الدين السبكي حين نقل كلام السمعاني في كتابه: (رفع الحاجب)[97]. وإمام الحرمين[98]، وهو لسان المذهب[99]، أعرض عن ذكر هذه الدلالة في كتابه (البرهان)، وما أراه فعل ذلك إلا لضعف هذه الدلالة عنده، أو أنها غير معتبرة فيما يراه.

 

ومن المتأخرين، الشوكاني[100]، وجعل فرْض المسألة، الاعتبار بما يؤدي إليه نظره واجتهاده، لا باعتبار القلة والكثرة، فقال: (ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير، إن كان باعتبار الأدلة، ففرض المجتهد بما صح له منها، مع الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح إن لم يمكن، وقد تقرّر أن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح الواقعة، غير مافيه للمزيد، مقولة يتعين الأخذ بها، والمصير إلى مدلولها وإن كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب، فلا اعتبار عند الجمهور بمذاهب الناس، بل هو متعبد باجتهاده، وما يؤدي إليه نظره من الأخذ بالأقل، أو الأكثر، أو بالوسط)[101].

 

[ضعف هذه القاعدة لا يعني اطراحها] ولا نعني بضعف الدلالة اطراحها مطلقاً، فلابد وأن يكون لها أصل مع نقل كل هؤلاء الأئمة لها، لكن المقصود أنها لا تستقل بالدلالة ما لم يكن هناك ما يعضدها من دليل أو قياس، أو أن يُرجَّح بها العمل، لكون الأقل متيقناً، وهذا الذي لمّح إليه ابن تيمية كما مرّ بك سابقاً حين قال: (لأن القائل بوجوب ثلث دية المسلم لابد له من دليل غير الإجماع وغير براءة الذمة)[102] وهو المقصود - فيما ظهر لي - من قول القاضي عبد الوهاب حين قال: إنه يؤخذ بالدلالة تارة وتترك تارة أخرى.

 

وصرّح بها تصريحاً لا لُبْس فيه ابن القطان حين نقل عن بعض الشافعية قولهم: (هذا قول حسن إذا كان عليه دلالة فإن لم يكن معه دلالة فلا معنى له، لأنه ليس لأحد أن يقول بغير حجة إلا وللآخر أن يقول بما هو أقل منه، أو أكثر بغير حجة، وذلك أن القائلين أجمعوا على هذا المقدار واختلفوا فيما سواه، فأخذوا بما أجمعوا عليه، وتُرك ما اختلفوا فيه، فيلزمه أن يقف في الزيادة ولا يقطع على أنه لا شيء فيه لجواز أن يكون فيه دلالة)[103].

 

وهو الذي ظهر لي كذلك من استدلال الحافظ البيهقي[104] رحمه الله فقد استدل بها معضداً إياها بقول الصحابي، وذلك في مسألة أسنان الإبل في دية القتل الخطأ، مستدركاً على الشافعي الذي جعل في الخطأ: عشرين حِقّة، وعشرين جذعة، وعشرين بنات لبون، وعشرين بني لبون، وعشرين بنات مخاض[105]، وقد جاء عن ابن مسعود[106] رضي الله عنه قوله: (في الخطأ أخماساً: عشرون حِقَّة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض) [107]، وذلك بجعل عشرين بني مخاض بدلاً من عشرين بني لبون، وبنو المخاض أقل من بني اللبون، يقول البيهقي: (ومذهب عبد الله مشهور في بني المخاض، وقد اختار أبو بكر بن المنذر في هذا مذهبه، واحتج بأن الشافعي - رحمه الله - إنما صار إلى قول أهل المدينة في دية الخطأ، لأن الناس قد اختلفوا فيها، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وردت مطلقة، بمئة من الإبل غير مفسرة[108]، واسم الإبل يتناول الصغار والكبار فألزم القاتل أقل ما قالوا إنه يلزمه، فكان عنده قول أهل المدينة أقل ما قيل فيها، وكأنه لم يبلغه قول عبد الله بن مسعود، فوجدنا قول عبد الله أقل ما قيل فيها، لأن بني المخاض أقل من بني اللبون، واسم الإبل يتناوله، فكان هو الواجب دون ما زاد عليه، وهو قول صحابي فهو أولى من غيره، وبالله التوفيق)[109].

 

[تحقيق للشيخ المطيعي تؤيد ما ذهب إليه بعض الشافعية] والشاهد أن البيهقي احتج بهذه الدلالة مع قول الصحابي، وإلا لم يكن لذكر أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه معنى.

 

ومن المتأخرين من صرّح بذلك، وهو الشيخ المطيعي - رحمه الله - فبعد أن بيَّن فساد كونها دلالة مستقلة قال: (والحق أنه ترجيح للعمل لِكون الأقل متيقناً، لا أنه استدلال، فهو كالأخذ بالأصل في تعارض الأشباه، فإنه عند تعارضها يُعمل بما وافق الأصل فهو مرجح كما قال الحنفية في سؤر الحمار[110])[111].

 

وهذا التوسط هو أعدل الأقوال وأقومها، أما نسبة هذه المسألة إلى هذا الإمام مطلقاً ففيه غضٌّ وتنقص منه رحمه الله، والعجب من بعض الشافعية - كما مرّ بك سابقاً - حين جعلوا القائل بأن الشافعي قد خرّج هذه القاعدة من الإجماع فقط دون البراءة الأصلية مسيئاً لهذا الإمام، مع أن القول بأنه خرَّجها من الإجماع المركَّب الهشِّ أعظم إساءة وأكبر، وخير ما أختم به هذا المبحث كلمة أعجبتني للشيخ المطيعي قال فيها: (وأما القول بأن الإمام الشافعي - وحاشاه - أخذ بذلك مستدلاً بأنه الأقل بالإجماع والبراءة الأصلية، كما يقوله المصنف[112] والإسنوي، فهو قول فاسد لا يليق أن ينسب إلى مثل هذا الإمام الجليل رضي الله عنه)[113].

 

المبحث الرابع: ضوابط المسألة وتحرير موضع النزاع.

ليس ثمّة نزاع بين أهل العلم في مسألة قام الدليل عليها، أنه يجب النزول على الدليل، إذْ ليس لأحدٍ أن يقدم قوله على قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تفرع عنهما من إجماع أو قياس.

 

إنما وقع الخلاف في مسألة قال قوم فيها بمقدار، وقال آخرون بمقدار آخر، لذا كانت هذه المسألة تجري فيما كان سبيله الاجتهاد، كالنفقات والأروش والديات وبعض الزكوات[114].

 

[تقسيم السمعاني للمسألة] ولأبي المظفر السمعاني تفصيل حسن للمسألة، حين قسمها قسمين: الأول: ما كان الأصل فيه براءة الذمة، وهو أيضاً على ضربين: أ - أن يكون الخلاف في تعلّق الحق بالذمة أو سقوطه، فالأولى ههنا أن يقال: سقوطه أولى من وجوبه، لموافقته الأصل وهو براءة الذمة، ما لم يقم دليل على شغلها، فننزل على الدليل.

 

ب - أن يكون الاختلاف في المقدار، بعد أن يتم الاتفاق على تعلقها بالذمة ووجوبها، ومثالها المشهور: دية الكتابي، فإن وجوب الدية أمر قد اتفق عليه، لكن الخلاف وقع في المقدار، وهي المسألة التي نحن بصددها، وقد مضى ذكر أقوال العلماء فيها.

 

[لِمَ لم يأخذ الشافعي بأقل ما قيل في عدد الجمعة؟] الثاني: ما كان الأصل فيه ثابتاً في الذمة، ثم يقع الخلاف في مقداره أو عدده، كالجمعة، ففرضها ثابت، إنما وقع الخلاف بين العلماء في عدد انعقاده، فهذا الضرب لا تجري فيه مسألة: الأخذ بأقل ما قيل، فلا يقال ههنا: الأخذ بأقل الأعداد هو المتعيّن، لأن الذمة مرتهنة بها، والذمة لا تبرأ بمجرد الشك[115].

 

لذا غلّط الشافعية من سوى بين القسمين، فأورد اعتراضاً عليهم لِمَ لم يأخذ الشافعي بأقل ما قيل في العدد الذي تنعقد به الجمعة، فقال بالأربعين، مع وجود أقوال قالت: إنها تنعقد بثلاثة، واثنى عشر[116]؟ وقد أجاب التاج السبكي على هذا السؤال بقوله: (وأنا أقول الأخذ بالأقل عبارة عن الأخذ بالمتحقق، وطرح المشكوك فيما أصله البراءة، والأخذ بما لم يخرج عن العهدة بيقين فيما أصله اشتغال الذمة، هذا حقيقته فافهمه... وقد وهم بعض الضعفة فأورد عدد الجمعة سؤالاً على الشافعيين، ولم يعلم أن الأخذ بالأكثر بمنزلة الأخذ في دية اليهودي بالأقل).

 

والتاج يقصد بقوله: الأخذ بالأكثر بمنزلة الأخذ بالأقل، أي في كونه أخذاً بالمتحقق، وطرحاً للمشكوك فيه، وإلا فبين المسألتين فرق، وسيأتي مزيد بيان - إن شاء الله - حين نتعرض لمسألة الأخذ بالأكثر، في المبحث التالي.

 

[ضوابط العمل بهذه القاعدة] وقد وضع الأصوليون ضوابط وشروطاً للعمل بهذه القاعدة وهي: أولاً: وهو القيد المذكور آنفاً عن الرازي، ثم نقله عنه بقية الأصوليين موافقين، وهو أن لا يكون أحدٌ قال بعدم وجوب شيء في مسألة دية الكتابي، لأنه حينئذ لا يكون القول بالثلث أقل الواجب، بل لا يكون هناك شيء هو الأقل[117].
وعلّلوا ذلك بقولهم: إن القائلين بالثلث حينئذ لا يكونون كل الأمة، وهو قول بان لك ضعفه فيما مضى.

 

الثاني: إذا تعددت الأقوال والاجتهادات في مسألة، وكان القائلون بالأقل لهم مستند من دليل، ثم أخذ به الشافعي، لا يقال بأن هذا أخذ بأقل ما قيل، بل هو أخذ بدليل القائلين بأقل القليل.

 

وهذا قيد حسن، لهذا ضربت صفحاً عن ذكر تعريف القفال الشاشي[118] حين تعرضت لتعريف الأصوليين للمسألة في المبحث الأول، حيث عرّفه القفال بقوله: (هو أن يرد الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً المجمل، ويحتاج إلى تحديده، فيصار إلى أقل ما يؤخذ كما قاله الشافعي في أقل الجزية بأنه دينار، لأن الدليل قام أنه لابد من توقيت، فصار إلى أقل ما حكى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الجزية[119]) [120]، فسبيل هذا الذي ذكره الشاشي هو الموازنة بين هذه النصوص وترجيح الأصح بينها، والشافعي حين قال بالدينار، لكونه ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لا لكونه أقل ما قيل[121].

 

الثالث: أن يكون الأقل جزءاً من الأكثر، وهذا شرط ذكره الإسنوي[122]، وضرب له مثلاً الزركشي[123] بما إذا قال قائل في دية الكتابي بفرس، فإن هذا القائل لا يكون موافقاً على وجوب الثلث وإن نقص ذلك عن قيمة الفرس، والقائل بالثلث لا يقول بالفرس وإن نقصت قيمتها عن ثلث الدية، فلا يكون هناك شيء هو أقل[124].

 

الرابع: أن لا يوجد دليل يدل على ما هو زائد، فيجب حينئذ النزول على الدليل وترك العمل بهذه القاعدة، ومثاله ما احتج به ابن القيم[125]، رحمه الله تعالى، بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (دية المعاهد نصف دية الحر) على أن دية الذمي هي على النصف من دية الحر، فقدَّم هذا الحديث لصحته على القاعدة المذكورة، فقال: (أما المأخذ الأول - وهو الأخذ بأقل ما قيل، فالشافعي كثيراً ما يعتمده، لأنه هو المجمع عليه، لكن إنما يكون دليلاً عند انتفاء ما هو أولى منه، وهنا النص أولى بالاتباع)[126].

 

ومثّله الشافعية بمسألة ولوغ الكلب في الإناء، فإن الشافعي لم يقل بالأقل ههنا وهو ثلاث غسلات، بل سبعاً لقيام الدليل عليه[127]. والله تعالى أعلم.

 

المبحث الخامس المسائل الأصلية المفرّعة عن هذه القاعدة وهما مسألتان جاءتا مع المسألة التي نحن بصددها في قَرَنٍ واحد وهما: المسألة الأولى: الأخذ بأكثر ما قيل: ومثالها هو نفس المثال السابق في دية اليهودي، فمن قال بهذه القاعدة زعم أن دية اليهودي هي الدية كاملة، لأنه أكثر ما قيل.

 

ونسب هذا المذهبَ ابنُ حزم لبعض العلماء[128]، وردّه أكثر القائلين بأقل ما قيل[129].

 

وهذا الردُّ عجيب، فإذا كان مبنى مسألة الأخذ بأقل ما قيل كما ذهبوا إليه من أنه عبارة عن الأخذ بالمتحقق - وهو ثلث الدية - وطرح المشكوك فيه، فإن الأخذ بالأكثر - ولا ريب - أخذ بالأحوط في خلاص الذمة، بل لا يحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم.

 

وقد أجاب الرازي والبيضاوي وغيرهما[130]، عن هذا بجواب ضعيف وهو أن الزائد لم يثبت عليه دليل، والمتيقن هو شغل الذمة بالثلث، فما زاد عليه، أصله البراءة فلا تشغل إلا بدليل سمعي.

 

[تحقيق للسبكي سوى فيه بين الأخذ بالأكثر والأخذ بالأقل] ووجه ضعفه أنه قد بنى على افتراضٍ، وهو أن الثلث قد ثبت بالإجماع، وهو باطل، بل الثلث ثبت بدليل المجتهد، وكذلك النصف، وكذلك الدية كاملة، فالقول بأحدهم ليس بأولى من الآخر.

 

ولم أر أحداً حام حول هذا الإشكال سوى تاج الدين السبكي، فرأى أن من لوازم القول بأقل ما قيل، القول بأكثر ما قيل، مع اختلاف مأخذهما، وقد ذكر ذلك في سياق تحقيق جيد مهّده بذكر تقسيم أبي المظفر السمعاني للمسألة - وقد سبق ذكرهما - فإنه جعل الأخذ بأكثر ما قيل من الضرب الثاني، وهو ما كان أصله ثابتاً في الذمّة، كالجمعة، واختلف العلماء في عدد انعقادها، فلا يكون الأخذ بالأقل ههنا دليلاً، وذلك لارتهان الذمّة بها، فلا تبرأ بالشك، فخرَّج قولاً للشافعي أن الأخذ بالأكثر ههنا هو المتعين، لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعاً، وبالأقل خلافاً، لذلك جعلها الشافعي منعقدة بالأربعين[131].

 

ثم قال السبكي: (وأنا أقول: الأخذ بالأقل عبارة عن الأخذ بالمتحقق، وطرح المشكوك فيما أصله البراءة، والأخذ بما لم يخرج عن العهدة بيقين فيما أصله اشتغال الذمة، هذا حقيقته فافهمه، ولذلك جعل الأخذ بالأكثر - يعني السمعاني - في الضرب الثاني، وهو ما أصله شغل الذمة، بمنزلة الأخذ بالأقل في الأول، وقد وهم بعض الضعفة فأورد عدد الجمعة سؤالاً على الشافعيين، ولم يعلم أن الأخذ بالأكثر - أي في عدد الجمعة - بمنزلة الأخذ بالأقل في دية اليهودي)[132].

 

ولما كان هذا التقسيم الذي أورده السمعاني، يرد عليه سؤال وهو أن شغل الذمة بصلاة الجمعة متحقق، وشغلها بدية اليهودي بعد الجناية كذلك متحقق، وبراءتها بعد الأربعين متحققة، وبمقدار دية المسلم كذلك متحققة، والخروج عن العهدة بالأقل من دية المسلم بمنزلة الخروج بالأقل من عدد الأربعين، فأين الفرق حتى يتجه هذا الانقسام؟ فأجاب السبكي بجواب حاصله: أن المركب من أجزاء على قسمين: الأول: أن يكون بعضها مرتبطاً ببعض، فلا يعتد به إلا مع صاحبه، كصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار، فكل يوم لا يعتد به إلا مع انضمامه إلى صواحبه على الوجه المعتبر عند الفقهاء، ومثاله الجمعة فإن أبعاض عددها يتعلق ببعض، فمن صلاها في ثلاثة لم يخرج عن العهدة بيقين، ولم يأت بما أسقط عنه شيئاً.

 

الثاني: أن لا يرتبط، كمن وجب عليه لزيد عشرون درهماً، يؤديها كل يوم درهماً، ومثاله أيضاً: المسألة التي نحن بصددها، وهي دية اليهودي، فإن أبعاض الدية من حيث هي لا تعلق لبعضها ببعض، فمن وجب عليه مئة من الإبل وجب كل واحد منها من غير تعلق لصاحبه فإذا أخرج ثلثها برئ منه قطعاً، وبقي ما وراءه، والأصل عدمه، فلم يوجبه جرياً على الأصل.

 

وعلى هذا فنكون قد أخذنا بالأصل في الموضعين، وهما في الحقيقة شيء واحد، وحاصله إيجاب الاحتياط فيما أصله الوجوب دون غيره[133].

 

وهذا التحقيق - على حسنه - فيه تكلَّف لا يخفى، فالتقسيم الذي ذكره السمعاني قد شفعه بما يوحي بأنه غير مرضٍ، حين قال: (إن هذا كله كلام بعض أصحابنا، وأنه ليس فيه كبير معنى) وما ورد في بعض النسخ قوله: (والوجوه ضعيفة)[134].

 

[كلام الأئمة يقتضي العمل بهذه القاعدة في أحوال] وما أغنانا عن هذا كله إذا حملنا هذه المسألة على سابقتها فيقال: إن هذه القاعدة يُعمل بها إذا كان عليه دلالة، أو إذا وافق أصلاً من الأصول كما مرّ بك سابقاً، فهي ليست قاعدة مطرّدة، بل يعمل بها تارة، وتترك تارة أخرى، حسب الدليل والمأخذ.

 

وقد وقفت على مسائل فرعية للشافعي وغيره، تؤيد هذا المختار، فقد نسب الغزالي في (الوسيط) للشافعي العمل بهذه القاعدة حين استأنس بأدلة أخرى وذلك حين تعرض إلى مسألة العدد في الجمعة وأنه مشروط بحضور أربعين فقال: (ومستند العدد أن المقصود الاجتماع، ولم ينقل في التقدير خبر، والأربعون أكثر ما قيل، وقال جابر بن عبد الله[135]: (مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعه)[136]، فاستأنس الشافعي به، وبمذهب عمر بن عبد العزيز[137] وبالاحتياط)[138]، وقصد بالاحتياط الأخذ بأكثر ما قيل.

 

ورجح بهذه القاعدة « صاحب الهداية » مقدار المال الذي يجب فيه القطع في السرقة، وذلك لموافقتها أصلاً آخر وهو درء الحدود بالشبهات، فنقل خلاف أهل العلم في تقدير المال، بين قائل بأنه ربع دينار، وقائل بأنه ثلاثة دراهم، والمذهب وهو عشرة دراهم، فقال: (والتقدير بعشرة دراهم مذهبنا، وعند الشافعي التقدير بربع دينار[139]، وعند مالك رحمه الله تعالى بثلاثة دراهم[140] لهما أن القطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن[141]، وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم[142]، والأخذ بالأقل المتيقن به أولى) ثم قال: (ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالاً لدرء الحد، وهذا لأن في الأقل شبهة عدم الجناية وهي دارئة للحد)[143].

 

وبيّنٌ أن صاحب الهداية استعاض عن قاعدة الأخذ بأقل ما قيل، بقاعدة الأخذ بأكثر ما قيل، لما كانت موافقة لأصل درء الحدود بالشبهات.

 

ولهذا أيضاً استدرك ابن مفلح[144] رحمه الله على الشيخ ابن تيمية حين خرّج على المذهب قولاً بمنع مسألة الأخذ بأقل ما قيل، فيما إذا اختلفت البينتان في قيمة المتلف، فنقل روايتين: الأخذ بأقل ما قيل، والأخرى بإسقاط البينتين، فخرّج ابن مفلح قولاً ثالثاً هو الأخذ بأكثر ما قيل[145]، وكأنه يشير إلى أن الأخذ بالأكثر يؤخذ به أحياناً على حسب المرجح والدليل.

 

وهذا التوجيه المذكور هو أولى من التفصيل الذي نقله السمعاني - وضعفه -، وأقل تكلفاً من التحقيق الذي ذكره السبكي، فهما مسألتان متشابهتان، وكل ما قيل في مسألة الأخذ بأقل ما قيل من اعتراضات وردود يقال ههنا من غير فرق. والله تعالى أعلم.

 

[مسألة الأخذ بأخف القولين] المسألة الثانية: الأخذ بأخف القولين.
وصورة المسألة: أنه إذا قام الدليل على وجوب شيء يتحقق بوجهين، أخف وأثقل، ولم يقم دليل على خصوص أحدهما، وتعارضت فيه مذاهب العلماء، هل يؤخذ بالأخف أو الأثقل، أو لا يجب شيء منهما[146]؟!.

 

في المسألة أقوال: 1 - مذهب من قال: إنه يؤخذ بالأخف منها، لقوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185]، وقوله تعالى: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78] وقوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)[147]، وحاصل هذا المذهب، يرجع إلى مذهب من يقول بالأخذ بأقل ما قيل.

 

2 - مذهب من يقول: إنه يؤخذ بالأثقل منها، لأنه أحوط للدين وأكثر ثواباً، وصاحب هذا المذهب أرجع هذه المسألة إلى مسألة الأخذ بأكثر ما قيل.

 

3 - مذهب من يقول: إنه لا يجب شيء منها، لأن الأصل عدم الوجوب ولا يجب شيء إلا بدليل، ولا دليل ههنا.

 

والحق أن هذه المسألة ليست لها صلة بمسألتنا، لا في صَدْرٍ ولا ورْدٍ، ولولا أن الرازي قد نسب هذا التأصيل لقوم - لم يسمهم - لما ذكرتها في هذا المبحث، ولهذا أعرض كثير من الأصوليين عن ذكرها عقيب مسألة الأخذ بأقل ما قيل، ومن ذكرها - كالرازي والزركشي - نبّه على ضعف هذا التأصيل[148].

 

[وجه بطلان من أصَّل هذه المسألة على مسألة الأخذ بأقل ما قيل].
ووجه الضعف أن مسألة الأخذ بأقل ما قيل لابد وأن يكون الأقل جزءاً من الأكثر، كما في دية اليهودي، فإن الثلث جزء من النصف ومن الكل، لذا كان القائل بالكل والنصف، قائل بالثلث.

 

أما هذه المسألة فإنها مختلفة المأخذ، متنوعة الاحتمالات، لذلك أرجعها الأصوليون إلى أصل آخر، وهو: «أن الأصل في الملاذ الإباحة وفي الآلام التحريم»، أو إن شئت أن ترجعها إلى أصل آخر وهو: «جواز الترخص بأقوال العلماء».

 

وفي الجملة إن الذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله، من غير نظر إلى كونه خفيفاً أو ثقيلاً، وإذا تعارضت يلجأ إلى المرجحات، على ما عرف في أصول الفقه.

 

المبحث السادس المسائل الفرعية المخرّجة على هذا الأصل [احتجاج الإمام الشافعي بالقاعدة إذا اختلفت الشهادتان] وأحسب أني قد ذكرت شيئاً من المسائل في ثنايا الكلام في المباحث الماضية، لكني آثرت أن أفرد للبعض الآخر - مما وقفت عليه - مبحثاً مستقلاً يبيّن هذه القاعدة ويجلّيها، فإن الكتب التي عنيت بالتخريج قد أهملت - فيما أعلم - ذكر شيء من هذه الفروع، وهاك بعضاً منها:

1 - احتج الشافعي رحمه الله في (الأم) بهذه القاعدة في تقدير ثمن الثوب المسروق، إذا اختلفت الشهادتان، فيؤخذ بالأقل منها درءاً للحد فقال: (وإذا سرق السارق السرقة فشهد عليه أربعة، فشهد اثنان أنه ثوب كذا وقيمته كذا، وشهد آخران أنه ذلك الثوب بعينه وقيمته كذا، فكانت إحدى الشهادتين يجب فيها القطع والأخرى لا يجب، فلا قطع عليه من قبل أنا ندرأ الحدود بالشبهة، وهذا أقوى ما يدرأ به الحد ونأخذه بالأقل من القيمتين في الغرم لصاحب السرقة)[149].

 

2 - احتج بها كذلك الشافعية في مسألة خرص العنب والرطب[150] اللذين تجب فيهما الزكاة، فإذا اختلف الخارصان في المقدار، ففيه وجهان: أحدهما: يؤخذ بالأقل لأنه اليقين.
الثاني: يخرصه ثالث ويؤخذ بمن هو أقرب إلى خرصه منهما[151].

 

3 - ومن آثار هذه القاعدة أيضاً ما احتج به السرخسي[152] فيما إذا اختلفت الشهادة في مبلغ الإجارة فقال: (إن أقام المؤاجر شاهدين أحدهما بدرهم والآخر بدرهم ونصف، فإنه يقضى له بدرهم لأنهما اجتمعا على الدرهم لفظاً ومعنى، والمقصود إثبات المال لأن العقد منتهي، فيقضي بما اتفق عليه الشاهدان، وهذا يؤيد قول من يقول في مسألة أول الباب أنه يقضى بالأقل عندهما)[153]، ويقصد عند أبي يوسف[154] ومحمد بن الحسن[155]، والمسألة التي أشار إليها السرخسي بقوله: في أول الباب، مسألةٌ أيضاً بناها الصاحبان على هذه القاعدة، وهي إذا اختلف شاهدا الإجارة في مبلغ الأجر المسمى في العقد، والمدعي هو المؤاجر أو المستأجر، فشهد أحدهما بمثل ما ادعاه المدعى، والآخر بأقل أو أكثر، فعند أبي يوسف ومحمد يقضى بالأقل، وقد رجح السرخسي أن الشهادة لا تقبل، فأخذ بهذه القاعدة في المسألة الأولى، وأهملها هنا، وعلّل ذلك بأن الشاهدين في هذه المسألة لم يتفقا على شيء لفظاً فإن الخمسة غير الستة، وأبو يوسف ومحمد قضيا بالأقل باعتبار الموافقة في المعنى، وباعتبار المعنى المدعى مكذب أحدهما.

 

أما المسألة السابقة فإن الشاهدين اتفقا على الدرهم لفظاً، فالمدعى يدعي ذلك، ولكنه يدعي شيئاً آخر مع ذلك وهو نصف درهم، وأحد الشاهدين لم يسمع ذلك فلم يشهد به، ولهذا لا يصير المدعي مكذباً له، فلهذا قضى له بدرهم[156].

 

فعمل السرخسي بالقاعدة في موضع وتركها في موضع آخر، ولعلّ في هذا دليلاً على ما سبق وأن أشرنا إليه من أنها ليست قاعدة مطرّدة، بل يعمل بها إذا وافقت في الأصول.

 

4 - وهي مسألة نقلها الشوشاوي عن ابن الحاجب في (الفروع) في باب الوصايا، وهو: إذا أوصى لواحد بوصية بعد أخرى من صنف واحد، وإحداهما أكثر من الأخرى، ففيها أقوال منها أنه يأخذ بالأقل منهما[157].

 

5 - وهذه المسألة تنازع فيها الحنفية في ردّها إلى أي أصل، أقل ما قيل أو أكثر ما قيل، وهي مسألة - سبق الإشارة إليها - حدِّ البلوغ للغلام هل هو ثماني عشرة سنة، أو اثنان وعشرون، أو خمس وعشرون؟ واختار « صاحب الهداية » الأول؛ لأنه أقل ما قيل فبنى عليه الحكم للتيقن.

 

ونازعه الكمال بن الهمام وغيره، هل اليقين في بلوغ الصبي رشده أكثر ما قيل أم أقل ما قيل؟، فقال: (أقول يرد على قوله - أي المرغيناني - للتيقن به اعتراض قوي، وهو أنه لاشك أن المتيقن في بلوغ الصبي رشده إنما هو أكثر ما قيل في أشدّه من المدد، دون أقل ما قيل فيه منها، لأنه إذا بلغ الأكثر منها فقد بلغ الأقل منها دون العكس، نعم وجود الأقل في نفسه لا يستلزم وجود الأكثر بخلاف العكس، لكن ليس الكلام ههنا في وجود مدة في نفسها، بل في كون تلك المدة أشد الصبي، والمتيقن إنما هو أكثر ما قيل في أشده بلا ريب)[158] ثم رجح أن التعليل الصحيح في ما اختاره صاحب (الهداية) أن يقال: إنه بنى عليه للاحتياط لا للتيقن.

 

وبهذا المبحث أختم بحثي هذا، والله تعالى أسأله أن ينفع به، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

________________________

[1] انظر: المبسوط 26/84.
[2] انظر: المدونة 4/479.
[3] وعزاه ابن حزم لبعض الصحابة. انظر: الأحكام 2/54.
[4] انظر: المستصفى 1/216، نهاية السول 4/382، التحبير 4/1674، رفع النقاب 6/247.
[5] هو عبد الوهاب بن علي بن نصير التغلبي المالكي، أبو محمد، من مصنفاته (عيون المجالس) و(الإشراف على مسائل الخلاف) توفي سنة 422 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5/112.
[6] نقلها عنه القرافي في نفائس الأصول 9/4255.
[7] هو علي بن عقيل بن محمد الظفري البغدادي الحنبلي، أبو الوفاء، أحد أذكياء العالم، صاحب (الواضح) في أصول الفقه، و(الفنون) توفي سنة 513 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 19/447.
[8] الواضح 2/317.
[9] انظر: البحر المحيط 6/27.
[10] منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي الشافعي، صاحب (قواطع الأدلة) توفي سنة 489 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية 5/335.
[11] قواطع الأدلة 2/394.
[12] هو أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي الشافعي، آخر أصحاب ابن سريج وفاةً، له مؤلفات في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة 359 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4/306.
[13] نقله عنه المزركشي في البحر المحيط 6/27.
[14] محمد بن عبد الدايم النعيمي الشافعي، شمس الدين، من مصنفاته (شرح الألفية) في الأصول و(شرح العمدة) توفي سنة 831 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 9/286.
[15] نقله عنه المرداوي في التحبير 4/1677.
[16] الإمام الحافظ الفقيه، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي القرطبي، صاحب (المحلى) و(الإحكام في أصول الأحكام) توفي سنة 456 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 18/193.
[17] انظر: الأحكام 1/414 - 416.
[18] انظر: نفائس الأصول 9/4255.
[19] حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي، من مصنفاته (رفع النقاب عن تنقيح الشهاب) و(الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة)، توفي سنة 899 هـ. انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/316.
[20] أحمد بن إدريس القرافي المالكي، أبو العباس، شهاب الدين، صاحب (نفائس الأصول في شرح المحصول) و(الفروق)، توفي سنة 684 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام 1/95.
[21] انظر: رفع النقاب 6/246.
[22] انظر: نفائس الأصول 9/4254، 4258.
[23] انظر: المحصول مع شرحه نفائس الأصول 9/4252، نهاية السول 4/382، البحر المحيط 6/30، التحبير 4/1674.
[24] محمد بن عمر بن الحسين الرازي، فخر الدين، أبو عبد الله، صاحب (المحصول) و(التفسير) توفي سنة 606 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7/40.
[25] انظر: المحصول مع شرح نفائس الأصول 9/4252، الإبهاج 3/175، نهاية الوصول 8/4033.
[26] محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني، البصري المالكي، صاحب (التلخيص) توفي سنة 403 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3/168.
[27] نقله عنه السبكي في الإبهاج 3/175، 176.
[28] محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، أبو حامد، حجة الإسلام، صاحب (المستصفى) توفي سنة 505 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5/18.
[29] المستصفى 1/216.
[30] عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي، الأموي، الشافعي، أبو محمد، صاحب (نهاية السول في شرح منهاج الأصول) توفي سنة 772 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 6/223.
[31] عثمان بن عمر بن أبي بكر الكردي المالكي، جمال الدين، أبو عمرو، صاحب (مختصر المنتهى) توفي سنة 646 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7/405.
[32] انظر: نهاية السول 4/383، مختصر ابن الحاجب مع شرح رفع الحاجب 2/261.
[33] انظر: مذاهب العلماء في المسألة في: أحكام الفصول ص 699، التحبير 4/1675، المسودة ص 436، شرح المحلى على جمع الجوامع 2/187، البحر المحيط 6/27.
[34] أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، أبو العباس، تقي الدين، صاحب (مجموع الفتاوى) توفي سنة 728 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8/142.
[35] انظر: نفائس الأصول 9/4256، المسودة ص 436، حاشية المطبعي على نهاية السول 4/481.
[36] محمد بن عبد الواحد بن مسعود الاسكندري الحنفي، أصولي، فقيه، مفسر، من مصنفاته (شرح فتح القدير) و(التحرير) توفي سنة 861 هـ. انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 180.
[37] محب الله بن عبد الشكور البهاري الهندي، ولي قضاء عدة ولايات في الهند، من مصنفاته (سلم العلوم) في المنطق و(مسلم الثبوت) في الأصول، توفي سنة 1119 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام 5/283.
[38] هما: محمد بن محمد بن أمير حاج الحنفي، أبو عبد الله شمس الدين، تلميذ الكمال بن الهمام وشارح التحرير في كتاب سماه (التقرير والتحبير) توفي سنة 879 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام 7/29. والثاني هو: محمد أمين البخاري الحنفي، المعروف بأمير بادشاه، كان نزيلاً بمكة، وشرح التحرير في كتاب سماه (تيسير التحرير) توفي سنة 972 هـ. انظر: الأعلام 6/41.
[39] تيسير التحرير 3/258، التقرير 3/113.
[40] مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/241 - 242.
[41] أحمد بن علي، أبو بكر الجصاص، إمام الحنفية في عصره، من مصنفاته (أحكام القرآن)، و(شرح مختصر الكرخي) توفي سنة 370 هـ. انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 28.
[42] انظر: الأم 6/113.
[43] أحكام القرآن 3/234.
[44] علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني، إمام، فقيه، مجتهد المذهب، صاحب (الهداية شرح بداية المبتدي) توفي سنة 593 هـ. انظر ترجمته في: الفوائد البهية 141.
[45] الهداية مع شرح فتح القدير 8/201.
[46] عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، أبو نصير، صاحب (جمع الجوامع) و(رفع الحاجب عن ابن الحاجب) توفي سنة 771 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8/380.
[47] انظر: نفائس الأصول 9/4254، الإبهاج 3/176.
[48] هو الاتفاق في الحكم مع الاختلاف في المأخذ، لكن يصير الحكم مختلفاً فيه بفساد أحد المأخذين، مثاله: انعقاد الإجماع على انتقاض الطهارة عند وجود القيء والمسِّ جميعاً، ومأخذ الانتقاض عند الحنفية هو القيء، وعند الشافعية المس، فلو قدِّر عدم كون القيء ناقضاً، فالحنفية لا يقولون بالانتقاض، فلم يبق الإجماع، ولو قدِّر عدم كون المس ناقضاً فلم يبق الإجماع أيضاً. انظر التعريفات ص 25، وسيبين ابن تيمية وجه كونه إجماعاً مركباً فيما يلي من كلامه.
[49] المسودة ص 438.
[50] المسودة ص 436.
[51] الأحكام 2/48.
[52] حاشية البناني على شرح المحلى 2/187.
[53] محمد بن بخيت المطيعي الحنفي، مفتي الديار المصرية، من مصنفاته (القول المفيد في علم التوحيد) و(حاشية على نهاية السول) توفي سنة 1354 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام 6/50.
[54] انظر: حاشية المطيعي على نهاية السول 4/383.
[55] المسودة ص 438، وانظر كذلك حاشية المطيعي على نهاية السول 4/381.
[56] نفائس الأصول 9/4255.
[57] الحسن بن أبي الحسن البصري، أبو سعيد، تابعي جليل، توفي سنة 116 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2/48.
[58] الأحكام 2/53.
[59] وهو قوله تعالى في سورة النساء - 92 -: { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله }.
[60] الحديث أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم رقم (111)، والترمذي، باب الديات، باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر، رقم (1412) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[61] انظر هذا الأثر كذلك في سنن الدارقطني، كتاب الحدود والديات رقم (3220) و(3221). وانظر الكلام عن هذا الأثر وطرقه في التلخيص الحبير 4/25.
[62] انظر: الأم 6/105.
[63] الإمام العلم الحافظ محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري القرشي، تابعي، توفي سنة 124 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 5/326.
[64] الصحابي الجليل معاوية بن صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، أسلم عام الفتح، توفي سنة 60 هـ. انظر ترجمته في: أسد الغابة 5/201.
[65] انظر هذا الأثر في سنن البيهقي، كتاب الديات، باب دية أهل الذمة، رقم (16354) وقد ردّه البيهقي لكونه من مراسيل الزهري.
[66] والزهري على جلالته، إلا أن مراسيله منكرة، يقول يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ وكل ما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يحب أن يسميه، ويقول الذهبي: مراسيل الزهري كالمعضل، لأنه يكون قد سقط منه اثنان. انظر ما قيل في الزهري في: سير أعلام النبلاء 5/338.
[67] الإمام القدوة الثبت الفضيل بن عياض التميمي اليربوعي الخراساني، أبو علي، ثقة توفي سنة 187 هـ بمكة.انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 8/423.
[68] منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي الكوفي حافظ ثقة من أثبت الناس، توفي سنة 132 هـ. انظر: طبقات الحفاظ ص 59.
[69] ثابت بن هرمز الكوفي، أبو المقدام الحدّاد، مولى بكر بن وائل ثقة، أخرج له أصحاب السنن بعض الأحاديث. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/15.
[70] سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، أبو محمد، عالم أهل المدينة وسيد التابعين، توفي سنة 94 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 4/217.
[71] انظر هذا الأثر بهذا الطريق برواية البيهقي عن الربيع عن سليمان بن الشافعي في سنن البيهقي، كتاب الديات، باب دية أهل الذمة رقم (16338)، وسعيد بن المسيب لم يلق عمر رضي الله تعالى عنه.
[72] انظر: الأم 7/324.
[73] أن سعيداً زعم أنه سمعه، وإن سلِّم بانقطاعه، فهو موصول بحديث عثمان رضي الله تعالى عنه.
[74] عمرو بن شعيب بن محمد بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص، إمام، محدث ثقة، احتج به أرباب السنن الأربعة، توفي سنة 118 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 5/165.
[75] انظر هذا الحديث في سنن البيهقي، كتاب الديات، باب دية أهل الذمة رقم (16345)، وأخرجه بلفظ آخر أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب دية الذمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. والحديث وإن ضعَّفه الشافعي لكن احتج به الإمام أحمد رحمه الله، وصححه الخطابي في معالم السنن 4/37، وصححه ابن تيمية في الفتاوى 20/385.
[76] هو عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي القرشي، أبو حفص، وصف بأنه خامس الخلفاء الراشدين لعدله وإنصافه، توفي سنة 101 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2/7.
[77] عن طريق الزهري أيضاً أن عمر بن عبد العزيز قضى في النصف وألقى ما كان جعل معاوية. انظر: سنن البيهقي، كتاب الديات، باب دية أهل الذمة رقم (16354).
[78] الأم 7/324.
[79] انظر: الأم 8/169، البحر المحيط 6/55.
[80] نقله عنه صاحب البحر المحيط 6/28، ونقله ابن حزم في الأحكام 2/54 عن بعض الشافعية.
[81] البحر المحيط 6/28.
[82] انظر: البحر المحيط 6/28.
[83] عبد السلام بن عبد الله بن الحضر بن تيمية الحنبلي، أبو البركات، صاحب (المنتقى من أحاديث الأحكام) و(المحرّر) توفي سنة 652 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7/443.
[84] المذهب أنه يجب فيه أقل القيمتين، ورواية أنهما تسقطان للتعارض، وقيل: يقرع، وغير ذلك. انظر: الإنصاف 29/210.
[85] المسودة ص 436.
[86] أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم الجعدي، من أصحاب مالك، انتهت إليه الرئاسة بمصر بعد ابن القاسم، توفي سنة 204 هـ. انظر ترجمته في: الديباج المذهب ص 142.
[87] نقله عنه القرافي في نفائس الأصول 9/4255.
[88] نفائس الأصول 9/4256.
[89] أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الحافظ العلامة الفقيه، صاحب (الإجماع) توفي سنة 318 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 9/268.
[90] إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزأبادي الشيرازي، جمال الدين، صاحب (الهمع) و(المهذب) توفي سنة 446 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5/323.
[91] انظر: سنن البيهقي 8/132، شرح الهمع 2/993.
[92] نقلها عنه الزركشي في البحر المحيط 6/28.
[93] قواطع الأدلة 3/394.
[94] المصدر نفسه.
[95] وهو فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي، حفظه الله ورعاه.
[96] قواطع الأدلة 3/396.
[97] رفع الحاجب 2/260.
[98] عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، أبو المعالي، صاحب (النهاية) في الفقه. و(البرهان) في أصول الفقه، توفي سنة 478 هـ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 18/468.
[99] وصفه بذلك التاج السبكي في الأشباه والنظائر 2/137.
[100] محمد بن علي بن محمد الشوكاني، من كبار علماء اليمن، صاحب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار)، و(إرشاد الفحول) توفي سنة 1125 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام 6/298.
[101] إرشاد الفحول ص 215.
[102] المسودة ص 438.
[103] البحر المحيط 6/28.
[104] أحمد بن الحسين البيهقي الخراساني، أبو بكر، محدث، ثقة، فقيه، ناصر مذهب الشافعي، من مصنفاته (السنن الكبرى) و(السنن الصغرى)، توفي سنة 458 هـ.
[105] ومذهبه أخذه عن مالك وفقهاء المدينة، انظر: الأم 6/113.
[106] عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن، من فقهاء الصحابة، توفي سنة 32 هـ. انظر: أسد الغابة 3/381.
[107] رواه البيهقي في كتاب الديات، باب من قال هي أخماس، وجعل أحد أخماسها بني المخاض دون بني اللبون رقم (16157) و(16158).
[108] وهو حديث أخرجه مالك في الموطأ، كتاب العقول، باب ذكر العقول، رقم (1647)، والبيهقي في كتاب الديات، باب دية النفس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن في النفس الدية مئة من الإبل) والحديث وإن كان فيه مقال من حيث السند، لكن الأئمة صححوه من حيث الشهرة. انظر: التلخيص الحبير 4/18.
[109] سنن البيهقي 8/132.
[110] فهو مشكوك فيه عند الحنفية غير متيقن بطهارته ولا بنجاسته، فإذا اعتبر سؤره بعرقه دلّ على طهارته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب أتاناً، ولا يبعد أن يصل عرقه إلى جسده صلى الله عليه وسلم، وإذا اعتبر بلبنه دلّ على نجاسته في المذهب، والأصل الذي قصده الشيخ المطيعي هو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الهرة من كونها من الطوافين والطوافات والحمار يخالط الناس، فلوجود هذه البلوى الحق بهذا الأصل. انظر: المبسوط 1/49.
[111] انظر: حاشية المطيعي 4/381.
[112] أي البيضاوي، وهو عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي، قاضي القضاة، ناصر الدين صاحب (التفسير) و(المنهاج) في أصول الفقه، توفي 685 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام 4/248.
[113] انظر: حاشية المطيعي على نهاية السول 4/381.
[114] انظر: الأحكام لابن حزم 2/47.
[115] انظر: قواطع الأدلة 3/395 - 356.
[116] القول بانعقادها بثلاثة هو قول الحنفية، وقال ربيعة باثني عشر رجلاً، وعند الشافعي وأحمد تنعقد بأربعين. انظر: المبسوط 2/24، المغني 2/204، المهذب 1/54.
[117] انظر: المحصول مع شرح نفائس الأصول 9/4252، نهاية السول 4/384، البحر المحيط 6/29، التحبير 4/1677.
[118] محمد بن علي بن إسماعيل القفال، الشاشي الكبير، أبو بكر، له (شرح الرسالة) توفي سنة 336 هـ. انظر ترجمته في: تهذيب الأسماء واللغات 2/282.
[119] وهو حديث مسروق (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، رقم (632) وأبو داود في كتاب الزكاة باب زكاة السائمة، رقم (1575)، وذكر الشافعي في الأم أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من نصارى نجران أكثر من دينار. انظر: الأم 4/179، والحديث حسنه الترمذي.
[120] نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 6/27.
[121] وكلام الشافعي في الأم 4/179 واضح أنه يرجح رواية الدينار.
[122] نهاية السول 4/380.
[123] محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، بدر الدين، يلقب بالمنهاجي، صاحب (البحر المحيط) و(المنثور في القواعد) توفي سنة 794 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8/572.
[124] البحر المحيط 6/29.
[125] محمد بن أبي بكر بن أيوب الحنبلي، ابن قيم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله، صاحب (زاد المعاد في هدي خير العباد) و(إعلام الموقعين) توفي سنة 751 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8/287.
[126] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 12/211.
[127] وهو الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، رقم (280) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات، وعفّروه الثامنة بالتراب). وانظر: البحر المحيط 6/30، نهاية السول 4/384.
[128] انظر: الاحكام 2/48، المسودة ص 436.
[129] انظر: المحصول مع شرحه نفائس الأصول 9/4253، نهاية السول 4/385، البحر المحيط 6/29، التحبير 4/1678.
[130] انظر المراجع السابقة.
[131] انظر: قواطع الأدلة 3/396.
[132] رفع الحاجب 2/260.
[133] انظر: نفس المرجع، وانظر كذلك البحر المحيط فقد نقله عنه بتصرف 6/30.
[134] قواطع الأدلة 3/395.
[135] جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو عبد الله، شهد العقبة الثانية، واختلف في شهوده بدراً، وشهد أحداً، من المكثرين في رواية الحديث توفي سنة 74 هـ. انظر: أسد الغابة 1/492.
[136] أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الجمعة، باب ذكر عدد الجمعة رقم (15631)، والحديث ضعيف جداً. انظر: تلخيص الحبير 2/55.
[137] انظر: المغني 2/204.
[138] الوسيط 2/266.
[139] انظر: نهاية المحتاج 7/439.
[140] عند مالك أنه لا تقطع يد من سرق أقل من ربع دينار من الذهب وإن كان ذلك أكثر من ثلاثة دراهم، ولا من سرق أقل من ثلاثة دراهم وإن كان ذلك أكثر من ربع دينار. انظر: مواهب الجليل 6/306.
[141] أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: { والسارق والسارقة... } رقم (6792) ومسلم كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، رقم (1686) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
[142] ومنهم من قدّره بخمسة دراهم، وعشرة، وغير ذلك. انظر: المعنى 12/421، فتح الباري 12/153.
[143] الهداية مع شرح فتح القدير 5/122.
[144] محمد بن مفلح بن محمد المقدسي الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، صاحب (الفروع) و(أصول الفقه)، توفي سنة 763 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8/340.
[145] أصول بن مفلح 2/452.
[146] انظر هذه المسألة في: نفائس الأصول 9/4257، جمع الجوامع 2/352، البحر المحيط 6/31، إرشاد الفحول ص 215.
[147] أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 7/209 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير 1/189.
[148] انظر كلام الرازي والزركشي في المحصول مع شرح نفائس الأصول 9/4257، البحر المحيط 6/31.
[149] الأم 7/52 - 53.
[150] الخرص: هو حرز ما على النخل من الرطب تمراً، وما على الشجر زبيباً. انظر: مختار الصحاح مادة (خرص).
[151] انظر: المجموع 5/481.
[152] هو محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، شمس الأئمة، أبو بكر، أحد الفحول الأئمة الكبار صاحب (المبسوط) و(أصول الفقه) توفي سنة 483 هـ. انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 158.
[153] المبسوط 16/8.
[154] يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، القاضي، أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، توفي سنة 182 هـ. انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 225.
[155] محمد بن الحسن بن واقد الشيباني، أبو عبد الله، صاحب أبي حنيفة وناشر علمه، صاحب (الجامع الصغير)، توفي سنة 189 هـ. انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 163.
[156] انظر: المبسوط 16/7 - 8.
[157] رفع النقاب 6/248.
[158] انظر: شرح فتح القدير 8/201 - 202.